كان "سَبَأُ بنُ يَشْجُبَ" رجلاً عربيًّا كريمًا مسلمًا، يجودُ على الناس بعطاياهُ ولا يبخُلُ، وذُكر أنه أول من لَبِسَ التاجَ، وكانَ لهُ شِعرٌ بشَّر فيه بمقْدِم وظهور رسولِ الله محمدٍ صلى الله عليه وسلم ومنه:
وكان له عشرةُ أولادٍ فتفرقوا، ستةٌ منهم قصدوا "اليمن" وبَنوْها، وأربعةٌ رحلوا إلى الشام وتكاثروا فيها. وخرج من بين اليمنيينَ "التبابعةُ" وهم ملوكُ "اليمن" وأحدهم "تُبَّعٌ" يَلبسونَ التيجانَ وقتَ الحكمِ، وعاشوا في غِبطةٍ عظيمةٍ وأرزاقٍ وثمارٍ وزروعٍ كثيرةٍ، ولكن كانت أوديتُهُم شحيحةً بالماءِ، مقفرةً من الأنهارِ، فألجأتهُمُ الحاجةُ إلى أن يصنعوا شيئًا يجمعونَ بهِ سيولَ المطرِ التي كانت تهطُلُ في أوقاتٍ معينةٍ، لينتفعوا بها فألهمهم الله طريقةَ بناءِ السدودِ والحواجزِ، يُقيمونَها بين الأوديةِ، للانتفاعِ بما تُخَلِّفُه وراءَها من مياه.
وكان سدُ "مأْرِبٍ" أقواها وأمتنها وأنفعَها، وأول من بناهُ "سَبَأ" وسلَّط إليه سبعينَ واديًا تَفِدُ إليهِ مياهُها، وماتَ ولم يُكْمِلْ بناءَه فأكملتْهُ الملوكُ بعدَه وكان ءاخرَ من أتمَّه "بلقِيسُ" قبل أن تقابل سيدَنا "سليمان" عليه السلامُ، ولإتمامِ السدِ خبرٌ يقولُ إنه لما ملكتْ "بلقيس" اقتتلَ قومُها على ماءِ واديهم، إذ لم يكن السدُّ قد انتهى بعدُ، فتركَتْ مُلْكَهَا وسكنت قصرَها، وطلبوا منها أن ترجع فأبتْ فقالوا: "إما أن ترجعي أو نقتُلَكِ!" فقالت لهم: "أنتم لا عقولَ لكم، ولا تُطيعونني"، فقالوا "نُطيعُكِ". فرَجَعَت إلى واديهم وعكفت على إنهاءِ السدِ، وجلبتِ الصخورَ والزِفْتَ الأسودَ، ومكَّنتِ السدَّ بين جبلينِ عظيمين وجعلت لهُ ثلاثةَ أبوابٍ بعضُها فوقَ بعضٍ وبنتْ تحتَهُ بِرْكةً ضخمةُ، وجعلت فيها اثني عشرَ مخرجًا على عددِ أنهارِهم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء، وإذا استغنَوْا عنه سدُّوها، فإذا جاءهمُ المطرُ اجتمعَ إليهم ماءُ أوديةِ "اليمن" فاحتُبِسَ السيلُ من وراءِ السدِ الضخمِ.
ثم لما كانتِ الحاجةُ تشتدُ تأمرُ فيُفتَحُ البابُ الأعلى وتجري المياه إلى البِركةِ، فكانوا يُسْقَوْنَ من البابِ الأعلى ثم من الثاني الأوسط ثم من الثالث الأسفلِ، فلا ينفدُ الماءُ حتى يأتي الماءُ من السنةِ المقبلةِ، فكانت تَقْسِمُه بينهم على ذلك. وصارت رمالُ الصحراءِ بُسُطًا هندسيةً خضراءَ، تجري بينها القنواتُ الملتويةُ، وتصدحُ بين أغصانِها البلابلُ المغرِدةُ، وتمتلىءُ أشجارُها بالأثمارِ النَّضرَةِ والأزهارِ الملونةِ. وكانت بلدتُهم طيبةً كريمةَ التربةِ، عامرةً بالخُضْرَةِ، وكان من صفاءِ هوائِها ونقاوتِه أنهم لم يَرَوْا في بساتينِهِم بَعوضةً قطّ، ولا ذبابًا ولا برغوثًا ولا قملةً ولا عقربًا ولا حيةً ولا غيرَها من الهوامِ أي الحشراتِ المؤذيةِ، ولا تتعبُ دوابُهم، وإذا جاءتْهُمْ قافلةٌ وفي ثيابِهِم ودوابِّهم قملٌ ونحوُه ووصلوا إلى تلكَ البساتينِ النقيةِ ماتت تلك القملُ لساعتِها.
وكان من غزارةِ ما تُعطي تلك البساتينُ أن المرأةَ كانت تخرجُ معها مَغْزِلها وعلى رأسها وعاءٌ من قشٍ فتلتهي بمغزَلِها، وتمشي بين الأشجارِ المثمرةِ فلا تأتي بيتَها حتى يمتلىءَ وعاؤُها من كلِ الثمارِ من كثرتِهِ على الشجرِ من غيرِ أن تمسَّها بيدِها. وزيادةً على هذا النعيمِ الخاصِ بهم أصلحَ الله لهم البلادَ المتصلةَ بهم، وعَمَرَها وجعلهم أصحابَها وضيَّقَ السيرَ بأن قرَّبَ القُرى بعضَها من بعضٍ، حتى كان المسافرُ من "مأْرِبٍ" إلى الشامِ يبيتُ في قريةٍ ويرتاحُ في أخرى، ولا يحتاجُ إلى حَمْلِ زادٍ حتى يصلَ مقصودَه، ءامنًا من عدوٍ وجوعٍ وعطشٍ وءافاتٍ تضرُ بالمسافرِ. وقُدرت هذه القرى المتصلةُ بأربعةِ ءالافٍ وسبعمائةِ قريةٍ بورك فيها بالشجرِ والثمرِ والماءِ بحيث تظهرُ القريةُ الثانية من الأولى لِقُربِها منها.
ولما طالت بهم مدةُ النعمةِ سئموا الراحةَ ولم يصبروا على العافيةِ، تمنَّوْا طولَ الأسفارِ وقالوا: "لو كان جَنْيُ ثمارِنا أبعدَ، لكانَ أشهى وأعلى قيمةً". فتمنَّوْا أن يجعلَ الله بينهم وبين الشام صحارى شاسعةً ليركبوا النياقَ المحمَّلةَ، ويتزودوا بالزادِ كغيرِهم، وانتشرَ البَطَرُ والطُغيانُ والكفرُ بالله حيث بدأت عبادةُ الشمسِ من دونِ الله. فأرسلَ الله إليهم ثلاثةَ عَشَرَ نبيًّا، فدعوهم إلى الله تعالى وتوحيدِهِ وتركِ الكفرِ، وذكَّروهم نعمةَ الله عليهم وأنذروهم عقابَهُ، فكذَّبوهم وقالوا والعياذُ بالله: "ما نعرفُ لله علينا نعمةً، فقولوا لربِكم فليحبِسْ هذه النعمةَ عنا إن استطاعَ ذلك".
وتجري في هذه الأثناء قصةُ التقاءِ سيدِنا "سليمانَ" بملكةِ "سبأ" "بلقيس" حيث دعاها إلى الإسلامِ فأسلمتْ هي وقومُها، ثم بعدَها بسنينَ حصلَ الكفر مجددًا، ومنه ما حدث مع شخصٍ منهم اسمُه "حمارٌ" كان له ولدٌ فماتَ فاعترضَ على اللهِ والعياذُ باللهِ تعالى ورفعَ رأسَهُ إلى السماءِ وبَصَقَ وقال: "لا أعبدُ ربًّا قتلَ ولدي" وكفرَ كفرًا شنيعًا، وصار لا يمُرُّ بأرضه أحدٌ إلا دعاهُ إلى الكفرِ فإن أجابَهُ تركَهُ وإلا قتلَهُ. فأنزلَ الله عليه صاعقةً أحرقتْه ودمَّرت وادِيَه حتى صارَ خَربًا ومَرْتَعًا للجنِ، أما قومُهُ فإنهم تمادَوْا في الكفرِ تماديًا فظيعًا ولم يلتفتوا إلى كلامِ الأنبياءِ الذينَ نصحُوهم، وازدادوا إعراضًا، ولم يقابلوا الهدَى والإرشادَ إلا بوضعِ الأصابعِ في الأذنينِ، وبالاستكبارِ والانصرافِ إلى العملِ وبناءِ البيوتِ، فأرادَ اللهُ أن يُذيقَهم شرَّ أعمالِهم وأن يُريَهُم عاقبةَ كفرِهم، ليكونوا عبرةً لغيرِهم، وعقوبةً قاسيةً لمن تحدثُه نفسُه أن يسلُك طريقَهم، ويفعلَ فِعلَتَهم. فسلَّطَ عليهم دابةً صغيرةً اسمُها "الخُلْدُ" وهو حيوانٌ لا يُبصرُ، ولكنهُ ذو أسنانٍ ومخالبَ حادةٍ جدًا، فجاءَ منهُ الألوف وحفروا تحت أساساتِ السدِ بشكلٍ متواصلٍ، وكان خلفَه كمياتٌ ضخمةٌ جدًا من الماءِ المتجمعِ، وما هي إلا ساعاتٌ حتى تدفقتِ المياهُ سيولاً جارفةً تهدمُ ما هو أمامَها، وتُغرِقُ الناسَ في بيوتِهم وتدمِرُها، حاملةً معها أطنانًا من الطينِ والأحجارِ، فخابَ كيدُ الكافرينَ وانتقمَ الله من الظالمين. تهدَّمَ السدُ، وانهار البناءُ، ولم يعدْ يحجزُ السيولَ المتدفقةَ، والأمواجَ المتلاطمةَ، وانطلقتِ المياهُ الحبيسةُ في شعابِ الوادي وبين الأشجارِ، فغرقَ الزرعُ، وهلَكَ الضَّرْعُ، وعادَ الوادي كما كانَ صحراءَ مقفرةً صامتةً، لا نباتَ فيها سوى أشجارٌ لا تثمرُ إلا كلَّ مُرٍ بشعٍ وبعضَ الأنواعِ التي لا نفعَ فيه، وهربتِ العصافيرُ والبلابلُ. وأتى البومُ يصيحُ فوقَ الخرائبِ، وحلَّقتِ الغِربانُ تنعقُ على الأغصانِ الجافةِ. ومن بقيَ من الناسِ فإنهم لم يطيقوا صبرًا على أن يُقيموا في صحراءَ كانت بالأمسِ بساتينَ عامرةً، ففارقوها ونزحوا عنها بقلبٍ يبكي دمًا، ثم تفرَّقوا في شتى البلادِ حتى صارَ أمرُهم حديثًا يتنقَّلُ وحكاياتٍ تُروى، حيث كانوا في نعمةٍ سابقةٍ فلم يحفظوها، فجزاهم الله بما كفروا.
والله اعلم
رابط ذو صله : | http://www.sunnaonline.org |
القسم : | قـــصص ومـــواعــظ |
الزيارات : | 8764 |
التاريخ : | 18/1/2011 |
|