الخطبة الأولى: إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَغفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيْهِ وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسْولُهُ، صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَليْهِ وَعَلَى كُلِ رَسْولٍ أَرْسَلَهُ.
أما بَعْدُ عِبَادَ الله أُوصيكُم ونَفسي بِتَقوى اللهِ العَظيم، إتقوا اللهَ حَقَ تُقَاتِهِ ولا تَمُوتُنَ إلا وأنتُم مُسلِمُون. قال الله تعالى (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمُ شَعَآئِرَ اللهِ فَاِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ) سورة الحج /32.
اعلموا اخوةَ الإيمان أَنه مِن شَعَائِرِ دِينِ اللهِ أن نُعَظِمَ أيامًا جَاءَ الشَرعُ الكريم بتعظيمها فيوم الجُمُعَةِ هو أفضلُ أيام الأسبوع، وأفضلُ الليالي هي ليلةُ القَدرِ، وأفضلُ الأيامِ يومُ عَرَفَة، ومِنَ الأيام التي عَظَّمَ اللهُ سبحانَهُ وتعالى يومُ عاشوراء.
عاشوراء، هو يوم العاشرِ من أيامِ شهرِ المُحَرَّم، يوم خَصَّصَه اللهُ تعالى بأَن قَبِلَ فيهِ تَوبَةَ سيِّدنا ءادَمَ عليهِ السَّلام بَعدَ أن ارتَكَبَ ذلك الذنب الذي هُوَ لَيسَ مِنَ الكَبَائِرِ ولَيسَ كُفرًا ولا هُوَ صَغيرةٌ تَدلُ عَلىَ خِسَّةٍ ودَنَاءةٍ. إنما كانت معصيةً منَ الصغائرِ التي ليس فيها ذنبٌ عظيم. حيثُ إنَ سيدنا ءادمَ عليه السلام كان أكل من شجرة من أشجار الجنة والله تعالى كان قد نهاهُ عنها. قال الله تعالى (وَعَصَىَ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيهِ وَهَدَى) / طه 121-122. وكانت تلك التوبة في يوم العاشِرِ من شهر محرم أي في عاشوراء. وكذلكَ في هذا اليوم العظيم عاشوراء رست سفينة سيدنا نوح عليه السلام فاستوت واستقرت على جبلِ "الجودي" قرب مدينة الموصل في العراق بعد أن مكثت حوالي مائة وخمسين يومًا على الماء، وكان فيها نبي الله نوح عليه السلام ومن معه من المؤمنين والبهائم التي أمر الله سيدنا نوحًا أن يجعلها على سفينته.
وفي يوم عاشوراء، نجى الله سبحانه وتعالى سيدنا موسى عليه السلام والذين معه واتبعوه من بني إسرائيل، حيث كانوا يرزحون تحت حكم فرعون وكان فرعون جبارًا طاغيًا إدعى الألوهية وقال لأهل مصر"أنا ربكم الأعلى".فأرسل اللهُ النبيَّ موسى وأخاهُ هارون عليهما السلام إلى فرعون، فلما قَابلاهُ دَعياهُ إلى دينِ الإسلام وأمراه بعبادة الله تعالى وحده. وقد أظهر الله تعالى معجزات عديدة على يد نبيه موسى عليه السلام ، ولكن فرعون عاند ولم يؤمن وأظهر جبروته. فأمر الله تعالى سيدنا موسى أن يخرج بمن ءامن معه واتَّبعه من بني إسرائيل من مصر، فسار بهم وعددهم ذلك اليوم ستمائة ألف. ولحق بهم فرعون الطاغية ومعه مليون وستمائة ألف من الجنود مُجهزين بخيلهِم وسلاحهِم ليُبيدَهُم.وكان هذا الِلحَاق عند شروق الشمس فلما تراءى الجمعانِ وعَايَنَ كل من الفريقين الآخر وتحقَقَهُ، ورأى قومُ موسى عليهِ السلام فرعون وجنوده وجيوشه وعدته دخلهم الفزع والخوف والهلع، وقالوا لنبيهم موسى عليه السلام: إنَّا لَمُدرَكون. ولكن موسى تكلم معهم بكلامٍ يُهدئُ بالهم ويزيل الإضطراب من نفوسهم. ولما وصلوا إلى البحر وكان يتلاطم بأمواجه الهائلة أوحى اللهُ عَزَّ وّجَلّ إلى موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه، فلما ضربه إنفلق بإذن الله اثني عشر فِرقًا بين كلِ فرقين طريقٌ يبسٌ. وهكذا إجتاز موسى عليه السلام ومن كان معهُ منَ المؤمنين البحرَ. ثم جاء فرعونُ بعددهِ وعدَّتِهِ ووجد البحرَ صار فيه شقوق، فقال مغرورًا بقوته وجبروته: لنلحقهم وندركهم. فلما دخل البحر أمَرَ اللهُ عزّ وجلّ البحرَ أن يلتطم عليهم، فالتطم عليهم فهلك هو وجنوده غرقًا في البحر. فقال بعض أتباعه إنه اختفى ولم يمت. فأظهرَ اللهُ تعالى جسدهُ فوُجِد ميتًا منتفخًا.
لقد حضَ النبي الأعظم صلى اللهُ عليه وسلم على صيامِ العاشر من مُحرَّم لمَا لهُ من فضل عند الله تعالى، قال الله تعالى قال عليه الصلاة والسلام "أفضل الصيام بعد رمضان شهرُ اللهِ المُحرَّم وأفضلُ الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" رواه مسلم. وصيامُ عاشوراء سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال عندما سئل عن صوم يوم عاشوراء "يُكَفِّرُ السنةَ الماضية" رواه مسلم.
وقد اتفق العلماء الأجلاء على أنّ صيام يوم عاشوراء سنة مستحبة، وثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسئلوا عن ذلك، فقالوا: هذا اليوم أظهر اللهُ فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون فنحن نصومه تعظيمًا له. فقال النبي صلى اللهُ عليه وسلم: نحن أولى بموسى منكم. وأمر بصومه. رواه مسلم. قال أهل العلم: أوحى اللهُ تعالى لنبيِّه بصحةِ ما قالهُ اليهود عن ذاك اليوم فأمر بصومه.
وصيام عاشوراء ليس فرضًا واجبًا كما قال العلماء لما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال في يوم عاشوراء "إن هذا اليوم يومُ عاشوراء ولم يكتُب اللهُ عليكُم صيامَه فمن شاء فليصُمه ومن شاء فليُفطر" رواه البخاري ومسلم. ويسن أيضَا صيام يوم تاسوعاء وهو التاسعُ من شهر محرم لقوله عليه الصلاة والسلام: "لئن بقيتُ إلى العامِ القابلِ لأصومَنَ التاسعَ مِن محرم"، ولكنه عليه الصلاة والسلام توفاهُ اللهُ عزّ وجلّ قبل ذلك.
ولقد قال العُلماءُ الأجلاءُ إن الحكمةَ من صومِ يومِ تاسوعاء مع عاشوراء الإحتياطُ له لإحتمالِ الغلطِ في أولِ الشهر، ولمخالفةِ اليهودِ فإنهم يصومونَ العاشَر من مُحرم فقط، والحكمة أيضًا الاحتراز من إفراده بالصوم كما في يوم الجمعة، فإن لم يصم معه تاسوعاء سُن أن يصوم معه الحادي عشر، بل لقد نصّ الإمام الشافعي رضي الله عنه في كتبه "الأم" و "الإملاء" على صوم التاسع والعاشر والحادي عشر من محرم.
وفي العاشرِ من شهرِ مُحرمٍ من السنةِ الرابعةِ للهجرةِ حصلت غزوة ذات الرقاع، حيث خرج القائد الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من المدينة المنورة ومعه من أصحابه سبعمائة مقاتل، يُريدُ قبائل من نجد وهم بنو محارب وبنو ثعلبة من غطفان، وكانوا قد غدروا بأصحاب النبي صلى اللهُ عليه وسلم وقتلوا سبعين من الدعاة الذين أرسلهم النبي صلى اللهُ عليهِ وسلم للدعوة إلى دين الإسلام وتعليم الناس الخير.
وبعد أن تهيأ المشركون لقتال النبي صلى اللهُ عليه وسلم وأصحابه لما علموا بخروجه، وتقارب الفريقان قذف اللهُ الرُعبَ في قلوبِ قبائلِ المشركين، وكانوا جموعًا كثيرة، فتفرقوا بعيدًا عن المسلمين وهربوا تاركينَ وراءهم نساءهم، فلم تقع حرب وقتال وكفى اللهُ عزّ وجلَّ نبيَّه ومن معه من الصحابة شرَّ هذه الجموع الكافرة، وقد سميت هذه الغزوةُ بذات الرقاع لأن الصحابةَ رضوان الله عليهم لفّوا على أرجلهم الخِرَق بسبب ما أصاب أقدامهم في هذه الغزوة من جراحٍ تساقطت فيها أظافرهم لما اصطدمت بالحجارة والصخور. في هذا عبرة كيف كان الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يواجهون الصعاب والمشقات بصبر وثبات لنصرة الدين القويم.
وفي اليوم العاشر من شهر محرم سنة إحدى وستين من الهجرة جرت حادثة مروعة مفجعة، ومصيبةٌ كبرى فظيعة ألمت بالمسلمين وأفجعتهم، وملأت القلوب حزنًا وأسى ومرارة. ففي يوم الجمعة في العاشر من شهر محرم قُتِلَ الإمام أبو عبد الله الحُسينُ بنُ عليٍ رضي اللهُ عنهُ حفيدُ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسَلَم وابن ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنه بأوامر من يزيد بن معاوية. ولقد كان سيدنا الحسين من الرجال العظام الذين نالوا شرف الشهادة، وكانوا في قافلة الشهداء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فنالوا رضى اللهِ وثوابَهُ، وأعد لهم في الآخرة الثواب الجزيل والدرجاتِ العُلى في جنات النعيم. رحمك الله يا حفيد رسول الله، أيها المجاهد الكبير، والعالم الورع، والتقي النقي. رحمك الله وأكرم مثواك وجزاك عن أمة محمد خير الجزاء.
هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم.
الخطبة الثانية: إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَغفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيْهِ وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسْولُهُ، صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَليْهِ وَعَلَى كُلِ رَسْولٍ أَرْسَلَهُ.
أما بعد، فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله العلي العظيم القائل في كتابه الكريم (إِنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ والإحسَانِ وإِيتَآءِ ذِي القُربَى ويَنهَىَ عَنِ الفَحشَآءِ والمُنكَرِ والبَغِييَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ) سورة النحل 90. واعلَموا أنَ اللهَ تَعَالَى أَمَرَكُم بِأَمرٍ عَظيمْ أَمَرَكُم بِالصَّلاةِ وَالسَلامِ عَلَى نَبِيِّهِ المُصّطَفَى الكَريمْ فَقَالَ رَبُنَا وَهُوَ أَصْدَقُ القَائِلين (إِنَّ اللهَ وَمَلآئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) سورة الأحزاب / 56.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى ءَالِ إِبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحمَّدٍ وَعَلَى ءالِ مُحمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى ءَالِ إِبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. اللَّهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا فاغفرِ اللّـهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا اللَّهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةًوقِنا عذابَ النارِ اللَّهُمَّ اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ اللَّهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنا شَرَّ ما نتخوَّفُ.عبادَ اللهِإِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، أُذكُروا اللهَ العظيمَ يذكرْكُمْ واشكُروهُ يزِدْكُمْ، واستغفروه يغفِرْ لكُمْ واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْأمرِكُمْ مخرَجًا، وَأَقِمِ الصلاةَ.