ما حكم إرضاع المرأة لرجل أجنبي بالمباشرة؟
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين.
وبعد، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن سالما مولى أبي حذيفة كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم، فأتت، تعني ابنة سهيل، النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن سالما قد بلغ ما يبلغ الرجال وعقل ما عقلوا، وإنه يدخل علينا، وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم [أرضعيه تحرمي عليه، ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة]، فرجعت فقالت: إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة. رواه مسلم، وابنة سهيل هي سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي ثم العامري، امرأة أبي حذيفة.
وقد أجاب جمهور أهل العلم عن قصة سالم بأجوبة: منها أنه حكم منسوخ، ومنها أنه خاص بسالم وامرأة أبي حذيفة. ويدل على ذلك ما جاء في بعض الروايات عند مسلم عن ابن أبي مليكة أنه سمع هذا الحديث من القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة رضي الله عنها، قال ابن أبي مليكة: فمكثت سنة أو قريبا منها لا أحدث به وهبته، ثم لقيت القاسم فقلت له: لقد حدثتني حديثا ما حدثته بعد، قال: فما هو ؟ فأخبرته، قال: فحدثه عني أن عائشة أخبرتنيه. وفي رواية النسائي: فقال القاسم: حدث به ولا تـهابه.
قال ابن عبد البر في التمهيد: هذا يدلك على أنه حديث ترك قديما ولم يعمل به ولم يتلقه الجمهور بالقبول على عمومه بل تلقوه على أنه خصوص، والله أعلم، وممن قال: رضاع الكبير ليس بشيء، ممن رويناه لك عنه وصح لدينا عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وابن عمر وأبو هريرة وابن عباس وسائر أمهات المؤمنين غير عائشة وجمهور التابعين وجماعة فقهاء الأمصار منهم الثوري ومالك وأصحابه والأوزاعي وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد والطبري ومن حجتهم قوله صلى الله عليه وسلم [إنما الرضاعة من المجاعة ولا رضاع إلا ما أنبت اللحم والدم].
وفي شرح الزرقاني على الموطأ 3/ ما جاء في الرضاعة بعد الكبر: قال الحافظ ابن عبد البر: هذا يدل على أنه حديث ترك قديما ولم يعمل به، ولا تلقاه الجمهور بالقبول على عمومه، بل تلقوه على أنه خصوص، وقال ابن المنذر لا يبعد أن يكون حديث سهلة منسوخا. وقال الحافظ الدارمي عقب ذكره الحديث في سننه: هذا لسالم خاصة.
وبذلك صرحت بعض الروايات، ففي صحيح مسلم عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقول: أبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة، وقلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا. زاد أبو داود: حتى يرضع في المهد.
قال الإمام أبو عبد الله المـازري في الـمُعْلِم بفوائد مسلم، كتاب الرضاع، باب رضاعه الكبير، عن حديث: أرضعيه تـحـرُمي عليه: وحمله الجمهور على أن ذلك من خصائص سهلة، وقد ثبت أن أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم منعن أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد، وقلن لعائشة: إنه خاص في رضاعة سالم وحده. ثم قال عن حديث: إنما الرضاع ما فتق الأمعاء: وقد نبه صلى الله عليه وسلم على اعتبار ما فتق الأمعاء، وهذا يوجد في اللبن الواصل إلى الجوف صبًا في الحلق أو التقامًا للثدي، ولعله هكذا كان رضاع سالم، يصبه في حلقه دون مسه ببعض أعضائه ثدي امرأة أجنبية.
قال القاضي عياض في إكمال الـمُـعْلِم بفوائد مسلم، كتاب الرضاع، باب رضاعه الكبير (4/640-643): قوله في الحديث [أرضعيه يذهب ما في نفس أبي حذيفة]، وفي الطريق الآخر [تـحـرُمي عليه] قد حملها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص كما تقدم، بدليل الكتاب لقوله {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} البقرة:233، وبدليل الحديث الآخر، قوله [لا رضاع بعد فطام]، وقوله [إنما الرضاعة من المجاعة]، ولأن الخطاب في سالم قضية في عين لم يأت في غيره، وسبق له تبنّ وصفة لا توجد بعد في غيره، فلا تقاس عليه، مع ما لأمهات المؤمنين من شدة الحكم في الحجاب واختصاصهن بالتغليظ في ذلك، وقد جاء في الموطأ والبخاري وغيرهما أن أبا حذيفة كان تبناه في الجاهلية. ثم قال القاضي: قال بعضهم: وحملوا ما جاء في ذلك من حديث سالم على الخصوص أو على النسخ.
قال النووي في شرح مسلم كتاب الرضاع، باب رضاعة الكبير (ج/ص: 10/31): واختلف العلماء في هذه المسألة: فقالت عائشة وداود: تثبت حرمة الرضاع برضاع البالغ كما تثبت برضاع الطفل لهذا الحديث. وقال سائر العلماء من الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار إلى الآن: لا يثبت إلا بإرضاع من له دون سنتين. إلا أبا حنيفة فقال: سنتين ونصف. وقال زفر: ثلاث سنين. وعن مالك رواية: سنتين وأيام. واحتج الجمهور بقوله تعالى {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} [البقرة: 233] وبالحديث الذي ذكره مسلم بعد هذا [إنما الرضاعة من المجاعة]. وبأحاديث مشهورة، وحملوا حديث سهلة على أنه مختص بها وبسالم، وقد روى مسلم عن أم سلمة وسائر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهن خالفن عائشة في هذا، والله أعلم.
ثم قال- أي النووي- : قوله صلى الله عليه وسلم: (أرضعيه) قال القاضي-أي عياض-: لعلها حلبته ثم شربه من غير أن يمس ثديها ولا التقت بشرتاهما، وهذا الذي قاله القاضي حسن. ويحتمل أنه عفى عن مسه للحاجة كما خص بالرضاعة مع الكبر، والله أعلم.
قال الزرقاني في شرحه على الموطأ: إذ لا يجوز رؤية الثدي ولا مسه ببعض الأعضاء.
وقد وردت بذلك رواية: أخرجها ابن سعد في الطبقات عن الواقدي عن محمد بن عبد الله عن أبيه قال: "كانت سهلة تحلب في مسعط أو إناء قدر رضعته فيشربه سالم في كل يوم حتى مضت خمسة أيام، فكان بعد ذلك يدخل عليها وهي حاسر رأسها رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهلة. وفي سندها الواقدي.
وأخرج عبد الرازق في مصنفه، باب رضاع الكبير (7458): عن ابن جريج قال: سمعت عطاء يسأل، قال له رجل «سقتني امرأة من لبنها بعدما كنت رجلا كبيرا، أأنكحها؟». قال: «لا». قلت: «وذلك رأيك؟». قال: «نعم» قال عطاء: كانت عائشة تأمر بذلك بنات أخيها».
وقال أبو عمر ابن عبد البر في التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (8/ 257): هكذا إرضاع الكبير كما ذكر يحلب له اللبن ويسقاه وأما أن تلقمه المرأة ثديها كما تصنع بالطفل، فلا، لأن ذلك لا يحل عند جماعة العلماء. وقد أجمع فقهاء الأمصار على التحريم بما يشربه الغلام الرضيع من لبن المرأة وإن لم يمصه من ثديها.
وقد عرف الشربيني الرضاع شرعا بأنه (اسم لحصول لبن امرأة أو ما يحصل منه في معدة طفل أو دماغه). وفي كتاب الروض المربع للحنابلة:كتاب الرضاع، وشرعًا: مص من دون الحولين لبنا ثاب عن حمل أو شربه أو نحوه. وقال القرطبي في "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (4/ 188): وقد اعتضد الجمهور على الخصوصية بأمور، منها: -قاعدة الرضاع، فإن الله تعالى قد قال {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]. فهذه أقصى مدة الرضاع المحتاج إليه عادة، المعتبر شرعا، فما زاد عليه بمدة مؤثرة غير محتاج إليه عادة، فلا يعتبر شرعا؛ لأنه نادر، والنادر لا يحكم له بحكم المعتاد-قاعدة تحريم الاطلاع على العورة، فإنه لا يختلف في أن ثدي الحرة عورة، وأنه لا يجوز الاطلاع عليه، لا يقال: يمكن أن يرضع ولا يطلع، لأنا نقول: نفس التقام حلمة الثدي بالفم اطلاع، فلا يجوز.
وقال الحافظ عبد الرحيم العراقي في طرح التثريب في شرح التقريب (7/349): وجعل أبو العباس القرطبي ذلك دليلا على الاختصاص به لأن القاعدة تحريم الاطلاع على العورة، ولا يختلف في أن ثدي الحرة عورة لا يجوز الاطلاع عليه، قال: ولا يقال يمكن أن يرضع، ولا يطلع لأنا نقول نفس التقام حلمة الثدي بالفم اطلاع فلا يجوز.اهـ ثم قال الحافظ العراقي: الحق ما ذكرناه أولا من شربه محلوبا، وقد قال ابن عبد البر بعد حكايته قول رجل لعطاء سقتني امرأة من لبنها، وأنا رجل، هكذا رضاع الكبير كما ذكر عطاء يحلب له اللبن، ويسقاه، وأما أن تلقمه المرأة ثديها كما يصنع بالطفل فلا؛ لأن ذلك لا يحل عند جماعة العلماء. وقد أجمع فقهاء الأمصار على التحريم بما يشربه الغلام الرضيع من لبن المرأة، وإن لم يمصه من ثديها.
وقال ابن قتيبة الدينوري في كتابه:تأويل مختلف الحديث ( ص308 ): فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحلها عنده وما أحب من ائتلافهما ونفي الوحشة عنهما أن يزيل عن أبي حذيفة هذه الكراهة ويطيب نفسه بدخوله فقال لها: أرضعيه، ولم يرد ضعي ثديك في فيه كما يفعل بالأطفال ولكن أراد احلبي له من لبنك شيئا ثم ادفعيه إليه ليشربه ليس يجوز غير هذا لأنه لا يحل لسالم أن ينظر إلى ثدييها إلى أن يقع الرضاع فكيف يبيح له ما لا يحل له وما لا يؤمن معه من الشهوة.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه على البخاري: (9/ 148): وذهب الجمهور إلى اعتبار الصغر في الرضاع المحرم وقد تقدم ضبطه، وأجابوا عن قصة سالم بأجوبة: منها أنه حكم منسوخ وبه جزم المحب الطبري في أحكامه.اهـ،ثم قال الحافظ: ومنها دعوى الخصوصية بسالم وامرأة أبي حذيفة، والأصل فيه قول أم سلمة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة، وقرره ابن الصباغ وغيره.
وبعد كل هذه النصوص الصريحة والواضحة يظهر جليا لكل منصف أن الرضاع الذي يثبت به التحريم هو ما كان في الصغر دون الكبر، وأن ذاك الحديث خاص بسالم دون غيره، وأنه يحرم الاطلاع على العورات، وأن ثدي الحرة عورة لا يجوز الاطلاع عليه، وبالأولى يحرم مسه من قبل أجنبي.