SunnaOnline | سنة اون لاين إسلاميات ســـــير وتــــــراجم الخطيب البغدادي
الخطيب البغدادي
ترجمته
هو أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي، ولد سنة ثلاثمائة واثنتين وتسعين للهجرة وكان أبوه خطيبًا بقرية دَرْزيجان وهي قرية قرب بغداد على الجانب الغربي لدجلة، فحضه على سماع الحديث والفقه فسمع وهو ابن إحدى عشرة سنة، وارتحل إلى البصرة وهو ابن عشرين سنة، وإلى نيسابور وهو ابن ثلاث وعشرين، وإلى الشام ومكة وغيرها من البلدان، وسمع من أبي عمر الفارسي وأحمد ابن محمد بن الصلت الأهوازي وإبراهيم بن مخلد وأبي الفضل التميمي وأبي القاسم الحسن بن الحسن بن المنذر وغيرهم، وسمع بنيسابور من القاضي أبي بكر الحيري وأبي سعيد الصيرفي والحافظ أبي حازم العبدوي وكثيرين غيرهم.
وفي دمشق قرأ صحيح البخاري على كريمة بنت أحمد في خمسة أيام ثم رجع إلى بغداد حيث حظي عند الوزير أبي القاسم بن مسلمة. وذكر ياقوت الحموي في «معجم المؤلفين» وغيره أن الإمام الخطيب لما حَجّ شرب من ماء زمزم ثلاث شربات وسأل الله تعالى ءاخذًا بالحديث: «ماء زمزم لما شرب له» ثلاث حاجات: أن يُحَدّث بتاريخ بغداد، وأن يُملي الحديث بجامع المنصور، وأن يدفن عند قبر بشر الحافي فاستجاب الله له فيها جميعًا. خرج إلى صور وبها عز الدولة الذي كان أحد الأجواد، فأحسن صلته وأعطاه مالا كثيرًا، وصنف ما ينيف على خمسين مصنفًا من العلوم المختلفة.
مناقبه
ومن جملة الأدلة التي تثبت مكانة الإمام الخطيب البغدادي في التاريخ وباعه فيه، وتدل على أهمية أن يكون في تاريخنا الإسلامي أناس أمناء وقفوا أنفسهم لحمل هذا العلم وتدوينه وصيانته، ما ذكر في أكثر من كتاب من أن اليهود من أهل خيبر أظهروا في زمن الخطيب البغدادي كتابًا يدعون أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنـه فيه إسقاط للجزية عنهم، وادعوا أنه بخط علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأن فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان وسعد بن معاذ، فوقف الخطيب البغدادي على هذا الكتاب وعرف أنه مزور ومكذوب، ولما طلب منه الدليل على ذلك قال: لأن فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان ولم يكن أسلم يوم خيبر بل بعد ذلك يوم الفتح، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وقد مات قبل خيبر عام الخندق سنة خمس للهجرة، فاستحسن الناس منه ذلك وأقروا بعلمه ومكانته.
ولم يقتصر تبحر الإمام الخطيب على التاريخ الذي بلغ فيه مبلغًا عظيمًا، بل إلى جانب ذلك حصّل من علم الحديث الشريف ما جعله حافظًا كبيرًا دعا الإمام أبا إسحـٰـق الشيرازي إلى أن يشبهه بالدارقطني، وقال فيه مؤتمن الساجي: ما أخرجت بغداد بعد الدارقطني مثل الخطيب البغدادي، هذا بالإضافة إلى اطلاعه بالأدب إذ كان فصيح اللهجة أديبًا شاعرًا سمع منه بعض الشعر في الحكم والمواعظ.
ثناء العلماء عليه
قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» عند أول ترجمته له، مثنيًا عليه: «الإمام الأوحد العلامة المفتي الحافظ الناقد، محدث الوقت أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت ابن أحمد بن مهدي البغدادي، صاحب التصانيف وخاتمة الحفاظ». وفي كتاب «المستفاد من ذيل تاريخ بغداد» يقول فيه ابن ماكولا: «كان أبو بكر ءاخر الأعيان ممن شاهدناه معرفة وحفظًا وإتقانًا، وضبطًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفننًا في علله وأسانيده، وعلمًا بصحيحه وغريبه وفرده ومنكره ومطروحه، ولم يكن للبغداديين بعد الدارقطني مثله. سألت أبا عبد الله الصوري عن الخطيب وأبي نصر السّجزي: أيهما أحفظ؟ ففضل الخطيب تفضيلًا بيّنًا».
وفي «تذكرة الحفاظ» و«طبقات» السبكي نقل عن ابن إسحـٰـق الشيرازي قوله في الإمام الخطيب البغدادي: «أبو بكر الخطيب يُشَبّه بالدارقطني ونظرائه في معرفة الحديث وحفظه». ومما قاله السمعاني فيه: «سمعت يوسف بن أيوب بمرو يقول: حضر الخطيب درس شيخنا أبي إسحـٰـق، فروى أبو إسحـٰـق حديثًا من رواية بحر بن كنيز السقاء، ثم قال للخطيب: ما تقول فيه؟ فقال: إن أذنت لي ذكرت حاله، فانحرف أبو إسحـٰـق وقعد كالتلميذ، وشرع الخطيب يقول، وشرح أحواله شرحًا حسنًا، فأثنى الشيخ عليه وقال: هذا دارقطني عصرنا». وقال فيه أبو علي البَرَداني: «حدثني حافظ وقته أبو بكر الخطيب، وما رأيت مثله ولا أظنه رأى مثل نفسه». وفيه قال السلفي: «سألت شجاعًا الذهلي عن الخطيب فقال: إمام مصنف حافظ، لم ندرك مثله».
مصنفاته
لقد كانت مؤلفات الخطيب البغدادي تنيف على الخمسين مؤلفًا. وقد جعلها أبو سعد السمعاني ستة وخمسين، أشهرها: «الفقيه والمتفقه»، «الجامع»، «السابق واللاحق»، «المتفق والمفترق»، «الموضح»، «الاحتجاج بالشافعي»، «البسملة وأنها من الفاتحة»، «أسماء المدلسين»، «تقييد العلم»، «القول في النجوم»، «النهي عن صوم يوم الشك». وأشهر هذه الكتب كتابه الذي ألفه في التاريخ وسماه «تاريخ بغداد». وإلى جانب ذلك نقل عنه الشعر الحسن كقصيدته التي قال منها:
لعَمْرُك ما شجاني رسم دار وقفتُ به ولا ذِكر المعاني
ولا أثر الخيام أراق دمعي لأجل تَذكري مهد الغواني
ولا ملك الهوى يوما قيادي ولا عاصيته فثنى عناني
طلبت أخًا صحيح الود محضًا سليم العيب مأمون اللسان
فلم أعرف من الإخوان إلا نفاقًا في التباعد والتداني
ولما لم أجد حرًا يؤاتي على ما ناب من صرف الزمان
صبرت تكرمًا لقراع دهري ولم أجزع لما منه دهاني
ولم أكُ في الشدائد مستكينًا أقول لها ألا كُفّي كفاني
ولكني صليب العود عود ربيط الجأش مجتمع الجَنان
ومَنْ طَلَبَ المعاني وابتغاها أدار لها رحى الحرب العوانِ
ومن شعره قوله:
لا تَغْبَطَنَّ أخا الدنيا لزخرفها ولا للذة وقت عَجّلت فرحا
فالدهر أسرع شىء في تَقَلُّبِهِ وفِعْله بَيِّن للخلق قد وضحا
كم شارب عسلا فيه منيَتُهُ وكم تَقَلَّد سيفًا مَنْ به ذُبحا
وقال أيضًا:
إن كنتَ تبغي الرشاد محضًا لأمر دنياك والمعادِ
فخالف النفس في هواها إن الهوى جامع الفساد
وفاته
ذكر مكي الرُّميلي أن الخطيب مضى في منتصف رمضان واشتدت الحال به في ذي الحجة، وأوصى أن يدفن قرب قبر بشر الحافي في باب حرب، وتصدق بماله الذي بلغ مائتي دينار ءانذاك، وأوصى بأن يتصدق بجميع ثيابه، ووقف جميع كُتُبه، وتوفي يوم الاثنين في السابع من ذي الحجة لسنة أربعمائة وثلاث وستين للهجرة، وشيعه الفقهاء والعامة وحملوه إلى جامع المنصور، وكان بين يدي الجنازة جماعة ينادون: هذا الذي كان يذبّ عن النبي صلى الله عليه وسلم الكذب، هذا الذي كان يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان الشيخ أبو بكر بن زهراء الصوفي قد أعد لنفسه قبرًا إلى جانب قبر بشر الحافي، وكان يمضي إليه كل أسبوع ويتلو فيه القرءان كله، فجاء أصحاب الحديث يستأذنونه بدفن الخطيب البغدادي في قبره عملًا بوصيته، فامتنع، فذهبوا إلى أبي سعد الصوفي شيخ الشيوخ وذكروا له ذلك، فاستدعى ابن زهراء، وقال له: أنا لا أقول لك أعطهم القبر، ولكن أقول لك: لو أن بشرًا الحافي في الأحياء وأنت إلى جانبه فجاء أبو بكر ليقعد دونك، أكان يحسن بك أن تقعد أعلى منه قال: لا، بل كنت أجلسه مكاني، قال: فهكذا ينبغي أن تكون الساعة، فرضي وأذن بدفنه في القبر، فتحقق بذلك دعاؤه الذي دعاه يوم شرب من ماء زمزم. وقد روى أبو الحسن الزعفراني عن حسن بن أحمد البصري أنه قال: رأيت الخطيب في المنام وعليه ثياب بيض حسان وعمامة بيضاء فقال لي: غفر الله لي ورحمني، وكان ذلك بعد وفاته بأيام.
رحم الله الإمام الخطيب البغدادي وجمعنا معه في دار عليين.