يقولُ الله تعالى في سورةِ الأنعام (وهو الذي يَتَوَفَّاكُمْ بالليلِ ويَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بالنهار[60]).. معناه: هو الذي يَقْبِضُ أرواحَكم عن التصرُّف بالتمامِ وأنتم نائمون.. (ويَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بالنهار) أي ويعلَم ما اكتسبتُم بالنهار.. وجوارحُ الإنسان أعضاؤه التي يكتسِب بها.. وفي سورةِ الزُّمَرِ (اللهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حينَ موتِها والتي لم تَمُتْ في منامِها فيُمْسِكُ التي قَضَى عليها الموتَ ويُرْسِلُ الأخرى إلى أجلٍ مُسَمًّى، إنَّ في ذلكَ لَآياتٍ لقومٍ يتفكَّرون[42]).. وعن النبيِّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، أنَّه أوصى أن يقولَ أحدُنا إذا أوى إلى فراشه [باسمِك رَبِّي وَضَعْتُ جنبي وبكَ أرفعُه، فإن أمْسَكْتَ نفسي فارحمْها، وإن أرسلتَها فاحفظْها بما تحفظُ بهِ عبادَك الصالحين]، وإذا استيقظَ قال [الحمد للهِ الذي عافاني في جسدي ورَدَّ عليَّ رُوحي وأذِنَ لي بذِكره].. رواه التِّرْمِذِيُّ في (سننه) من حديثِ أبي هريرةَ، رضي الله عنه، وقال [وفي البابِ عن جابرٍ وعائشةَ.. وحديثُ أبي هريرةَ حديثٌ حَسَنٌ].. وكان رسولُ الله يقولُ بعدَما يستيقظُ من نومهِ [الحمدُ لله الذي أحيانا بعدَما أماتنا وإليهِ النشور].. رواه مسلمٌ في (صحيحه) من حديثِ البَرَاءِ بنِ عازِبٍ، رضي الله عنه، بإسنادٍ صحيح.. والنوم هو الموتةُ الصغرى.. والنُّشُورُ هو الإحياءُ والبعثُ بعد الموتِ.. وعن النبيِّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، قال [النومُ أخو الموتِ والجَنَّةُ لا موتَ فيها].. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ في (المعجمِ الأوسطِ) والبيهقيُّ في (شُعَبِ الإيمان).. وعن النبيِّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، قال [الرؤيا الصالحةُ من الله والحُلُمُ من الشيطان].. رواه البُخَارِيُّ وأحمدُ ومالكٌ وغيرُهم..
الرؤيا مشاهدةٌ روحيَّة.. الرؤيا عَمَلُ الرُّوحِ وليسَ عَمَلَ العَيْن.. الرُّوحُ تَرَى، لكنْ ليسَ كرؤيةِ العين.. الرُّوحُ تمتدُّ إلى الخارج من غيرِ أن تنقطعَ عن الجَسَد.. الرُّوحُ تمتدُّ أثناء النومِ كالشُّعَاعِ ثمَّ تعود ولا تفارقُه مفارقةً تامَّةً كاملة.. وإنَّما يبقَى لها، أثناء النوم، اتصالٌ وسلطانٌ على الجَسَدِ.. فإذا فارقَته مفارقةً تامَّةً كاملةً فذلكَ الموت.. وللتقريبِ نقولُ: إنَّ الشمسَ تبعُد مسافةً بعيدةً عن الأرضِ ولكنْ ضَوْؤُها يَتَّصِلُ بالأرض.. الرُّوحُ يُذَكَّرُ ويُؤَنَّث.. فيقال: هذا الرُّوحُ.. ويقال: هذه الرُّوح.. والرُّوحُ جسمٌ لطيف يُدَبِّرُ البَدَنَ.. الرؤيةُ تكونُ بالعين. وأمَّا الرؤيا، على وزن فُعْلَى، فتكونُ في المنام.. وجمعُ الرؤيا رُؤًى أي بالتنوين.. تقول: رأى زيدٌ في منامهِ رُؤْيا، على وزن فُعْلَى، بلا تنوين.. إذا ماتَ الإنسانُ خَرَجَتْ رُوحُهُ من يافوخهِ.. واليافوخُ هو حيث يلتقي عَظْمُ مُقَدَّمِ الرأسِ ومُؤَخَّرُهُ.. فلا يقالُ لوَسَطِ الرأسِ نافوخ.. وإنَّما يقالُ له اليَأْفُوخُ أو اليافُوخ..
وحُرْمَةُ تعبيرِ الرُّؤْيا على غيرِ أهلهِ حرامٌ بالإجماع.. وأهلُ التعبيرِ هم الأولياء، وليسَ كلُّ وليٍّ يُعْطَى هذا العِلْمَ إلّا أهلَ الخُصُوصِ.. غيرُ الوليِّ الذي أعطاهُ الله هذا العلمَ حرامٌ عليه أن يُفَسِّرَ الرُّؤْيا.. غيرُ الوليِّ الذي أعطاهُ الله هذا العلمَ لا يُفَسِّرُ لنفسهِ ولا يُفَسِّرُ لغيرِه.. لا يجوزُ له أن يَحْكُمَ على الرُّؤْيا من عندِ نفسهِ بأنَّهَا خيرٌ أو شَرٌّ.. لكن يجوزُ له أن يقول: هذه الرُّؤْيا خيرٌ إن شاء الله.. أو: هذه الرُّؤْيا لعلَّها خيرٌ.. أو: هذه الرُّؤْيا لعلَّها شَرٌّ.. أمَّا أن يقولَ: يحصلُ كَذَا، فيَجْزِمَ ويُفَسِّرَ للناسِ من عندِ نَفْسهِ فهذا حرام، إلّا أن يكونَ إنسانًا تقيًّا من أهلِ العلمِ أعطاهُ الله هذا العلمَ.. ولا يجوزُ إساءةُ الظَّنِّ من أجلِ رُؤْيا رءاها بمسلمٍ ظاهرُها قبيح..
ثمَّ إنَّه قد ثَبَتَ عن النبيِّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، أنَّ من رأى رُؤْيا تعجبُه فَلْيَقُصَّهَا ومن رأى رُؤْيا لا تعجبُه فلا يَذْكُرْهَا ولْيَتْفُلْ عن يسارِه ثلاثَ مَرَّاتٍ ثمّ ليقلْ: أعوذُ بالله من شَرِّ الشيطانِ ومن شَرِّ رُؤْيايَ هذِه ثمَّ يتحوَّل.. قال: فإنَّهَا لا تَضُرُّهُ.. رواهُ البُخَارِيُّ وغيرُه.. ولا ينبغي قَصُّ الرُّؤْيا إلّا لعالِم أو إنسانٍ ناصحٍ يحبُّ له الخيرَ..
والرُّؤْيا المناميَّة ثلاثةُ أقسام: رُؤْيا بُشْرَى من الله، ورُؤْيا تحزينٌ من الشيطان، ورُؤْيا أضغاثُ أحلام.. ولا يكونُ الْمُعَبِّرُ للرُّؤْيا المناميَّةِ إلّا وليًّا، وذلكَ بالإجماعِ كابنِ سيرينَ وقليلينَ غيرِه.. ولم يُشَجِّعْ رسولُ الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، أفضلَ أولياءِ أمَّته، أبا بكرٍ، على تعبيرِ المنام، بل قال له لمَّا فعلَ ذلك [أصبتَ في بعضٍ وأخطأتَ في بعض]، كما رَوَى ذلكَ البُخَارِيُّ..
عن النبيِّ، صلَّى الله عليه وسلَّم، قال [ذَهَبَتِ النُّبُوَّةُ وبَقِيَتِ الْمُبَشِّراتُ].. قيل [وما الْمُبَشِّراتُ يا رسولَ الله؟].. قال [الرُّؤْيا الصالحةُ يراها العبدُ الصالحُ أو تُرَى له].. رواه التِّرْمِذِيُّ ومسلم.. وقال عليه الصلاةُ والسلام [إذا اقتربَ الزمانُ لم تَكَدْ رُؤْيا المؤمِن تكذِب.. وأصدقُهم رُؤْيا أصدقُهم حديثًا].. رواه التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ.. معناه: رُؤْيا المؤمنِ الكاملِ تكونُ في ءاخرِ الزمان أقوى، لا تكذبُ، لكنْ تأويلُها يخفَى على أكثرِ الناس إلّا على أهلِ الاختصاص.. المنامُ أحيانًا يوافقُ الظاهرَ وأحيانًا لا يوافقُ الظاهرَ.. أكثرُ الرُّؤَى ليست على الظاهرِ.. ثبَت في (الصحيحين) أنَّ رسولَ الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، رأى مَرَّةً في منامهِ الدَّجَّالَ عندَ الكعبة.. وهو، عليه الصلاة والسلام، أخبرَ أنَّ الدَّجَّالَ لا يدخلُها..
أمَّا رؤيةُ اللهِ في المنامِ فقد اختلفَ علماءُ أهلِ السُّنَّةِ في ذلكَ على ثلاثةِ أقوال.. قال بعضُهم [لا يجوزُ أن يُرَى اللهُ في المنام، لأنَّ ما يُرَى في المنامِ خَيَالٌ ومِثالٌ، والله منزَّه عن الخَيَالِ والْمِثالِ].. وقال بعضُهم [لا مانعَ من أن يُرَى اللهُ في المنامِ بلا كيفيَّةٍ وبلا جهةٍ وبلا مقابلةٍ وخَيالٍ ومِثالٍ كما هو اعتقادُنا.. فإن قال قائلٌ {أنا رأيتُ اللهَ في المنامِ لا يشبهُ شيئًا من الأشياءِ لم يكن بيني وبينَه مسافةٌ ولا مقابلةٌ ولا مُدَابَرَةٌ، رأيتُه كما هو لا لونَ له ولا شكلَ له ولا هيئةَ له} صَحَّتْ رُؤْياهُ].. وقد رُوِيَ عن كثيرٍ من السلفِ أنَّهم رَأَوُا اللهَ في المنامِ.. ومِنْ هؤلاءِ أبو يزيدٍ البُسْطامِيُّ، فقد رُوِيَ عنه أنَّه قال {رأيتُ ربِّي فقلتُ له: كيفَ الطريقُ إليكَ؟.. فقال: أترُك نفسَك وتعال}.. معناه: تَخَلَّ عن هواكَ ثمَّ اجتهد في عبادتي وبهذا يكون العبدُ واصلًا إليَّ وليًّا لي وحبيبًا من أحبابي.. وكذلكَ أحمدُ بنُ خَضْرَوَيْهِ، فإنَّه رأى اللهَ في المنام، وكذلك حمزةُ الزَّيَّاتُ، وكذلك أبو الفوارسِ شاه بنُ شجاعٍ الكَرْمَانِيُّ، وكذلكَ مُحَمَّدُ بنُ عليٍّ التِّرْمِذِيُّ. ثمّ بعدَ هؤلاء أيضًا نُقِلَ عن الشيخِ شمسِ الدينِ الكَرْدَرِيِّ من مشاهيرِ علماءِ الحنفيّةِ الكبار.. وأمَّا الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ فلم يثبُت أنَّه رأى ربَّه في المنام، لكن يُرْوَى عنه هذا.. ويُرْوَى عن أبي حنيفةَ أنَّه رأى ربَّه في المنامِ تسعةً وتسعينَ مَرَّةً، ولم يثبُت..
وقال بعضُهم وهم الفريقُ الثالث [يجوزُ أنْ يُرَى اللهُ في المنامِ على شكلٍ ومِثال].. وليسَ معنى ذلك أنَّ الله تَصَوَّرَ للعبدِ وتَمَثَّلَ في حالِ الرُّؤْيا بذلكَ المثال.. وإنَّمَا ذلكَ يعودُ إلى حالِ الرائي من حيثُ التأويل.. فعلى هذا ينبغي أن لا نتسرَّع بالانكارِ على من يقولُ {رأيتُ الله في المنامِ بشكلِ كذا}.. بل ينبغي أن يُنْظَرَ في حالهِ، فإنَّه إن كان يعتقد في حال يَقَظَتهِ أنَّ الله منزَّه عن الشكلِ والهيئةِ والصورةِ والحجمِ واللونِ وكلِّ ما هو من صفاتِ الخَلْقِ ثمَّ قال {رأيتُه في المنامِ بصورةِ كذا} ولم يعتقد أنَّ الله تشكَّل فلا نكفِّره.. وأمَّا إنِ اعتقد أنَّ الله تَصَوَّرَ وتشكَّل فأتاهُ في المنامِ وهو مُتَشَكِّلٌ فهذا يُكَفَّرُ..ا أنظرِ المزيدَ من التفصيل في [(إظهار العقيدةِ السُّـنِّـيَّةِ بشرحِ العقيدةِ الطَّحَاوِيَّةِ)/باب اختلاف علماء أهلِ السُّنَّةِ في رؤيةِ الله في المنام] للحافظ الهرري رحمه الله تعالى..
رابط ذو صله : | http://www.sunnaonline.org |
القسم : | الخــطب والـــدروس |
الزيارات : | 8261 |
التاريخ : | 11/10/2014 |
|