ولمثل ذلك نقبل الحجر الأسود، ويحرم على المحدث مس المصحف، أسطره وحواشيه التي لا كتابة فيها وجلده وخريطته التي هو فيها. فويل لمن زعم أن كلام الله القديم شيء من ألفاظ العباد، أو رسم من أشكال المداد.
واعتقاد الأشعري رحمه الله يشتمل على ما دلت عليه أسماء الله التسعة والتسعون والتي سمى بها نفسه في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واسماؤه مندرجة في أربع كلمات، هن الباقيات الصالحات:
الكلمة الأولى: قول "سبحان الله " ومعناها في كلام العرب التنزيه والسلب وهي مشتملة على سلب العيب والنقص عن ذات الله وصفاته، فما كان من أسمائه سلبا فهو مندرج تحت هذه الكلمة، كالقدوس وهو الطاهر من كل عيب, والسلام وهو الذي سَلِم من كل آفةٍ.
وأما قوله تعالى {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون} فلا خلاف بين أئمة العربية أنه لا بد من كلمة محذوفة يتعلق بها قوله {في كتاب مكنون}، ويجب القطع بأن ذلك المحذوف تقديره "مكتوب في كتاب مكنون"، لما ذكرناه، وما دل عليه العقل الشاهد بالوحدانية وبصحة الرسالة، وهو مَناطُ التكليف بإجماع المسلمين.
وإنما لم يستدل بالعقل على القدم وكفى به شاهداً،لأنهم لا يسمعون شهادته، مع أن الشرع قد عدَّل العقلَ وقبل شهادته، واستدل به في مواضع من كتابه الكريم، كالاستدلال بالإنشاء على الإعادة، وكقوله تعالى {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتها}، وقوله تعالى {وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض}، وقوله تعالى {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء}.
فيا خيبة من رد شاهداً قبله الله تعالى، وأسقط دليلاً نصبه الله تعالى، فَهُم يرجعون إلى المنقول، فلذلك استدللنا بالمنقول وتركنا المعقول، كميناً إن احتجنا إليه أبرزناه، وإن لم نحتج إليه أخرناه.
وقد جاء في الحديث المشهور "من قرأ القرآن وأعربه كان له بكل حرف عشر حسنات، ومن قرأه ولم يعربه فله بكل حرف منه حسنة"، والقديم لا يكون معيباً باللحن وكاملاً بالإعراب، وقد قال تعالى {وما تجزون إلا ما كنتم تعملون}، فإذا أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بأنا نُجزى على قراءة القرآن دل على أنه من أعمالنا، وليست أعمالنا بقديمة، وإنما أتي القوم من قبل جهلهم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولسان العرب وسخافة العقل وبلادة الذهن، فإن لفظ القرآن يطلق في الشرع واللسان على الوصف القديم، ويطلق على القراءة الحادثة، قال الله تعالى {إن علينا جمعه وقرآنه}، أراد بقرآنه قراءته، إذ ليس للقرآن قرآنٌ آخر، {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه}، أي قراءته. فالقراءة غير المقروء، والقراءة حادثة والمقروء قديم، كما انا إذا ذكرنا الله عز وجل كان الذكر حادثا والمذكور قديم، فهذه نبذة من مذهب الاشعري رحمه الله.
والكلام في مثل هذا يطول، ولولا ما وجب على العلماء من إعزاز الدين وإخمال المبتدعين، وما طَوَّلَت به الحشوية ألسنتهم في هذا الزمان، من الطعن في أعراض الوحدين، والإزراء على كلام المنزهين، لما أطلتُ النفس في مثل هذا مع إتضاحه، ولكن قد أمرنا الله بالجهاد في نصرة دينه، إلا أن سلاح العالم علمه ولسانه، كما أن سلاح الملك سيفه وسنانه، فكما لا يجوز للملوك إغماد أسلحتهم عن الملحدين والمشركين، لا يجوز للعلماء إغماد ألسنتهم عن الزائغين والمبتدعين، فمن ناضل عن الله وأظهر دين الله كان جديرا أن يحرسه الله بعينه التي لا تنام، ويعزه بعزه الذي لا يضام، ويحوطه بركنه الذي لا يرام، ويحفظه من جميع الأنام {ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض}، وما زال المنزهون والموحدون يفتون بذلك على رؤوس الأشهاد في المحافل والمشاهد، ويجهرون به في المدارس والمساجد، وبدعة الحشوية كامنة خفية لا يتمكنون من المجاهرة بها، بل يدسونها الى جهلة العوام، وقد جهروا بها في هذا الأوان، فنسأل الله تعالى أن يعجل بإخمالها كعادته، ويقضي بإذلالها على ما سبق من سنته، وعلى طريقة المنزهين والموحدين درج الخلف والسلف، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
والعجب أنهم يذمون الأشعري رحمه الله بقوله إن الخبز لا يشبع، والماء لا يروي، والنار لا تحرق، وهذا كلام أنزل الله تعالى معناه في كتابه الكريم، فإن الشبع والري والاحراق حوادث تفرد الرب سبحانه وتعالى بخلقها، فلم يَخلُقِ الخُبزُ الشبع، ولم يَخلُقِ الماءُ الري، ولم تخلق النار الاحراق، وإن كانت أسباباً في ذلك، فالخالق تعالى هو المسبب، كما قال تعالى{وما رميت إذ رميت، ولكن الله رمى}، نفى أن يكون رسوله صلى الله عليه وسلم خالقاً للرمي، وإن كان سبباً فيه، وقد قال تعالى {وأنه هو أضحك وأبكى}، {وأنه هو أمات وأحيا} فاقتطع الإضحاك والإبكاء والإماتة والإحياء عن أسبابها، وأضافها إليه، فكذلك اقتطع الأشعري رحمه الله الشبع والري والاحراق عن أسبابها وأضافها إلى خالقها؛ لقوله تعالى {الله خالق كل شيء}، ولقوله تعالى {هل من خالق غير الله}، {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعمله ولما يأتهم تأويله} {أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علماً أماذا كنتم تعملون}.
وكيف يُدَّعى على السلف أنهم يعتقدون التجسيم والتشبيه أو يسكتون عند ظهور البدع، ويخالفون قوله تعالى {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} وقوله جل قوله {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} وقوله تعالى ذكره {لتبين للناس ما نزل إليهم}. والعلماء ورثة الأنبياء، فيجب عليهم من البيان ما يجب على الأنبياء. وقال تعالى {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}، ومن أنكر المنكرات التجسيم والتشبيه، ومن أفضل المعروف التوحيد والتنزيه، وإنما سكت السلف قبل ظهور البدع، فورب السماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع، لقد تشمر السلف للبدع لما ظهرت، فقمعوها أتم القمع، وردعوا أهلها أشد الردع، فردوا على القدرية والجهمية والجبرية وغيرهم من أهل البدع، فجاهدوا في الله حق جهاده.
والجهاد ضربان: ضرب بالجدل والبيان، وضرب بالسيف والسنان، فليت شعري، فما الفرق بين مجادلة الحشوية وغيرهم من أهل البدع ! ولولا خُبثٌ في الضمائر وسوء إعتقاد في السرائر {يَسْتخفُونَ من الناس ولا يَسْتَخفُونَ من الله وهو معهم إذ يُبَيِّتُون ما لا يرضى من القول}، وإذا سُئل أحدهم عن مسألةٍ من مسائل الحشو أمر بالسكوت عن ذلك، وإذا سُئل عن غير الحشو من البدع أجاب فيه بالحق، ولولا ما انطوى عليه باطنه من التجسيم والتشبيه لأجاب في مسائل الحشو بالتوحيد والتنزيه، ولم تزل هذه الطائفة المبتدعة قد ضُرِبَت عليهم الذلة أينما ثُقِفُوا{كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين}، لا تلوح لهم فرصة إلا طاروا إليها، ولا فتنة إلا أكبوا عليها، وأحمد بن حنبل وفضلاء الحنابلة أصحابه وسائر علماء السلف بُراءٌ الى الله مما نسبوه إليهم، وإختلفوا عليهم، وكيف يظن بأحمد بن حنبل وغيره من العلماء أن يعتقدوا، أن وصف الله القديم بذاته هو عين لفظ اللافظين، ومداد الكاتبين مع أن وصف الله قديم وهذه الألفاظ والأشكال حادثة بضرورة العقل وصريح النقل وقد اخبر الله تعالى عن حدوثها في ثلاث مواضع من كتابه العزيز:
الموضع الأول: قوله تعالى {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث}، جعل الآتي محدثاً، فمن زعم أنه قديم فقد رد على الله سبحانه وتعالى، وإنما هذا المحدث دليل على القديم، كما أنا إذا كتبنا اسم الله عز وجل في ورقة لم يكن الرب القديم حل في تلك الورقة، فكذلك الوصف القديم إذا كتب في شيء لم يَحُلَّ الوصف المكتوب حيث حلت الكتابة.
الموضع الثاني: قوله تعالى {فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم}، وقول الرسول صفة للرسول، ووصف الحادث حادث يدل على الكلام القديم، فمن زعم أن قول الرسول قديم فقد رد على رب العالمين.
الموضع الثالث: قوله تعالى {فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم}.
والعجب ممن يقول: القرآن مركب من حرف وصوت، ثم يزعم أنه في المصحف، وليس في المصحف إلا حرف مجرد لا صوت معه؛ إذ ليس فيه حرف متكون من صوت، فإن الحرف اللفظي ليس هو الشكل الكتابي، ولذلك يدرك الحرف اللفظي بالآذان ولا يشاهد بالعيان، ويشاهد الشكل الكتابي بالعيان ولا يسمع بالآذان، ومن توقف في ذلك فلا يعد من العقلاء فضلا عن العلماء، فلا أكثر الله في المسلمين من أهل البدع والأهواء، والإضلال والإغواء.
ومن قال بأن الوصف القديم حال في المصحف، لزمه إذا احترق المصحف أن يقول إن وصف الله القديم احترق، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً، ومن شأن القديم أن لا يلحقه تغير ولا عدم، فإن ذلك مناف للقدم.فإن قالوا أن القرآن مكتوب في المصحف غير حال فيه، كما يقوله الأشعري رحمه الله، فلم يلعنون الأشعري، وإن قالوا بخلاف ذلك، فانظر{كيف يفترون على الله الكذب، وكفى به إثماً مبيناً}.
وقد قال عليه الصلاة والسلام "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك" وقال بعض الأكابر "من أراد أن ينظر منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده". اللهم فأنصر الحق، وأظهر الصواب، وأبرم لهذه الأمة أمراً رشدا، يَعِزُ فيه وليك، ويَذِلُ فيه عدوك، ويُعملُ فيه بطاعتك، وينهى فيه عن معصيتك.
والحمد لله الذي اليه استنادي وعليه اعتمادي، وهو حسبي ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين آمين."
رابط ذو صله : | http://www.sunnaonline.org |
القسم : | العقــيدة الإســلامية |
الزيارات : | 3945 |
التاريخ : | 31/12/2010 |
|