لا يمتنع شرعا ولا عقلا أن يكون فوق العرش مكان
يُشيع مجسمة هذا العصر أنه لا مكان فوق العرش إنما المكان تحت العرش فقط، فيقولون تمويهًا على الناس: الله فوق العرش بلا مكان، وأحيانًا يقولون الله فوق العرش حيث لا مكان، ومنهم من يقول "فوق العرش مكان عدمي فالله فوق العرش حيث المكان العدمي" على زعمهم، فهذا قول لا دليل عليه، لأنه لا يمتنع عقلاً ولا شرعًا أن يكون فوق العرش مكان. والدليل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لمّا قضى اللهُ الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي]. وفي رواية عند البخاري، صحيح البخاري: كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} بلفظ [وهو وَضْعٌ عنده على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي]، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري 13/385 [وضع: بفتح فسكون، أي موضوع، ووقع كذلك في "الجمع" للحُمَيْدِي بلفظ "موضوع" وهي رواية الإسماعيلي].
* (أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الخلق: باب ما جاء في قول الله تعالى :{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ} [سورة الروم/27]، ومسلم في صحيحه: كتاب التوبة: باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه). وفي رواية عند ابن حبان، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 6/8/ص5 بلفظ [وهو مرفوع فوق العرش].
فلولا أن فوق العرش مكانًا لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك الكتاب [فهو موضوع عنده فوق العرش]. وأما تأويل البعض لكلمة فوق العرش بأن معناها دون العرش واحتجاجهم بأن فوق تأتي لغة بمعنى دون فهو مردود برواية ابن حبان لهذا الحديث بلفظ [وهو مرفوع فوق العرش]، فبطل هذا التأويل لأن كلمة مرفوع تبطل ذلك إبطالاً صريحًا، ويُرد أيضًا برواية البخاري بلفظ [وهو وَضْعٌ عنده على العرش]. ويقال لهم: التأويل للنص لا يجوز إلا لضرورة اقتضاء الدليل العقلي لذلك أو اقتضاء الدليل النقليّ الثابت كما قرر ذلك الأصولييون، فقالوا: تأويل النص لغير ذلك عبث والنص يصان عن العبث.
قال العلامة الفقيه المحدّث الشيخ عبد الله الهرري في صريح البيان في الرد على من خالف القرءان: ص62، ما نصه [وأما معنى "عنده" المذكور في الحديث فهو للتشريف كما في قوله تعالى:{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [سورة القمر/55]، وقد أثبت اللغويون أن "عند" تأتي لغير الحيّز والمكان، فكلمة "عند" في هذا الحديث لتشريف ذلك المكان الذي فيه الكتاب].
وقال الحافظ المحدّث ولي الدين أبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم العراقي (826هـ) في طرح التثريب: كتاب القضاء والدعاوى، باب تسجيل الحاكم على نفسه: 8/84 ما نصه [وقوله ـ أي النبي [فهو عنده فوق العرش] لا بد من تأويل ظاهر لفظة "عنده" لأن معناها حضرة الشىء والله تعالى منزه عن الاستقرار والتحيّز والجهة، فالعنديّة ليست من حضرة المكان بل من حضرة الشرف أي وضع ذلك الكتاب في محل معظّم عنده].