معرفة جهة القبلة قبل الشروع في الصلاة شرط لصحتها
إذا أراد المسلمُ القيامَ إلى الصَّلاة فإنَّ عليه أنْ يعرفَ مَوْقِعَهُ من الكعبةِ قبلَ أنْ يشرعَ في صلاته. وذلك يكون إما:
- بأنْ يَرَى الكعبةَ عِيانًا لمنْ أمكنه رؤيتُها عِيانًا فيستقبلَها كأنْ كان حاضرًا أمامَها،
- أو يخبرَه عن اتجاهها شخصٌ ثقةٌ عدلٌ يَرَى الكعبةَ بعينهِ فيأخذَ بقوله.
فإن تعذَّر رؤيتُها كأنْ كان بعيدًا عنها مَثَلًا اعتمدَ إنْ شاء على المساجد التي مرَّت عليها أزمنةٌ ومَرَّ بها علماء كُثُرٌ من أهلِ العلمِ والفَهْمِ ولم يعترضوا على محراب هذا المسجد. وإنْ شاء استدلَّ بحركةِ الشَّمْسِ أو بالنجمةِ القطبيَّة أو بالإبرة المغناطيسيَّة لمعرفة الاتجاهاتِ الأربعةِ التي تساعدُه على تحديد اتجاه الكعبة. فإنْ تعذَّر عليه رؤيةُ النجمةِ القطبيَّة أو مَطْلِعِ الشَّمْسِ أو مغربها اعتمدَ إنْ شاء على قول ثقةٍ رأى بعينهِ النجمةَ القطبيَّة أو مَطْلِعَ الشَّمْسِ ومغربهَا. فإن تعذَّر ذلك سأل غيرَه ممَّن اجتهد لمعرفةِ اتجاه الكعبة وفَهِمَ اجتهادَه والأساسَ الذي بنى عليه اجتهادَه، حتَّى إذا اطمأَنَّ قلبُه إلى اجتهاده أخذ به.
أمَّا إذا أحدُكم كَبَّرَ ناويـًا الصَّلاةَ من دون اجتهادٍ منه بالمرَّة لمعرفة موقعهِ هو من الكعبةِ وإنما اعتمادًا على قول غيرِه ممَّن اجتهد لمعرفة اتجاه القِبلة من غيرِ أنْ يَفْهَمَ اجتهادَه فيطمئنَّ قلبُه إلى هذا الاجتهاد فإنَّ صلاتَه باطلةٌ لا تَصِحُّ وإنْ تبيَّن له فيما بعدُ أنَّ الاتجاهَ الذي صَلَّى إليه صحيح.
القادرُ على الإجتهاد في القبلةِ لا يأخذُ بقول مجتهدٍ غيرِه. فإنْ فَعَلَ فصلاتُه باطلةٌ لا تنعقد. عليه أنْ يجتهدَ هو لنفسه. إذا كان أحدُكم قادرًا على أنْ يجتهدَ بنفسه لمعرفة اتجاه القبلة فإنَّ من الواجب عليه أن يعتمدَ على نفسهِ ولا يجوزُ له أن يعتمدَ في ذلك على اجتهاد غيرِه من غيرِ أن يفهمَ اجتهادَه فيطمئنَّ قلبُه إلى اجتهاده، لا يجوزُ له ذلكَ حتَّى ولو كانَ هذا الذي اجتهدَ من أهلِ العلم والفَهْمِ والصَّلاح. أصحابُ المذاهب الأربعة اتفقوا على ذلك. وأمَّا الطِّفْلُ المُمَيِّزُ الذي لا يُحْسِنُ الاجتهادَ فيقالُ له: القبلةُ من هنا ..
وإذا دخلتَ مسجدًا من المساجد فكذلكَ لا بُدَّ لكَ من الاجتهاد لمعرفةِ القبلةِ إلَّا إذا كانَ هذا المسجدُ قديمًا مَضَى عليه نحوُ ثلاثُمِائَةِ سنةٍ مَثَلًا أو أكثرَ وصلَّى فيه أهلُ العلم من غيرِ أنْ يُنْكِرُوا وجهةَ محرابهِ فهذا تَصِحُّ الصَّلاةُ فيه من غيرِ اجتهاد. المسجدُ الذي لم يَمْضِ عليه زَمانٌ طويلٌ لا بُدَّ من الاجتهاد فيه ..
ويُستثنى أيضًا من وجوب الاجتهاد ما إذا ضاقَ الوقتُ عن الاجتهاد فإنكَ تُصَلِّي كيفما تشاء ثمَّ تُعيد. إذا لم تعرفْ اتجاهَ القبلة ولم تجد مسجدًا صلَّى فيه المسلمونَ زمانـًا طويلًا فقلتَ في نفسكَ إن اشتغلتُ الآنَ بالاجتهاد، أي بالتفتيش عن علامات القبلة، خَرَجَ الوقتُ فإنَّ عليكَ أنْ تُصَلِّيَ قبلَ خُرُوجِ الوقت ثمَّ تُعيدَ تلكَ الصَّلاة.
ومَنْ عَجَزَ عن معرفة اتجاه القِبلة ولم يجد مَنْ يرشدُه صَلَّى إلى أيِّ اتجاه شاء. ثمَّ بعدَما يعرفُ الاتجاهَ يعيدُ الصَّلاة. أي إن احتارَ ولم يَدْرِ كيفَ يستدلُّ على جهة القِبلة ولم يجد مَنْ يرشدُه صلَّى إلى أيِّ اتجاه شاء ثمَّ يعيد. وإذا اجتهدَ شخصٌ لمعرفة القِبلة وبعدَ الصَّلاة تَيَقَّنَ الخَطَأَ وظَنَّ الصَّوابَ فعليه إعادة. وأمَّا إذا ظَنَّ الخَطَأَ وظَنَّ الصَّوابَ فلا إعادةَ عليه.
ومن اجتهد قبل الصَّلاة ثم بعد الصَّلاة تبيَّن له أنه كان قد أخطأ قليلا في اجتهادِه فإنَّ صلاتَه صحَّت في مذهب الأئمَّة الأحناف. ومن انحرفَ ، أثناء صلاتهِ، عن القِبلة انحرافًا يسيرًا لا تَبْطُلُ صَلاتُه عندَ المالكيَّة لأنه ما شَرَّقَ ولا غَرَّبَ. هذا إذا لم يَتَعَمَّدِ الانحراف.
تنبيه: المأمومُ إذا اختلفَ اجتهادُه عن اجتهادِ الإمامِ في الصَّلاةِ في معرِفة القِبلة فإنَّ قُدْوَتَهُ به لا تَصِحُّ.
أمَّا أذانُ المؤذِّن الثقة فإنه يُعتَمَدُ عليه. أَمْرُ الوقت أسهلُ من أمرِ القِبلة. لو أراد شخصٌ أن يُصَلِّيَ فقال في نفسهِ هل دَخَلَ الوقتُ أم لا فدَخَلَ في الصَّلاة من دون أن يجتهد ليتحقَّق من دخول الوقت فإن عليه ذنبًا ولو تبيَّن له فيما بعدُ أنَّ الوقتَ قد دخل، ويجبُ عليه أن يعيدَ صلاتَه لأنها لم تَصِحَّ منه. أَمَّا مَنْ تأكَّد من دخول الوقت ثم قال في نفسه هل خَرَجَ الوقتُ أم لا ولم يكنْ هو قد صَلَّى صاحبةَ الوقت، ثم قال في نفسه لأُصَلِّينَّ فإنْ صَادَفَتْ صلاتي الوقتَ صارتْ هذه الصَّلاةُ أداءً أمَّا إنْ لم تصادفِ الوقتَ تكونُ قضاءً فصلَّى ثمَّ تبيَّن له أنَّ الوقتَ لم يخرجْ أو أنَّ الوقتَ قد خَرَجَ فإنَّ هذا الرَّجُلَ صلاتُه صحيحةٌ وليس عليه أن يُعيدَها.
مَنْ قَدَّمَ الصَّلاةَ على وقتها من دُون عُذْرٍ فقد عَصَى الله تعالى ولم تَصِحَّ صلاتُه. ومَنْ أخَّرَ الصَّلاةَ عن وقتها من دُون عُذْرٍ فقد عَصَى الله بتأخيرِه أيضًا. وأشدُّ المعصيتينِ معصيةُ التقديم على الوقتِ لأنَّ ذِمَّتَهُ لا تَبْرَأُ ولا تقعُ صلاتُه أداءً ولا قضاءً بل تبقَى في ذمَّته. وأمَّا مَنْ أَخَّرَها عَن وقتها من دونِ عُذْرٍ، أي صَلَّاها بعدما تحقَّق من معرفةِ دخولِ الوقتِ وخروجهِ، فإنَّ صلاتَه تَقَعُ قضاءً، وهُوَ عاصٍ لله تعالى بتأخيرِه الصَّلاةَ من دون عُذْرٍ إلى ذلك الوقت. فمعصيةُ التأخيرِ أخفُّ من معصية التقديم لأنَّ الصَّلاةَ التي صُلِّيَتْ بعدَ خُرُوجِ وقتها وقعتْ لصاحبها قضاءً، وأمَّا الذي يُقَدِّمُ الصَّلاةَ على وقتها فكأنه لم يُصَلِّ بالمرَّة، وهذا يقال فيه: صَلَّى وما صَلَّى .. أَيْ صَلَّى صورةً ولم يُصَلِّ حقيقةً.
والحمدُ لله رَبِّ العالَمين