الإمام السجاد زين العابدين علي
ترجمته
من نعم الله تعالى على أهل البيت الكرام أن جعل فيهم الكثير من العلماء والأولياء والصالحين الذين ذاع صيتهم في البلاد فانتفع بهم العباد بل وفتحت على أيديهم بلاد. ومن هؤلاء المشاهير سيدنا ومولانا الثِقَة، المَأْمُوْن، العالي القدر، الرَفِيْع، الوَرِع الإمام زين العابدين علي بن الإمام الحسين رضي الله عنهما الذي كان يقال له السَّجَّاد كان من أجمل الناس خلْقَة ومن أحسن الناس خُلُقا ومن أسخى الناس . الناس من حسن حاله ومنظره كانوا يهابونه أكثر من الملوك. علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، من سادات التابعين، وكان يُكنّى أبا الحسين وقيل أبا محمد. وليس للحسين رضي الله عنه عقِب إلا من ولد زين العابدين. وأمه كانت أَمَةً مملوكةً اسمها غزالة كما ذكر ابن سعد في «الطبقات». وورد في كتاب «وفيات الأعيان» لابن خلكان أن أمه سُلافة بنت يَزْدَجِرْد ءاخر ملوك فارس.
ويروي ابن سعد في «الطبقات»: أن علي بن الحسين كان مع أبيه، وكان مريضًا نائمًا على فراشه، فلما قُتل الحسين عليه السلام، قال شمْر بن ذي الجَوشنَ: اقتلوا هذا. فقال له رجل من أصحابه: سبحان الله!! أنقتل فتى حدثًا مريضًا لم يُقاتل وجاء عمر بن سعد فقال: لا تعرّضوا لهؤلاء النسوة ولا لهذا المريض.
صفته
كان لزين العابدين كِسَاءَ خَزٍّ أصفر يلبسه يوم الجمعة، وَروى أَنَّ عَلِيَّ بنَ الحُسَيْنِ كَانَ يَشْتَرِي كِسَاءَ الخَزِّ بِخَمْسِيْنَ دِيْنَارًا، يَشْتُو فِيْهِ، ثُمَّ يَبِيْعُهُ، وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ. وورد أنَّ عَلِيَّ بنَ الحُسَيْنِ يَعْتَمُّ بعِمامة، وَيُرْخِي مِنْهَا خَلْفَ ظَهْرِهِ. وَقِيْلَ كان يدّهن أو يتطيب بعد الغُسل إذا أراد أن يُحْرِم.
كلامه في تنزيه الله عن مشابهة المخلوقات
كان زين العابدين على عقيدة النبي وأصحابه وأهل بيته من توحيد الله وتنزيهه عن المكان والحيز والحد واللون، والذي كان لا يألو جهدا في تعليم الناس العقيدة الإسلامية ولو في أثناء الدعاء، فقد روى الحافظ محمد مرتضى الزبيدي الحسيني في إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين بالاسناد المتصل المتسلسل بطريق أهل البيت أن الإمام زين العابدين رضي الله عنه قال في أثناء دعائه يوم عرفة: سبحانك لا إله إلا أنت لا يحويك مكان. وقال أيضا: أنت الله الذي لا تحد ولا تحس ولا تجس.
ويُروَى عنه قول: عجبت للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثم هو غدًا جيفة، وعجبت كل العجب لمن شَكّ في الله وهو يَرى خَلْقَه، وعجبت كل العَجَب لمن أنكر النشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى، وعجبت كل العجب لمن عمل لدار الفناء وهو يعلم دار البقاء.
ورُوِيَ عن أبي جعفر محمد بن علي زين العابدين أنه قال: أوصاني أبي فقال: لا تَصْحَبن خمسة ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق، قلت: فداك يا أبت من هؤلاء الخمسة قال: لا تصحبنّ فاسقًا فإنه يبيعك بأكلة فما دونها. قلت: يا أبتِ وما دونها قال: يطمع فيها ثم لا ينالها. قلت: يا أبت ومن الثاني قال: لا تصحبن البخيل فإنه يقطع بك في ماله أحوج ما كنت إليه. قلت: يا أبتِ ومن الثالث قال: لا تصحبن كذابًا، فإنه بمنزلة السراب، يُبعد منك القريب ويقرّب منك البعيد. قلت: يا أبت ومن الرابع قال: لا تصحبن أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، قلت: يا أبت ومن الخامس. قال: لا تصحبن قاطع رحم، فإني وجدته ملعونًا في كتاب الله في ثلاثة مواضع.
علمُهُ ووَرَعُهُ
والإمام زين العابدين هو من سادات التابعين، قال الزهري: لم أرَ هاشميًا أفضل منه وما رأيت أحدًا أفْقَه منه. كان رضي الله عنه لا يعينه أحد على طهوره، وكان يستقي الماء لطهوره قبل أن ينام، فإذا قام من الليل بدأ بالسواك ثم توضأ فأخذ في صلاته، وكان يقضي ما فاته من النوافل في النهار بالليل ثم يقال: يا بُنَي ليس هذا مما عليكم بواجب ولكن لمن عَوَّد نفسه منكم عادة من الخير أن يدوم عليها. وكان لا يدع صلاة الليل في الحَضَر والسفر. وورد أنه وَقَعَ حَرِيْقٌ فِي بَيْتٍ فِيْهِ عَلِيُّ بنُ الحُسَيْنِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَجَعَلُوا يَقُوْلُوْنَ: يَا ابْنَ رَسُوْلِ اللهِ، النَّارَ! فَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى طُفِئَتْ. فَقِيْلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَلْـهَـتْنِي عَنْهَا النَّارُ الأُخْرَى. وجاءه رجل يومًا وهو مع أصحابه في المسجد فما ترك شيئًا إلا قاله له وزين العابدين ساكت، فانصرف الرجل، فلما كان الليل جاء إلى باب الرجل فقال له: يا أخي إن كنت صادقًا فيما قلت لي فغفر الله لي، وإن كنت كاذبًا فغفر الله لك. وولّى، فاتبعه الرجل فالتزمه من خلفه وبكى حتى أشفق زين العابدين عليه، ثم قال: لا جَرَم لا عُدتُ في أمرٍ تكره، فقال له: وأنت في حلّ مما قلت لي.
جوده وكرمه
كان رضي الله عنه سخيًا كريمًا جوادًا، وورد أَنَّ عَلِيَّ بنَ الحُسَيْنِ كَانَ يَحْمِلُ الخُبْزَ بِاللَّيْلِ عَلَى ظَهْرِهِ، يَتْبَعُ بِهِ المَسَاكِيْنَ فِي الظُّلْمَةِ، وَيَقُوْلُ: إِنَّ الصَّدَقَةَ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ. روى ابن الجوزي في «صفة الصفوة» عن مُحَمَّدِ بنِ إِسْحَاقَ قال كَانَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ المَدِيْنَةِ يَعِيْشُوْنَ لاَ يَدْرُوْنَ مِنْ أَيْنَ كَانَ مَعَاشُهُم، فَلَمَّا مَاتَ عَلِيُّ بنُ الحُسَيْنِ، فَقَدُوا ذَلِكَ الَّذِي كَانُوا يُؤْتَوْنَ بِاللَّيْلِ.
وعَنْ عَمْرِو بنِ ثَابِتٍ: لَمَّا مَاتَ عَلِيُّ بنُ الحُسَيْنِ، وَجَدُوا بِظَهْرِهِ أَثَراً مِمَّا كَانَ يَنْقُلُ الجُرُبَ بِاللَّيْلِ إِلَى مَنَازِلِ الأَرَامِلِ. وَقيل أنه لَمَّا مَاتَ عَلِيٌّ، وَجَدُوْهُ يَعُوْلَ مائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ. وَقَالَ بَعْضُهُم: مَا فَقَدْنَا صَدَقَةَ السِّرِّ حَتَّى تُوُفِّيَ عَلِيٌّ. وكان إذا أتاه السائل رحّب به وقال: مرحبًا بمن يحمل زادي إلى الآخرة.
وروى رجل من ولد عمار بن ياسر قال: كان عند علي بن الحسين قوم فاستعجل خادمًا له بشواء كان له في التنور، فأقبل به الخادم مسرعًا وسقط السَّفود (الحديدة التي يُشوى بها اللحم) من يده على ولد لعلي فأصاب رأسه فقتله، فقال إن الله يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} فقال: و قد كظمت غيظي. قال: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}. فقال: عفا الله عنك. فقال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. قال: أنت حر لوجه الله تعالى.
وعَنْ عَمْرِو بنِ دِيْنَارٍ، قَالَ: دَخَلَ عَلِيُّ بنُ الحُسَيْنِ عَلَى مُحَمَّدِ بنِ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ فِي مَرَضِهِ، فَجَعَلَ مُحَمَّدٌ يَبْكِي، فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: عَلَيَّ دَيْنٌ. قَالَ: وَكَمْ هُوَ؟ قَالَ: بِضْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِيْنَارٍ. قَالَ: فَهِيَ عَلَيَّ.
تواضعه
كان رضي الله عنه متواضعًا، وإذا مشى لا تجاوز يده فخذه ولايتبختر في مشيه، وَكَانَ يُجَالِسُ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ، فَقِيْلَ لَهُ: تَدَعُ قُرَيْشاً، وَتُجَالِسُ عَبْدَ بَنِي عَدِيٍّ! فَقَالَ: إِنَّمَا يَجْلِسُ الرَّجُلُ حَيْثُ يَنْتَفِعُ.
شمائله
كان زين العابدين كثير البر بأمه، حتى إنه كان لا يأكل معها في صَحْفة مخافة أن تسبق يده إلى ما سبقت إليها عينها. وكان رضي الله عنه يُصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة من النوافل حتى سُمي الإمام السجاد. ومرة أهانه شخص في وجهه فسكت، ما رد عليه، ما انتقم منه، فذاك لما وجده لا يرد عليه قال له: ( إياك أعني ) فقال الإمام السجاد: ( وعنك أُغضي )، وعنك أُغضي معناه أنا عمدا أسكت عنك لا أُعاملك بالمثل، فذلك الرجل تراجع في نفسه وندم على ما فعل قال في نفسه أنا عاملته بالشتم والإهانة وهو ما قابلني بالمثل بل أغضى عني فوبَّخ نفسه، لام نفسه.
في فضائل أهل البيت
وقد قيل في فضائل ءال البيت الكثير من الشعر. ومما يروى أن هشام بن عبد الملك حجّ قبل أن يلي الخلافة، فاجتهد أن يستلم الحجر فلم يتمكن، وجاء زين العابدين علي بن الحسين فوقف له الناس وتنحوا حتى استلم الحجر، فقال الناس لهشام: مَن هذا؟ قال: لا أعرفه، فقال الفرزدق الشاعر أنا أعرفه:
هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ البَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ وَالبَيْتُ يَعْرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ
هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللهِ كُلِّهِمِ هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ العَلَمُ
إِذَا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا: إِلَى مَكَارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الكَرَمُ
يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانُ رَاحَتِهِ رُكْنَ الحَطِيْمِ إِذَا مَا جَاءَ يَسْتَلِمُ
يُغْضِي حَيَاءً، وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ فَمَا يُكَلَّمُ إِلاَّ حِيْنَ يَبْتَسِمُ
هَذَا ابْنُ فَاطِمَةٍ إِنْ كُنْتَ جَاهِلَهُ بِجَدِّهِ أَنْبِيَاءُ اللهِ قَدْ خُتِمُوا
وفاته عليه السلام
وفضائله ومناقبه رضي الله عنه أكثر من أن تُحصر. وكانت ولادته يوم الجمعة سنة ثمان وثلاثين للهجرة وتوفي سنة أربع وتسعين وقيل تسع وتسعين وقيل اثنتين وتسعين للهجرة بالمدينة. ودُفِنَ في البقيع في قبر عمه الحسن بن علي في القبة التي فيها قبر العباس رضي الله عنهم. رحمك الله أيها الإمام الورع والولي الصالح.. رحمك الله فقد كنت حقًا زين العابدين ورزقنا الله شفاعة جدك صلى الله عليه وسلم.