ما حكم من قال القرءان نطق بهذه الحقيقة؟
قال شيخ الإسلام الهرري رحمه الله تعالى: ما فيه ضررٌ، لأن القرءانَ يُطلقُ على الحروفِ ويُطلَقُ على ما تُعبِّرُ عنه هذه الحروفُ وهو كلامُ الله الذاتيُ الذي ليسَ حرفًا وليسَ صوتًا، أما إذا قيل القرءانُ وأُريدَ به صفةُ الكلامِ القائمةُ بذاتِ الله لا يقالُ القرءانُ نطقَ في هذه الحالِ. في حالٍ يُمنعُ وفي حالٍ لا يُمنعُ. النطقُ الذي هو بالحرفِ والصوتِ لا يكونُ إلا للحادثِ لأن الصوتَ لا يكونُ أزليًا والحروفَ لا تكونُ أزليةً والله لا يتصفُ إلا بالصفاتِ الأزليةِ، لا نستطيعُ أن نتصورَ كلامَ الله الذاتي الأزليَ لا يُمكننا لأنه لا يُشبِه كلامنا بوجهٍ، نعتقدُ بقلوبنا فقط أنه كلامٌ أزليٌ أبديٌ ليسَ حرفًا وليسَ صوتًا ليسَ هو شىءٌ يحصلُ ثم ينقضي ثم يحصلُ شىءٌ ثم ينقضي، الحروفُ القرءانيةُ التي نقرؤها يوجدُ شىءٌ منها ثم ينقضي ثم يوجد شىءٌ ثم ينقضي، هذا شأنُ الحادثِ أما الأزليُ لا يكونُ هكذا. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين إلى مِنَ الجنةِ والناس هذا شىءٌ يبدأُ ثم ينقضي ثم يبدأُ ثم ينقضي يَسبقُ بعضُه بعضًا، الباءُ في بسمِ الله سبقت ثم بعدما انقضت وُجِدتِ السينُ، كلُّ حرفٍ من حروفِ القرءانِ ما بعدَه يتأخرُ عما قبلَهُ وهذا حادثٌ لا يكونُ أزليًا. ومع هذا نقولُ القرءانُ كلامُ الله، ولو أُريدَ به اللفظُ المنـزلُ يُقالُ له كلامُ الله لماذا؟ لأنه عبارةٌ عن كلامِ اللهِ الذي ليسَ حرفًا ولا صوتًا، هذا القرءانُ بمعنى اللفظِ الذي تلاه جبريلُ على سيدنا محمدٍ وتلاهُ سيدُنا محمدٌ على الصحابةِ هو عبارةٌ عن كلامِ الله الذاتيِ الذي ليسَ حرفًا ولا صوتًا وليسَ عينَ كلامِ اللهِ الذي هو متكلمٌ به لأن ذاك أزليٌ أبديٌ كعلمِ الله.
علمُ اللهِ عِلْمٌ واحدٌ شاملٌ لكلِّ شىءٍ أزليٌ أبديٌ، علمُ اللهِ ليسَ له ابتداءٌ أي لم يسبِقْهُ عدَمٌ وليسَ له انتهاءٌ أي لا يلحَقُه فناءٌ وليسَ شيئًا يتجددُ، عِلْمُ الله واحدٌ شاملٌ لكلِّ معلومٍ حصلَ في الدنيا ولِـما يحصلُ في الآخرةِ إلى ما لا نهايةَ لـه، وهكذا قدرتُه وهكذا مشيئتُه وهكذا سَمْعُه وبصرُه، يسمعُ الأصواتَ بسمعٍ أزليٍ أبديٍ ليسَ بسمعٍ حادثٍ، نحنُ لما نسمعُ الصوتَ نسمعُه بسمعٍ جديدٍ حادثٍ ولـمّا نرى الـمُبصَراتِ نراها ببصرٍ جديدٍ أما سمعُ الله وبصرُه ليسَ هكذا، سمعُه أزليٌ أبديٌ يسمعُ الأصواتَ الحادِثةَ بالسمعِ الأزليِ الأبديِ وكذلكَ يرى المبصَراتِ ببصرٍ أزليٍ أبديٍ، وكذلكَ قدرتُه قدرةٌ واحدةٌ شاملَةٌ لكلِّ شىءٍ أزليةٌ أبديةٌ، لا يتجددُ صفاتُه كصفاتِ المخلوقِ، المخلوقُ يتجددُ صفاتُه عِلْمُه يزدادُ شيئًا فشيئًا وقد يتغيّرُ إلى الجهلِ بعد وجودِه.
كذلكَ وجبَ أن يكونَ كلامُه كلامًا غيرَ حرفٍ وصوتٍ كلامٌ لا يسبِقُ بعضُه بعضًا كلامٌ واحدٌ له صفاتٌ يوصفُ بالأمرِ والنهيِ والخبرِ والاستخبارِ والوعدِ والوعيدِ من غيرِ أن يكونَ يسبقُ بعضُه بعضًا، أمرهُ أزليٌ ونهيُه أزليٌ أما المأمورُ والمَنهيُ حادثٌ، أمرَنا بالإيمانِ والعبادةِ بأمرٍ أزليٍ أبديٍ أما نحنُ مُحدَثونَ.
سئل الشيخ رحه الله تعالى: فإن قيل: فمن أينَ جاءَ القرءانُ إذا لم يكن هذا اللفظُ شيئا قرأه اللهُ بالحرفِ والصوتِ؟
قال الشيخ رحمه الله: إن القرءانَ بمعنى اللفظِ أخذهُ جبريلُ بأمرِ الله من اللوحِ المحفوظِ، كانَ مكتوبًا باللوحِ المحفوظِ ثم اللهُ أسْـمَعَ جبريلَ كلامَه الذي ليسَ حرفًا ولا صوتًا فهمَ منه خذ هذا الذي كُتِبَ على اللوحِ المحفوظِ وأنزِلْه على محمدٍ اقرأهُ على محمد، فأخذه جبريلُ وأنزلَه على سيدنا محمدٍ، ليسَ الله قرأَه على جبريلَ بالحرفِ والصوتِ والدليلُ على أن الله لـم يقرأْهُ على جبريلَ هذه الآيةُ {إنه لقولُ رسولٍ كريم ذي قوةٍ عندَ ذي العرشِ مَكِين مُطاعٍ ثَم أمين}. {إنه لقولُ رسولٍ كريم} معناهُ القرءانُ قولُ رسولٍ كريمٍ أي جبريلَ أي شىءٌ قرأَهُ جبريلُ ليسَ شىءٌ قرأَه الله، هذا الرسولُ الكريمُ هو جبريلُ، الله وصفَه بخمسِ صفاتٍ: وصفَه بالرسالةِ لأنه رسولٌ بينَ الله وبين الأنبياءِ، جبريلٌ رسولٌ بين الله وبين الأنبياءِ والملائكةِ الآخرين هو الذي يُبلِّغُ عن الله، ووصفَه بأنه {كريمٌ} أي درجتُه عند الله كبيرةٌ، {ذي قوةٍ} أي قوتُه كبيرةٌ، جبريلٌ الله أعطاهُ قوةً كبيرةً، هو الذي رفعَ بعد ان استأذنَ الله رفعَ مدنَ قومِ لوطٍ الأربع، جبريلٌ استأذن ربَّه فرفعَ هذه المدنَ قلعَها من الأرضِ رفعَها إلى مسافةٍ بعيدةٍ في الفضاءِ وجعلَ عاليها سافلَها، أبادهم كلَّهم، لـه هذه القوةُ العظيمةُ لذلك الله قال {ذي قوةٍ} أي الذي لـه قوةٌ كبيرةٌ. {عند ذي العرشِ مَكين} أي عند الله أي عند خالقِ العرشِ معناهُ مالِكِ العرشِ لأن الله مالِكُ كلِّ شىءِ ليسَ معناهُ اللهُ مسكَـنُه العرشُ إنما معناهُ الذي خلَقَ العرشَ، {عند ذي العرشِ مكين} معناه لـه جاهٌ كبيرٌ عند الله. {مطاعٍ} معناهُ الملائكةُ يُطيعونَ جبريلَ يأخذونَ الأوامرَ منه، {أمين} أي أمينٌ على وحيِ اللهِ لا يُغيِّرُ ولا يُبَدِّلُ.
لو كانَ القرءانُ شىءٌ قرأه اللهُ بالحروفِ والصوتِ ما قالَ {إنه لقولُ رسولٍ كريمٍ}، لكن ليُبَيِّنَ لـنا أن القرءانَ ليسَ شيئًا قرأه اللهُ بالحرفِ والصوتِ. ما معنى قولِ: جبريلُ أخذهُ من اللوحِ المحفوظِ بأمرِ الله وقرأه على محمدٍ؟ جبريلُ قرأه بالحرفِ والصوتِ على محمدٍ ليسَ الله قرأَه بالحرفِ والصوتِ على جبريلَ، جبريلُ قرأه بالحرفِ والصوتِ على محمدٍ لأنَّ الحرفَ حادثٌ والصوتَ حادثٌ، اللغةُ العربيةُ وغيرُها ما كانت موجودةً قبل أن يخلُقَها الله. والله يتكلمُ أزلا وأبدًا ليسَ مثلَ الخلقِ يبتدىءُ كلامًا ثم يَختِمُه بل كلامُهُ شىٌ ليسَ له ابتداءٌ وليسَ له انتهاءٌ، القرءانُ الذي هو لفظٌ منـزلٌ يسبقُ بعضُه بعضًا ويتأخرُ بعضُه عن بعضٍ، القرءانُ ابتداؤه بالباءِ في بسمِ الله الرحمن الرحيم وانتهاؤه بالسينِ في سورة الناسِ.
لا يكونُ العبدُ عارفًا بالله ما دامَ يعتقدُ في الله أنه يتكلّمُ بالحرفِ والصوتِ، الذي يتكلمُ بالحرفِ والصوتِ مخلوقٌ، الله لا يوصفُ بصفةٍ حادثةٍ، وكلامُه صفةٌ أزليةٌ أبديةٌ ليسَ حرفًا ولا صوتًا لا يتجددُ ولا يزيدُ ولا يَنقُصُ، أما مَن يعتقدُ أن الله نطقَ بحروفِ القرءانِ كما نحنُ ننطِقُ بها فهو كافرٌ جاهلٌ به لأنه جعلَهُ يتكلَّمُ مثلَ خلْقِه.
فإن قال قائلٌ أليسَ وردَ في القرءانِ {لا تُحرِّكْ بـهِ لِسانَكَ لِتعجَلَ بـه إنّ علينا جمعَه وقرءانَه فإذا قرأناهُ فاتبعْ قرآنه} فإن قيلَ كيف تقولونَ ليس هو الذي يقرأ القرءانَ بالحرف والصوتِ؟ فالجوابُ أنّ قولَه تعالى {فإذا قرأناه} أي جمعناهُ لكَ في صدرِكَ يا محمد، {فاتبع قرآنه} أي اعمل به، في لغة العرب قرأ تأتي بمعنى جمعَ يُقالُ: قرأتُ الماء في الحوضِ أي جمعتُ فيه ماءً، فمعنى {فإذا قرأناه} جمعناهُ لك في صدركَ يا محمد ليسَ معناهُ فإذا قرأناه بالحرفِ والصوتِ، الله تعالى يقولُ {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} أي إذا جمعناهُ لكَ في صدركَ فاعمل به.
النبيُّ خَوْفَ أن يفلِتَ منه كانَ يُحركُ لسانَـه بالقرءانِ وجبريلُ يقرأُ عليه في أثناءِ قراءةِ جبريلَ عليه، الله أوحى إليه أن اللهَ كافلٌ أن يجمعَهُ في صدرهِ فلا تُحرِّك به لِسانكَ في أثناءِ تلاوةِ جبريلَ عليك بالوحي. بعد ذلك سيدُنا محمدٌ عليه الصلاةُ والسلامُ تركَ تحريكَ لِسانِه في أثناءِ قراءةِ جبريلَ عليه.