SunnaOnline | سنة اون لاين إسلاميات ســـــير وتــــــراجم بشر الحافي
بشر الحافي
ترجمته
هو أبو نصر بِشْر بن الحارث بن عبد الرحمـٰن بن عطاء بن هلال بن ماهان بن عبد الله، وعبد الله كان اسمه بعبور، وأسلم على يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه. أصله من قرية من قرى مرو يقال لها : مابرسام. وكان مولده سنة مائة وخمسين للهجرة بها، ثم انتقل منها إلى بغداد فسكنها وكان من أولاد الرؤساء والكتّاب. وعن توبته قال ابن خلكان في «وفيات الأعيان» إنه أصاب في الطريق ورقة مكتوب فيها اسم الله تعالى وقد وطئتها الأقدام، فالتقطها واشترى طيبًا فطيّب به الورقة ووضعها في شق حائط، فرأى في النوم كأن قائلًا يقول : يا بشر ، طيّبتَ اسم الله ، ليُطَيّبَنّ اسمك في الدنيا والآخرة ، فلما تنبّه من نومه تاب.
سمع الحديث من إبراهيم بن سعد الزهري وعبد الرحمـٰن بن زيد بن أسلم وحماد ابن يزيد وشريك بن عبد الله والمعافى بن عمران الموصلي وعبد الله بن المبارك وعلي ابن مسهر وعيسى بن يونس وعبد الله بن داود الخريبي وأبي معاوية الضرير وزيد ابن أبي الزرقاء. وروى عنه كثيرون منهم نعيم بن الهيضم وابنه محمد بن نعيم ، وإبراهيم بن هاشم وابن مشكان ونصر بن منصور البزاز، ومحمد بن المثنى السمسار، وسريّ السَقَطي، وإبراهيم بن هانئ النيسابوري وغيرهم. وكان كثير الحديث ولكنه لم ينصب نفسه للرواية بل كان يتجنبها ودفن كتبه لأجل ذلك ، وكل ما سُمع منه فإنما كان على سبيل المذاكرة.
مناقبه
كان بِشْر بن الحارث المعروف ببشر الحافي، واحدًا من كبار أعيان السلف الصالح الذين ولدوا في القرن الثاني الهجري. وقد بلغ من التقوى والورع والزهد في الدنيا ما جعل ذكره على ألسنة الخَلْق. وكان له ثلاث أخوات زاهدات ورعات استفاد منهن وتعلم منهن الزهد، وقد أورد ابن خلكان في «وفيات الأعيان» قصة مُفادها أن امرأة دخلت على الإمام المجتهد أحمد بن حنبل رضي الله عنه وسألته قائلة: يا أبا عبد الله، إني امرأة أغزل في الليل على ضوء السراج، وربما طفئ السراج فأغزل على ضوء القمر، فهل عليَّ أن أبَيّنَ للمشتري غزل السراج من غزل القمر فقال لها: إن كان عندك بينهما فرق فعليك أن تبيني ذلك. وسألته غير ذلك من الأسئلة وخرجت، فقال الإمام أحمد رضي الله عنه لابنه عبد الله: ما سمعتُ إنسانًا قط يسأل عن مثل ما سألت هذه المرأة اتبعها، فتبعها ابنه إلى أن دخلت دار بشر الحافي، فعرف أنها أخته، ولما أخبر الإمام أحمد قال له: هذا والله هو الصحيح، لا تكون هذه المرأة إلا أخت بشر الحافي.
ويروي ابن خلكان عن سبب تسميته بالحافي أنه جاء إلى إسكاف يطلب منه شسعًا لإحدى نعليه، وهو الزمام يوضع في النعل ويكون بين إصبعين، فقال له الإسكاف: ما أكثر كلفتكم على الناس، فألقى النعل من يده والأخرى من رجله، وحلف ألا يلبس نعلاً بعدها. ومن الروايات التي تظهر تقواه وورعه ما رواه الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» وهو أن أخته قالت له: يا أخي قد بلي إزارك ، فلو جئت بقطن حتى أغزل لك ، فصار يأتي بالقطن ويحسب وزنه حتى انتهت أخته من الغزل ، فأخذه وأخرج ألواحه ووَزَنَه فإذا بأخته قد زادت فيه فأعاده إليها وقال: كما أفسدتِهِ خذِيه.
ومن أخبار زهده وكَسْره لنفسه رواية الخطيب البغدادي التي مفادها أنه قد اشتهى سفرجلة، فقالت له أمّه: أطلب لي سفرجلة، فجاء بها وصار يشمها ووضعها بين يديه ، فقالت له أمّه: يا أبا نصر كُلْها فما زال يشمها وأبى أن يأكل السفرجل حتى مات . وعن «تاريخ بغداد» أيضًا أن جارًا له بقالًا كان قد عمل طعامًا لذيذًا مطبوخًا بالباذنجان ، فمر بشر فنظر إليه فعلم البقال أنه اشتهاه ، فتبعه وقال له: بأبي أنت، هذا الباذنجان تعمله بُنيَّة لي من غزل تغزله وأبيعه لها فخذ منه ما شئت ، فقال له بشر : ارجع حفظك الله، فرجع البقال وسمعه يخاطب نفسه قائلاً : هيه، افتضحتِ، تشتهين الباذنجان بأصباغه، والله لا تذوقينه حتى تفارقي الدنيا.
حكمه ومواعظه
كان رضي الله عنه لا يتكلم إلا في الخير، وإذا تكلم كان جُلّ كلامه حكمًا ومواعظ تذكر بالآخرة وتحث على الازدياد من الطاعات والخيرات، كما كان لسانه لا يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن أقواله في الحكمة والحث على التقوى أنه سئل عن القناعة فقال : « لو لم يكن في القناعة شىء إلا التمتع بعز الغنى لكان ذلك يجزئ»، ثم أنشأ يقول:
أفادتني القناعة أي عِزّ ولا عِزّ أعزّ من القناعة
فخذ منها لنفسك رأس مال وصيّر بعدها التقوى بضاعه
تَحُزْ حالين تُغني عن بخيل وتسعد في الجنان بصبر ساعه
ومن أشعاره الحِكَمية قوله:
قَطْعُ الليالي مع الأيام في خَلَقِ /والنوم تحت رُواق الهم والقلق
أحرى وأعذرُ لي من أن يقال غدا/إني التمست الغنى من كف مختَلَق
قالوا رضيتَ بذا قلتُ القُنوع غنى/ليس الغنى كثرة الأموال والورِق
رضيتُ بالله في عسري وفي يُسري/فلست أسلك إلا أوضح الطُرُق
وقيل له : بأي شىء تأكل الخبز فقال: أذكر العافية فأجعلها إدامًا. ومن دعائه : اللهم إن كنت شهرتني في الدنيا لتفضحني في الآخرة فاسلبه عني.
ومن كلامه: مَنْ طَلَبَ الدنيا فليتهيأ للذل.
ثناء العلماء عليه
بدأ الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» ترجمة بشر الحافي بقوله: «وكان ممن فاق أهل عصره في الورع والزهد، وتفرد بوفور العقل، وأنواع الفضل، وحسن الطريقة واستقامة المذهب وعزوف النفس وإسقاط الفضول». وروي عن أبي خيثمة أنه قال: «إن كان رجل تأدب بمذهب رجل أي سفيان الثوري ففاقه، لقلت بِشر الحافي، لولا ما سبق لسفيان الثوري من السن والعلم».
وروى يحيي بن أكثم عن المأمون أنه قال : «لم يبق أحد في هذه الكُوَر يستحى منه غير هذا الشيخ» يعني بذلك بشر الحافي. وقال محمد بن المثنى لأحمد بن حنبل رضي الله عنه : ما تقول في هذا الرجل فقال: أي رجل قيل : بشر ، فقال: سألتني عن رابع سبعة من الأبدال.
وقال إبراهيم الحربي : رأيت رجالات الدنيا، لم أرَ مثل ثلاثة: رأيت أحمد بن حنبل وتعجز النساء أن تلد مثله ، ورأيت بشر بن الحارث من قرنه إلى قدمه مملوءًا عقلًا ، ورأيت أبا عبيد القاسم بن سلام كأنه جبل نُفخ فيه علم، وقال الحربي عنه أيضًا : ما أخرجت بغداد أتم عقلًا ولا أحفظ للسانه من بشر بن الحارث، كأنه في كل شعرة منه عقل، ما عُرف له غيبة لمسلم، لو قُسم عقله على أهل بغداد صاروا عقلاء وما نقص من عقله شىء.
وفاته
ذكر ابن خلكان عدة أقوال في وفاته فقال: «توفي في شهر ربيع الآخر سنة مائتين وست وعشرين للهجرة، وقيل مائتين وسبع وعشرين، وقيل يوم الأربعاء عاشر المحرم، وقيل : في رمضان، بمدينة بغداد، وقيل بمرو». وذكر الخطيب البغدادي هذه التواريخ أيضًا، وأخرجت جنازته بعد صلاة الصبح. وعن أبي حفص ابن أخته أنه قال: كنت أسمع الجِنّ تنوح على خالي في البيت الذي كان يكون فيه، غير مرة سمعت الجن تنوح عليه.
رحم الله سيدنا بشر الحافي وأمدنا بأمداده وحشرنا في زمرته وزمرة الصالحين يوم الدين.