الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَتبَ مَكاتِيبَ أي أمَرَ بكِتَابتِها إلى مُلوكٍ ورؤساءَ في زمَانِه مِنهُم كِسرَى وقيصَر، قَيصَرُ كانَ يحكُم بلادَ أَورُوبا وبلادَ الشّام إلى قَريبٍ منَ المدينةِ وكِسرَى كانَ يحكُم العِراقَ واليَمَن وبلادَ إيرانَ كُلَّها، الرسولُ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ كَتَبَ إلى هِرَقْلَ بعدَ البَسمَلةِ [مِن محمّدٍ عَبدِ اللهِ ورَسُولِه إلى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلامٌ علَى مَنِ اتّبَعَ الهُدَى، أمّا بَعدُ فَإنّي أَدعُوكَ بدِعايةِ الإسلام، أَسلِم تَسْلَم وإلا فإنّ عَليكَ إثمَ الأَرِيْسِيِّينَ] مَعناه أنتَ تَأخُذُ إثمَ الفَلاحِينَ، مُرادُه إثمَ الرّعِيّةِ، رَعِيّتُكَ إن لم تُسلِم أنتَ لا تُسْلِمُ، فأَنتَ السّبَبُ، فأَنتَ عَليكَ ذَنبُهُم معَ ذَنبِكَ، لأنّه لوْ أَسلَمَ لأَسلَمُوا، لكنْ أَبى، بامتِناعِه منَ الإسلامِ صَارَ يحمِلُ وِزرَه ووِزرَ الرّعيّةِ، ورَعِيّتُه أيضًا يحمِلُونَ ذُنوبَهم، لكنْ هوَ يحمِلُ ذَنبهُ وذنبَ رَعيّتِه لأجلِ أنّهُ تَسبّبَ لعَدمِ إسلامِهم، لأنّه لو أَسلَم لأسلَمُوا.
قالَ إلى هِرقلَ عظِيم الرُّوم، معناه رئيسِهم، هذا مَا فيه تعظِيمٌ، ما عظَّمَه إنما بيَّنَ أنّ كتابَه هذا موجَّهٌ إلى رئيسِهم، لأنَّه لو قالَ هِرَقلَ فقَط كان يوجَدُ هِرقلُ غَيرُه، وإنمَا قالَ إلى هِرقلَ عظِيمِ الرّوم. الرسولُ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ ما عَظّمَ كافرًا قَطُّ. فأرادَ هِرقلُ أن يُسلِمَ لأنّه كانَ عِندَهُ عِلمٌ بأنّه يَأتي نَبيٌّ اسمُه أحمَد لأنّ عِيسَى عليه السّلام أخبَرهُم بأنّه يأتي بعدِي نَبي اسمُه أحمَدُ فآمِنُوا بهِ وانصُروهُ، عندَه هذا العِلمُ لذلكَ رَغِبَ أن يُسلِمَ، هِرَقلُ أَرادَ أن يُسلِمَ لكنْ خافَ أن يَنبُذَه قَومُه أو أن يَقتُلُوه، خافَ أحدَ الأَمرَين، جمَعَ رؤساءَ مِن قَومِه فقالَ لهم: هَل لَكُم في أن نَتّبِعَ هَذا النّبيَّ العَربيّ، فنَفَرُوا مِن هَذِه الكَلمةِ، فلَمّا رءاهُم نَفرُوا قال: إنّمَا أَردتُ أن أعرِفَ صَلابَتَكُم على دينِكُم والآنَ قَد عَلِمتُ. ففَرِحُوا ورَجَعُوا، خافَ أن يَقتُلُوه أو يُخرِجُوهُ مِن الرِّئاسةِ. هوَ عَرفَ أنّ الرسولَ نَبيٌّ ورَغِبَ أنْ يُسلِمَ لكنْ ءاثرَ الدُّنيا على الآخِرة. وذاكَ المَلِكُ كِسرَى مَزّقَ كتابَ الرّسولِ فدَعا علَيهِ الرّسولُ صلى الله عليه وسلم بأنْ يُمَزِّقَ اللهُ مُلكَه، قال [مزَّقَ اللهُ مُلكَه] بعدَ ذلكَ صارَ المسلِمُونَ يحكُمونَ بلادَه. وإلى مَلِكِ الحَبشةِ أيضا الرسولُ أرسلَ، إلى نحوِ أربعةَ عشَر رئيسًا أرسَلَ مَكاتِيبَ، منهُم مَن أَسلَم ومِنهم مَن أَبَى.
تَعظِيمُ الكافِر للضّرورةِ يجوز كأنْ يخَافَ أن يؤذِيَهُ أو يأخذَ له مالَه، أما لمجرّدِ المجامَلةِ ومُراعَاةِ الخَاطِر فلا يجوز. وكلمةُ تَشَرّفنَا إذا قِيلَت للكافرِ فِيها ما فيها لأنّها تَدُلُّ على التّعظِيم، أمّا لو قالَ للكافر شَرّفتَنا ما فيه ضَررٌ لأنّ معناهَا عظّمتَنا، معناه أنتَ عظّمتَنا. أمّا قولُ رسولِ الله في رسالتِه: من محمدٍ رسولِ اللهِ إلى هِرقلَ عَظِيمِ الرُّوم سَلامٌ على مَنِ اتّبَعَ الهُدَى. هذا مَا فيه تَعظِيمٌ لهِرَقلَ، مَا قالَ لهُ السّلامُ عَليكَ، ثم هِرقلُ أَرسلَ هَديّةً للرّسولِ صلّى الله عليه وسلم وقالَ للرسولِ الذي أرسَلَهُ النّبيُّ أخبِر النبيَّ أَنّي مُسلم، فقال الرسولُ صَلى الله عليه وسلم لما وصلَ إليه الرسول: [كَذَبَ عَدُوُّ الله إنّه ليسَ بمسلِم] ثم بعدَ وفاةِ الرسولِ الصحابةُ أخَذُوا لبنان وسوريا والأردنّ وفِلَسطين، كانت هذهِ البلادُ تحتَ حُكمِه ما كانَ فيها مَن يَعبُدُ الله،كلُّ هذه البلادِ كانوا يعبدُونَ سيدَنا عيسى،كانُوا كفّارًا. بسببِ الصّحابةِ دخَلَ الإسلامُ إلى هذِه البِلاد، وإلى يَومِنا هذا ثَبتَ الإسلامُ بسَعيِ الصّحابةِ، سيدُنا عمرُ فتَحَ كلَّ هذِه البِلاد، أهلُ بيتِ المقدِس كانُوا كفّارًا ما أرادُوا أن يُقاتِلُوا فصَالحُوه على دَفعِ الجِزية فتَركَهُم، هوَ وصَل إلى بيتِ المقدسِ فدَعَوه إكرامًا لهُ لمأدُبةِ طعَام إلى الكَنيسة فأَبى وقال: إنّا لا نَدخُل كَنائسَكُم من أجلِ التّمَاثِيل، هم عادةً يَضعُونَ صُوَرًا. هذَا الصّحيح، أمّا ما يقولُه بعضُ النّاسِ إنّه أبى لأنّه خافَ أن يأتي المسلمونَ فيما بعدُ ويأخذُوا هذا المكانَ الذي هو للنصارى فهذا كذِبٌ ما حصلَ بالمرّة.