www.sunnaonline.org

خطبة الجمعة: الله لا يأمر بالكفر

الحمدُ لله الحَكَمِ العَدْلِ لا يظلِم بالمرّة* والصلاة والسلام على رسول الله الناهى عن الظلم مثقالَ ذَرَّة* وعلى ءاله وصحبه وكل نفس تقية أبيَّة حُرَّة* وبعد.

عبادَ الله اتقوا الله. قال الله تعالى ﴿يَــأيُّـهَا الذّينَ ءَامـَنـُوا اتـَّـقـُوا اللهَ وَلـْتَنْظـُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِـغَدٍ وَاتـَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ خبيرٌ بِمَا تَعْمَلُون (الحشر، ١٨). جاء فى الحديث الصحيح الذى رواه الإمام أحمد فى مسنده والإمام أبو داود فى سننه وابنُ حِبَّان عن ابن الدَّيْلَمِىّ [هو أبو بُسْر عبدُ اللهِ بن فيروز واسم الديلمىّ فيروز] قال “أَتَيتُ أُبَىَّ بنَ كَعْبٍ فقلت: يا أبا المنذرِ، إنه حدث فى نفسى شىءٌ من هذا القدر.[1] فحَدّثْنى لعلَّ اللهَ يَنفعُنى [أن يُذْهِبَهُ مَنْ قَلْبِى بكلامك]. قال: إنَّ اللهَ لو عذَّب أهلَ أرضِه وسمواتِه [الجنَّ والإنسَ والملائكةَ] لَعذَّبَهم وهو غيرُ ظالِمٍ لهم. ولو رَحِمَهم كانت رحمتُه خيرًا لهم مِن أعمالِهم (إحسانًا منه لا وجوبًا عليه). ولو أنفَقْتَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فى سبيل الله ما قَبِلَه اللهُ مِنكَ حتى تُؤْمِنَ بالقدَر، وَتَعْلَمَ أنَّ ما أصابَكَ (من خير أو شرّ) لم يكن لِيُخْطِئَكَ وما أخطَأَكَ لم يكن ليُصِيبَكَ. ولو مِتَّ على غيرِ ذلك دخَلتَ النارَ [مع الكفار]. قال: ثم أتيتُ عبدَ الله بنَ مسعود فحدَّثنى مثلَ ذلك. ثم أتيتُ حُذَيفةَ بنَ اليَمان فحدَّثنى مثلَ ذلك. ثم أتيتُ زيدَ بنَ ثابِتٍ فحدَّثنى مثلَ ذلك عن النبىّ .”

وروَى الحاكمُ أن علىَّ الرّضَى بنَ موسى الكاظم [2] كان يقعد فى الروضة وهو شابٌّ ملتحِفٌ بِمَطْرَفِ [3] خَزّ فيسألُه الناس ومشايخُ العلماء فى المسجد. فسُئلَ عن القدر فقال: قال الله عزَّ مِن قائِلٍ: ﴿إنَّ الْمُجْرِمِينَ فى ضَلالٍ وَسُعُرٍ* يَوْمَ يُسْحَبُونَ فى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ* إنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * (القمر ٤٧-٤٩). ثم قال الرّضَى: كان أبِى [أى موسى الكاظم] يذكر عن ءابائه أن أميرَ المؤمنين علىَّ بنَ أبى طالبٍ كان يقول: “إنَّ اللهَ خَلقَ كلَّ شىءٍ بقَدَرٍ، حَتَّى العجزَ والكَيْسَ. وإليه المشيئةُ وبه الحَولُ والقُوَّةُ.

إنَّ اللهَ خَلقَ كلَّ شىءٍ بتقديره الأزلىّ. فما دخل فى الوجود حتى الضعفُ فى الفهم والذكاء دخل بتقدير الله. ولله المشيئة العامّة الأزلية الأبدية التى لا تتحول ولا تتغير. ومشيئته سبقت المشيئاتِ كلَّها. والعبد لا يستطيع أن يدفعَ عن نفسه شرًّا ولا يستطيع أن يحترزَ عن سوءٍ ومعصية إلا بحفظ الله. فلله المِنة على عباده الصالحين بحفظه إياهم من الوقوع فى الضلال. ولا أحد يقوَى على طاعةٍ وعمل شريف إلا بتوفيق الله له. فلولا معونةُ الله ما عمل الطائعون حسنة. فللّه الفضل والنعمة. أقول قولىَ هذا وأستغفر اللهَ لى ولكم.

الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله. وبعد عباد الله اتقوا الله. قال الله تعالى ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا* وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبّـِكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا* (الكهف ٢٨-٢٩). معنى الآيات: قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبَهم عن ذكرنا: أيها الناس، مِن ربّـِكمُ [يأتى] الحقُّ، وإليه التوفيقُ والخذلان، وبيده الهدى والضلال. يهدى من يشاء فيؤمن، ويُضِلُّ من يشاء فيكفر. ليس إلىَّ من ذلك شىء. فالله يؤتِى الحقَّ من يشاء وإن كان ضعيفا، ويَحْرِمُه من يشاء وإن كان قويًّا غنيًّا. ولستُ بطارد المؤمنين لِهَوَاكم. فإن شئتم فآمِنوا، وإن شئتم فاكفُروا. وليس هذا بترخيص وتخيير بين الإيمان والكفر. وإنما هو وعيد وتهديد. أى إن كفرتم فقد أعد لكم النارَ، وإن ءامنتم فلكم الجنة.

وقال ابن عباس: من شاء الله له الإيمانَ ءامَن، ومن شاء له الكفرَ كفَر. إنّا أعددنا للكافرين الجاحدين نارًا أحاط بهم سورُها (حائط من نار). وعن أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىّ عن النبىّ قَالَ لَسُرَادِقُ النّارِ أَرْبَعَةُ جُدُرٍ، كِثَفُ كُلّ جِدَارٍ مثلُ مَسِيرَة أَرْبَعِينَ سَنَةٍ. وَبِهَذَا الإِسْنَادِ عن النبىّ قَالَ لَوْ أَنّ دَلْوًا مِنْ غَسّاقٍ [القَيحُ الغليظ] يُهَرَاقُ فى الدّنْيَا لأَنْتَنَ أَهْلُ الدّنْيَا.” رواه الترمذى. وأخرجه الحاكم وقال صحيح الإسناد. ورواه ابن حبان فى صحيحه.

قال تعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فى ءايَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فى النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِى ءَامِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* (فُصّلت ٤٠) المعنى: إن الذين يميلون عن الحق فيكذّبون ءاياتنا، فقالوا: ليس القرءَان من عند الله، أو هو شعر أو سحر، هؤلاء أمرُهم معلوم عند الله. أفمن يُلقَى فى النار على وجهه (الكافر) خير أم الذى يأتِى ءامِنًا يوم القيامة (المؤمن)! فبعدَ ما علمتم أنهما لا يستويان، فلا بد لكم من الجزاء. اعملوا ما شئتم. إنه بما تعملون بصير. أمرُ تهديدٍ. وعيدٌ بتهديد وتوعد.

فاستعِدُّوا لما بعد الموت بالإقبال على الطاعات والإعراض عن المعصيات. واذكروا هاذمَ اللذات كما أمركم رسولكم . اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات.

[1] “القَدَرُ هو تدبير الأشياء على وجه مطابقٍ لعلم الله الأزلىّ ومشيئتِه الأزليةِ فيوجدُها (أى الأشياءَ) فى الوقت التى علم أنها تكون فيه.” والقَدَرُ جعْلُ كل شىء على ما هو عليه. وهو بمعنى التقدير. والإمام الشافعىّ قال: هو المشيئة. وقال الخطَّابىّ: “القَدَرُ الإخبارُ عن تقدُّمِ علم الله بما يكون من أفعال العباد واكتسابها وصدورها عن تقديرٍ منه وخلقِه لها خيرِها وشرّها.”

[2] هو ابنُ موسى الكاظم بنِ جعفرٍ الصادق بنِ محمدٍ الباقرِ بن علىّ زينِ العابدين بن الحسين بن علىّ أبى الحسن، رضى الله عنهم أجمعين.

[3] المِلْحفةُ والمِلحفُ اللباس فوق سائر اللباس من دِثار البرد ونحوه. والمطرَف (بميم مثلثة) رداء من خزّ مربع له أعلام (مخطَّط خطوطا خفية). قال ابن الأثير: الخزُّ المعروف أوَّلًا ثيابٌ تُنسَج من صوف وإبريسَم. وهى مباحة. وإن أريد بالخزّ النوعُ الآخر وهو المعروف الآن فهو حرام لأنه كلَّه معمول من الإبريسَم.


رابط ذو صله : http://www.sunnaonline.org
القسم : الخــطب والـــدروس
الزيارات : 6109
التاريخ : 27/12/2011