حديث: خلق الله ءادم على صورته
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم [يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبعون ما كانوا يعبدون وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله عز وجل في غير الصورة التي كانوا يعرفون فيقول: أنا ربكم. فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم في الصورة التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا]. ولفظ البخاري [فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم فيقولون أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء فيقول هل بينكم وبينه ءاية تعرفونه؟ فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه فيسجد لـه كل مؤمن ويبقى من كان يسجد رياء وسمعة فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا]. الحديث
تمسك بهذا الحديث مشبهة العصر تبعا لشيخهم ابن تيمية وسلفه اليهود فأثبتوا لله صورة حقيقية وتحولا من حال إلى حال ولا حجة لهم فيه لقيام الدليل العقلي على أن الله تعالى منـزه عن الجسمية لأنه لو كان الله تبارك وتعالى جسما لكان صورة وعَرَضا فجاز عليه ما يجوز على الأجسام وافتقر إلى صانع، فلا يبقى إلا التأويل. قال الإمام أبو سليمان الخطابي فيما نقله البيهقي في الأسماء والصفات ما نصه [وأما ذكر الصورة في هذه القصة فإن الذي يجب علينا وعلى كل مسلم أن يعلمه أن ربنا ليس بذي صورة ولا هيئة فإن الصورة تقتضي الكيفية وهي عن الله وعن صفاته منفية وقد يتأول معناها على وجهين أحدهما: أن تكون الصورة بمعنى الصفة كقول القائل صورة هذا الأمر كذا وكذا يريد صفته فتوضع الصورة موضع الصفة، والوجه الآخر: أن المذكور من المعبودات في أول الحديث إنما هي صور وأجسام كالشمس والقمر والطواغيت ونحوهما ثم لما عطف عليها ذكر الله سبحانه خرج الكلام فيه على نوع من المطابقة ـ قال الكوثري: أي صنعة المشاكلة في علم البديع ـ فقيل: يأتيهم الله في صورة كذا إذا كانت المذكورات قبله صورا وأجساما، وقد يحمل ءاخر الكلام على أوله في اللفظ ويعطف بأحد الاسمين على الآخر والمعنيان متباينان وهو كثير في كلامهم كالعمرين والأسودين والعصرين ومثله في كلام العرب كثير ومما يؤكد التأويل الأول وهو أن معنى الصورة الصفة قوله من رواية عطاء بن يسار عن أبي سعيد: فيأتيهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها وهم لم يكونوا رأوه قط قبل ذلك. فعلمت أن المعنى في ذلك الصفة التي عرفوه بها، وقد تكون الرؤية بمعنى العلم كقوله {وأرنا مناسكنا} أي علمنا. قال أبو سليمان: ومن الواجب في هذا الباب أن نعلم أن مثل هذه الألفاظ التي تستشنعها النفوس إنما خرجت على سعة مجال كلام العرب ومصارف لغاتها]. اهـ
قال الإمام البيهقي في كتابه الأسماء والصفات ما نصه [الصورة هي التركيب، والـمُصوَّر المركَّب قال الله عز وجل {يا أيها الإنسان ما غرَّك بربك الكريم الذي خلقكَ فسوَّاك فعدَلَك في أي صـورةٍ ما شاء ركَّبك} ولا يجوز أن يكون الباري تعالى مصوَّرا ولا أن يكون له صورة لأن الصورة مختلفة والهيئات متضادة، ولا يجوز اتصافه بجميعها لتضادها ولا يجوز اختصاصه ببعضها إلا بمخصص لجواز جميعها على مَن جاز عليه بعضها فإذا اختص ببعضها اقتضى مخصصا خصصه به وذلك يوجب أن يكون مخلوقا وهو محال فاستحال أن يكون مصوَّرا وهو الخالق البارئ المصوِّر]. اهـ
قال الإمام الحجة بدر الدين بن جماعة قاضي القضاة في كتابه إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل ما نصه [اعلم أن الأدلة العقلية والنقلية تحيل الصورة التي هي التخطيط على الله تبارك وتعالى فوجب صرفها عن ظاهرها إلى ما يليق بجلاله تبارك وتعالى مما هو مستعمل في لغة العرب وهو الصفة والحالة، يقال: كيف صورة هذه الواقعة وكيف صورة هذه المسألة وفلان من العلم على صورة كذا وكذا فالمراد بجميع ذلك الصفة لا الصورة التي هي التخطيط، فعلى هذا الصورة هنا بمعنى الصفة وتكون [في] بمعنى [الباء] فمعنى الصورة التي أنكروها: أولا: أنه أظهر لهم شدة البطش والبأس والعظمة والأهوال والجبروت وكان وعدهم في الدنيا يلقاهم في القيامة بصفة الأمن من المخاوف والبشرى والعفو والإحسان واللطف فلما أظهر لهم غير الصفة التي هي مستقرة في نفوسهم أنكروها واستعاذوا منها، وقوله: فإذا أتانا ربنا عرفناه أي بما وعده من صفة اللطف والرحمة والإحسان ولذلك قال: فيكشف عن ساق أي يكشف عن تلك الشدة المتقدمة وتظهر لهم صفة الرحمن فيسجدون شكرا له. ثانيا: يأتيهم في الصورة التي يعرفونها المراد التي يعرفونها في الدنيا لأنهم لم يعرفوه يوم القيامة قبل ذلك بصورة متقدمة ولا رؤية سابقة فدل على أن المراد التي يعرفونها في الدنيا ولا خلاف بين الخلائق أجمع أن الله تعالى لم تُعرف له في الدنيا صورة وإنما عرفت صفاته تعالى وما وعد به الصالحين في القيامة من لطفه وأمنه وبشارتهم بجنته. فإن قيل: فلم عدل عن لفظ الصفة إلى لفظ الصورة؟ قلنا: لـما كانت المتبوعات المتقدمة في الحديث لعابديهم صورا جاء بلفظ الصورة مشاكلة بين المعاني والألفاظ فإنه من أنواع البلاغة]. اهـ
وأما ما رواه البخاري في صحيحه ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [خلقَ الله ءادم على صورته]. قال الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي ما نصه [قلتُ: للناس في هذا الحديث مذهبان أحدهما: السكوت عن تفسيره، والثاني: الكلام في معناه، واختلف أرباب هذا المذهب في الهاء على مَـن تعود؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: تعود على بعض بني ءادم وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل يضرب رجلا وهو يقول: قبَّح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك. فقال: إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه فإن الله تعالى خلق ءادم على صورته. قالوا وإنما اقتصر بعض الرواة على بعض الحديث فيحمل المقتصر على المفسَّر قالوا: فوجه من أشبه وجهك يتضمن سب الأنبياء والمؤمنين. وإنما خص ءادم بالذكر لأنه هو الذي ابتدأت خلقةُ وجهه هلى هذه الصورة التي احتُذيَ عليها بعده وكأنه نبه على أنك سببت ءادم وأنت من أولاده وذلك مبالغة في زجره فعلى هذا تكون الهاء كناية عن المضروب ومن الخطأ الفاحش أن ترجع إلى الله عز وجل بقوله: ووجه من أشبه وجهك فإنه إذا نُسبَ إليه شبهٌ سبحانه وتعالى كان تشبيها صريحا. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه فإن الله تعالى خلق ءادم على صورته. القول الثاني: إن الهاء كناية عن اسمين ظاهرين فلا يصح أن يضاف إلى الله عز وجل لقيام الدليل على أنه ليس بذي صورة فعادت إلى ءادم ومعنى الحديث: إن الله خلق ءادم على صورته التي خلقه عليها تامّـا لم ينقله من نطفة إلى علقة كبنيه هذا مذهب أبي سليمان الخطابي وقد ذكره ثعلب في أماليه]. اهـ
قال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعالى فيما نقله البيهقي في الأسماء والصفات ما نصه [قوله: خلق الله ءادم على صورته الهـاء وقعت كناية بين اسمين ظاهرين فلم تصلح أن تصرف إلى الله عز وجل لقيام الدليل على أنه ليس بذي صورة سبحانه ليس كمثله شىء فكان مرجعها إلى ءادم عليه السلام. فالمعنى أن ذرية ءادم إنما خُلقوا أطوارا كانوا في مبدأ الخلقة نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم صاروا صورا أجنة إلى أن تتم مدة الحمل فيولدون أطفالا وينشأون صغارا إلى أن يكبروا فتطول أجسامهم]. اهـ
قال الإمام النووي في شرحه على مسلم ما نصه [وأما قوله صلى الله عليه وسلم: فإن الله خلق ءادم على صورته. فهو من أحاديث الصفات وقد سبق في كتاب الإيمان بيان حكمها واضحا ومبسوطا وأن من العلماء من يُمسك عن تأويلها ويقول: نؤمن بأنها حق وأن ظاهرها غير مراد ولها معنى يليق بها وهذا مذهب جمهور السلف وهو أحوط وأسلم، والثاني: أنها تتأول على حسب ما يليق بتنـزيه الله تعالى وأنه ليس كمثله شىء. قال المازري: هذا الحديث بهذا اللفظ ثابت ورواه بعضهم: إن الله خلق ءادم على صورة الرحمن. وليس بثابت عند أهل الحديث وكأن من نقله رواه بالمعنى الذي وقع له وغلط في ذلك، قال المازري: وقد غلط ابن قتيبة في هذا الحديث فأجراه على ظاهره وقال: لله تعالى صورة لا كالصور، وهذا الذي قاله ظاهر الفساد لأن الصورة تفيد التركيب وكل مركب محدث والله تعالى ليس بمحدث فليس هو مركبا فليس مصورا قال: وهذا كقول المجسمة جسم لا كالأجسام، لما رأوا أهل السنة يقولون: الباري سبحانه وتعالى شىء لا كالأشياء طردوا الاستعمال فقالوا: جسم لا كالأجسام، والفرق أن لفظ شىء لا يفيد الحدوث ولا يتضمن ما يقتضيه وأما جسم وصورة فيتضمنان التأليف والتركيب وذلك دليل الحدوث، قال: العجب من ابن قتيبة في قوله: صورة لا كالصور، مع أن ظاهر الحديث على رأيه يقتضي خلق ءادم على صورته فالصورتان على رأيه سواء فإذا قال لا كالصور تناقض قوله]. اهـ
قال الحافظ ابن الجوزي [وقال القاضي أبو يعلى ـ المجسم ـ يطلق على الحق تسمية الصورة لا كالصور كما أطلقنا اسم ذاته. قلت: وهذا تخليط لأن الذات بمعنى الشىء وأما الصورة فهي هيئة وتخاطيط وتأليف وتفتقر إلى مصوِّر ومؤلِّف وقول القائل: لا كالصور، نقض لما قاله وصار بمثابة من يقول: جسم لا كالأجسام فإن الجسم ما كان مؤلفا فإذا قال: لا كالأجسام نقض ما قال]. اهـ
قال ابن فورك في كتابه مشكل الحديث ما نصه [واعلم أن بعض المتكلمين في تأويل هذا الخبر حاد عن وجه الصواب وسلك طريق الخطأ والمحال فيه وهو ابن قتيبة توهما منه أنه مستمسك بظاهره غير تارك له فقال: إن لله عز وجل صورة لا كالصور كما أنه شىء لا كالأشياء فأثبت لله تعالى صورة قديمة زعم أنها لا كالصور وأن الله تعالى خلق ءادم على تلك الصورة، وهذا جهل من قائله وتوغل في تشبيه الله تعالى بخلقه والعجب منه أنه أول الخبر ثم زعم أن لله صورة لا كالصور ثم قال: إن ءادم مخلوق على تلك الصورة وهذا كلام متناقض متهافت يدفع أوله ءاخره وذلك أن قوله: لا كالصورة ينقض قوله: إن الله خلق ءادم عليها، لأن المفهوم من قول القائل: فعلت على صورة هذا أي ماثلته به واحتذيت في فعله به وهذا يوجب أن صورة ءادم عليه السلام كصورته جل ثناؤه]. اهـ
قال الحافظ أحمد بن عمر القرطبي في كتابه المفهم لِـما أَشكل من تلخيص كتاب مسلم ما نصه [ولا يكون في الحديث إشكالٌ يُـوهم في حق الله تعالى تشبيها وإنما أشكل ذلك على مَـن أعاد الضمير في صورته على الله تعالى وذلك ينبغي ألاّ يُـصار إليه شرعا ولا عقلا أما العقل فيحيل الصورة الجسمية على الله تعالى وأما الشرع فلم ينص على ذلك نصا قاطعا ومحال أن يكون ذلك فإن النص القاطع صادق والصادق لا يقول المحال فيتعيَّن عَودُ الضمير على المضروب لأنه الذي سبق الكلام لبيان حكمه. وقد أعادت المشبهة هذا الضمير على الله تعالى فالتزموا القولَ بالتجسيم وذلك نتيجة العقل السقيم والجهل الصميم وقد بيّنا جهلهم وحققنا كفرهم فيما تقدَّم، ولو سلَّمنا أن الضمير عائد على الله تعالى فللتأويل فيه وجه صحيح وهو أن الصورة قد تُطلق بمعنى الصِّفة كما يقال: صورة المسألة كذا أي صفتها وصوَّر لي فلان كذا فتصوَّرته أي وصفه لي ففهمته وضبطُ وصفه في نفسي وعلى هذا فيكون معنى قوله: إن الله خلق ءادم على صورته أي خلقه موصوفا بالعلم الذي فصل به بينه وبين جميع أصناف الحيوانات وخصه منه بما لم يخصَّ به أحدا من ملائكة الأرضين والسموات، وقد قلنا فيما تقدم: إن التسليم في المتشابهات أسلم والله ورسوله أعلم]. اهـ
قال الحافظ البيهقي في الأسماء والصفات [وذهب بعض أهل النظر إلى أن الصورة كلها لله تعالى على معنى الملك والفعل ثم ورد التخصيص في بعضها بالإضافة تشريفا وتكريما كما يقال ناقة الله وبيت الله ومسجد الله وعبر بعضهم بأنه سبحانه ابتدأ صورة ءادم لا على مثال سبق ثم اخترع مَن بعده على مثاله فخص بالاضافة والله أعلم]. اهـ