قال اللّه تعالى {ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وقال اللّه تعالى {إنَّ رَبَّكَ لَبالمِرْصَادِ}.
اعلم أنه لكلّ مكلّف أن يحفظَ لسانَه عن جميع الكلام إلا كلامًا تظهرُ المصلحة فيه، ومتى استوى الكلامُ وتركُه في المصلحة، فالسنّة الإِمساك عنه، لأنه قد ينجرّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثير أو غالب في العادة، والسلامة لا يعدلُها شيء.
فقد روى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال (مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ). فهذا الحديث المتفق على صحته نصّ صريح في أنه لا ينبغي أن يتكلم إلا إذا كان الكلام خيرًا، وهو الذي ظهرت له مصلحته، ومتى شكّ في ظهور المصلحة فلا يتكلم.
وقد قال الإِمام الشافعي رحمه اللّه: إذا أراد الكلام فعليه أن يفكر قبل كلامه، فإن ظهرت المصلحة تكلَّم، وإن شكَّ لم يتكلم حتى تظهر. وروى البخاري ومسلم أيضًا عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال: قلتُ يا رسولُ اللّه، أيُّ المسلمين أفضلُ؟قال (مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ وَيَدِهِ). وروى البخاري في صحيحه، عن سهل بن سعد رضي اللّه عنه، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال (مَنْ يَضْمَنْ لي ما بينَ لَحْيَيْهِ وَما بينَ رِجْلَيْهِ، أضْمَن لَهُ الجَنَّةَ).
وروى الترمذي والنسائي وابن ماجه، عن سفيان بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال: قلت: يا رسول اللّه! حدّثني بأمر أعتصم به، قال (قُلْ رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ) قلت: يا رسول اللّه! ما أخوف ما يخاف عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال (هَذَا) قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وروى الترمذي أيضاً عن ابن عمر رضي اللّه عنهما، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (لا تُكْثِرُوا الكَلاَمَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فإنَّ كَثْرَةَ الكَلامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعالى قَسْوَةٌ للْقَلْبِ، وَإنَّ أبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ تَعالى القَلْبُ القَاسِي).
وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن معاذ رضي اللّه عنه لما سأل الرسول: أخبرني بعمل يُدخلني الجنة ويُباعدني من النار، ثم قال الرسول له:(ألا أُخْبِرُكَ بِمَلاكِ ذلكَ كُلِّهُ؟ قلت: بلى يا رسول اللّه! فأخذ بلسانه ثم قال: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، قلت: يا رسول اللّه! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وُجُوهِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ ألْسِنَتِهِمْ). قال الترمذي: حديث حسن صحي. وزاد الطبراني في رواية مختصرة " ثم إنك لن تزال سالما ما سكت، فإذا تكلمت كتب لك أو عليك". قال الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما ثقات.
وعن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه ارتقى الصفا فأخذ بلسانه فقال: يا لسان قل خيرًا تغنم، واسكت عن شر تسلم، من قبل أن تندم، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (أكثر خطايا ابن ءادم من لسانه).رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. وروى الترمذي، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص؛ أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال (مَنْ صَمَتَ نَجا). وفي الحديث الذي رواه الطبراني (واخزن لسانك إلا من خير فإنك بذلك تغلب الشيطان). وقد روى الطبراني وغيره أن أبا ذر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى اللّه عليه وسلم: فما كانت صحف إبراهيم؟ قال (كانت أمثالا كلها: على العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر فيها فيما صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب؛ وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه، مقبلا على شأنه، حافظا للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه). ثم قال رسول الله لأبي ذر: أوصيك بتقوى الله تعالى، فإنه رأس الأمر كله، وعليك بتلاوة القرآن، وذكر الله تعالى، فإنه ذكر لك في السماء، ونور لك في الأرض. عليك بطول الصمت إلا من خير، فإنه مطردة للشيطان عنك، وعون لك على أمر دينك. إياك وكثرة الضحك، فإنه يميت القلب، ويذهب بنور الوجه. أحب المساكين وجالسهم، وانظر إلى من تحتك ولا تنظر إلى من فوقك، فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عندك. صل قرابتك وإن قطعوك. قل الحق وإن كان مرا. لا تخف في الله لومة لائم.
وروى البيهقي في الشعب موقوفا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به. وقال عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه: ما من شيء أحقُّ بالسجن من اللسان. وقال غيرُه: مَثَلُ اللسان مَثَلُ السَّبُع إن لم تُوثقه عَدَا عليك. وقال الأستاذ أبو القاسم القُشيري رحمه اللّه في رسالته المشهورة: الصمتُ سلامةٌ وهو الأصل، والسكوتُ في وقته صفةُ الرجال؛ كما أن النطق في موضعه أشرفُ الخصال، قال: سمعت أبا عليّ الدقاق رضي اللّه عنه يقول: مَنْ سكتَ عن الحقّ فهو شيطانٌ أخرس. اهـ
ومما أنشدوه في هذا الباب:
احفظْ لسانَك أيُّها الإِنسانُ لا يلدغنَّك إنه ثُعبانُ
كم في المقابرِ من قتيلِ لسانِه كانتْ تهابُ لقاءَه الشجعانُ
إخوة الإيمان والإسلام: الله تبارك وتعالى أنعم على عباده بنِعَمٍ لا يحصيها إلا هو، فكان من تلك النعمِ اللسانُ، فإن الله جعل اللسان للإنسان ليعبر به عن حاجاته التي تهمه لتحصيل منافع ومصالح دينه ودنياه، هذا اللسان نعمة من الله تعالى على عباده ليحصلوا به مصالح دينهم ومصالح ءاخرتهم أي ليستعملوه فيما ينفعهم ولا يضرهم ،فمن استعمل هذا اللسان فيما ينفعه ولا يضره فليس عليه حرج وليس عليه مؤاخذة في الآخرة، وأما من استعمله فيما نهاه الله عنه فقد أهلك نفسه ولم يشكر ربه على هذه النعمة العظيمة.
فمن فكر في قول الله تعالى {ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.عَلِمَ أن كل ما يتكلم به في الجد أو الهزل أو في حال الرضى أو الغضب يسجله الملكان، فهل يَسُرُّ العاقلَ أن يرى في كتابه حين يعرض عليه في القيامة كلمات خبيثة ؟ بل يسوؤه ذلك ويُحزِنُه حين لا ينفع الندم، فليعتن بحفظ لسانه بما يسوؤه إذا عرض عليه في الآخرة. وليفكر العاقل فيما يريد قوله قبل أن يتكلم، فإن كان خيرًا بادر إليه وإلا ألجم لسانه عنه، وليحفظ لسانه من الغيبة والنميمة والبهتان والكذب والفتوى بغير علم واليمين الكاذبة وألفاظ القذف وشهادة الزور والشتم واللعن ومن كل معصية حرمها الله ولا سيما من أكبر المحرمات وأخطرها وهو الكفر بأنواعه الثلاثة القولي والاعتقادي والفعلي. فقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب. وفي رواية الترمذي: إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها في النار سبعين خريفًا.
نسأل الله تعالى أن يعيننا على التقليل من الكلام إلا من خير، وعلى ترك الغضب، وعلى التقليل من التنعم، والقناعة باليسير من الرزق. ءامين