قول ابن تيمية بحوادث لا أوّل لها لم تزل مع الله أي لم يتقدم الله جنس الحوادث، وإنما تقدم أفراده المعينة أي أن كل فردٍ من أفرادِ الحوادث بعينه حادث مخلوق، وأما جنس الحوادث فهو أزلي كما أن الله أزلي، أي لم يسبقه الله تعالى بالوجود.ا
وهذه المسألة من أبشع المسائل الاعتقادية التي خرج بها عن صحيح العقل وصريح النقل وإجماع المسلمين، ذكر هذه العقيدة في سبعة من كتبه، موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، ومنهاج السنّة النبوية، وكتاب شرح حديث النزول، وكتاب شرح حديث عمران بن حصين، وكتاب نقد مراتب الإجماع، ومجموعة تفسير من ست سور، وكتابه الفتاوى، وكل هذه الكتب مطبوعة.ا
أمّا عبارته في الموافقة فهي ما نصّه (1) "وأما أكثر أهل الحديث ومن وافقهم فإنهم لا يجعلون النوع حادثا بل قديمًا، ويفرقون بين حدوث النوع وحدوث الفرد من أفراده كما يفرق جمهور العقلاء بين دوام النوع ودوام الواحد من أعيانه". ا.هـ . وقال في موضع ءاخر في ردّ قاعدة ما لا يخلو من الحادث حادث لأنه لو لم يكن كذلك لكان الحادث أزليًا بعدما نقل عن الأبهري أنه قال: قلنا لا نسلم وانما يلزم ذلك لو كان شىء من الحركات بعينها لازمًا للجسم، وليس كذلك بل قبل كل حركة حركة لا إلى أول، ما نصه (2) "قلت هذا من نمط الذي قبله فإن الأزلي اللازم هو نوع الحادث لا عين الحادث، قوله لو كانت حادثة في الأزل لكان الحادث اليومي موقوفا على انقضاء ما لا نهاية له، قلنا: لا نسلم بل يكون الحادث اليومي مسبوقًا بحوادث لا أول لها" ا.هـ.ا
ويقول فيها أيضا ما نصه (3) "فمن أين في القرءان ما يدل دلالة ظاهرة على أن كل متحرك محدث أو ممكن، وأن الحركة لا تقوم إلا بحادث أو ممكن، وأن ما قامت به الحوادث لم يخل منها، وأن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، وأين في القرءان امتناع حوادث لا أول لها" ا.هـ. فهذا من عجائب ابن تيمية الدالّة على سخافة عقله قوله بقدم العالم القدم النوعي مع حدوث كل فرد معين من أفراد العالم. قال الكوثري (4) في تعليقه على السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل ما نصّه (5) "وأين قدم النوع مع حدوث أفراده؟ وهذا لا يصدر إلا ممن به مس، بخلاف المستقبل، وقال أبو يعلى الحنبلي في المعتمد (والحوادث لها أول ابتدأت منه خلافا للملحدة). وهو من أئمة الناظم - يعني ابن القيّم - فيكون هو وشيخه من الملاحدة على رأي أبي يعلى هذا فيكونان أسوَأ حالا منه في الزيغ، ونسأل الله السلامة" ا.هـ.ا
وقال ابن تيمية في منهاج السنّة النبوية ما نصه (6) "فإن قلتم لنا: فقد قلتم بقيام الحوادث بالربّ، قلنا لكـم: نعم، وهذا قولنا الذي دلّ عليه الشرع والعقل... ".ا
وقال فيه ما نصه (7) "ولكن الاستدلال على ذلك بالطريقة الجهمية المعتزلية طريقة الأعراض والحركة والسكون التي مبناها على أن الأجسام محدثة لكونها لا تخلو عن الحوادث، وامتناع حوادث لا أول لها طريقة مبتدَعة في الشرع باتفاق أهل العلم بالسنة، وطريقة مخطرة مخوفة في العقل بل مذمومة عند طوائف كثيرة". وقال في موضع ءاخر ما نصّه (8) "وحينئذٍ فيمتنع كون شىء من العالم أزليًا وان جاز أن يكون نوع الحوادث دائمًا لم يزل، فإن الأزل ليس هو عبارة عن شىء محدد بل ما من وقت يقدر إلا وقبله وقتءاخر، فلا يلزم من دوام النوع قدم شىء بعينه" ا. هـ. ومضمون هذا أمران: أحدهما أنه يقرّ ويعتقد قدم الأفراد من غير تعيين شىء منها.ا
ثم هذا يتحصل منه مع ما نقل عنه الجلال الدواني (9) في كتاب شرح العضدية بقوله (10) "وقد رأيت في بعض تصانيف ابن تيمية القول به - أي بالقدم الجنسي - في العرش"، أي أنه كان يعتقد أن جنس العرش أزلي أي ما من عرش إلا وقبله عرش إلى غير بداية وأنه يوجد ثم ينعدم ثم يوجد ثم ينعدم وهكذا، أي أن العرش جنسه أزلي لم يزل مع الله ولكن عينه القائم الآن حادث.ا
وقال في موضع ءاخر من المنهاج (11) ما نصه "ومنهم من يقول بمشيئته وقدرته- أي أن فعل الله بمشيئته وقدرته- شيئا فشيئا، لكنه لم يزل متصفا به فهو حادث الآحاد قديم النوع كما يقول ذلك من يقوله من أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف" ا.هـ. فانظروا كيف افترى كعادته هذه المقولة الخبيثة على أئمة الحديث، وهذا شىء انفرد به ووافق به متأخري الفلاسفة، لكنه تقوّل على أئمة الحديث والفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم وافترى عليهم،ا ولم يقل أحد منهم ذلك لكن أراد أن يروّج عقيدته المفتراة بين المسلمين على ضعاف الأفهام، ويربأ بنفسه عن أن يقال إنه وافق الفلاسفة في هذه العقيدة.ا
وقد ردّ على ابن حزم في نقد مراتب الإجماع (12) لنقله الإجماع على أن الله لـم يزل وحده ولا شىء غيره معه، وأن المخالف بذلك كافر باتفاق المسلمين، فقال ابن تيمية بعد كلام ما نصه "وأعجب من ذلك حكايته الإجماع على كفر من نازع أنه سبحانه لم يزل وحده ولا شىء غيره معه". ا.هـ. وعبارته هذه صريحة في اعتقاده أن جنس العالم أزلي لم يتقدمه الله بالوجود. ا
أما عبارته في شرح حديث عمران بن الحصين (13) فهي "وإن قدّر أن نوعها - أي الحوادث - لم يزل معه فهذه المعية لم ينفها شرع ولا عقل، بل هي من كماله"،ا
قال تعالى {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل، ءاية 17]. وقال "والخلق لا يزالون معه" إلى أن قال "لكن يشتبه على كثير من الناس النوع بالعين"اا ا.هـ.ا
وقال في شرح حديث النزول (14) في الرد على من قال: ما لا يخلو من الحوادث حادث، وعلى من قال: ما لا يسبق الحوادث حادث، ما نصه ا"إذ لم يفرقوا بين نوع الحوادث وبين الحادث المعين". اهـ. يريد أن القول بقيام حوادث لا أوّل لها بذات الله لا يقتضي حدوثه.ا
وقال في كتابه الفتاوى ما نصه (15) "ومن هنا يظهر أيضا أن ما عند المتفلسفة من الأدلة الصحيحة العقلية فإنما يدل على مذهب السلف أيضا، فأن عمدتهم في قدم العالم على أن الرب لم يزل فاعلاً، وأنه يمتنع أن يصير فاعلاً بعد أن لم يكن، وأن يصير الفعل ممكنًا له بعد أن لم يكن، وهذا وجميع ما احتجوا به إنما يدل على قدم نوع الفعل "ا.ا
أما عبارته في تفسير سورة الأعلى (16) "الوجه الرابع أن يقال: العرش حادث كائن بعد أن لم يكن، ولم يزل مستويًا عليه بعد وجوده، وأما الخلق فالكلام في نوعه،ا ودليله على امتناع حوادث لا أول لها قد عُرف ضعفه، والله أعلم" اهـ. وقد أثبت هذه العقيدة عن ابن تيمية الحافظ السبكي في رسالته الدرة المضية، والحافظ أبو سعيد العلائي.ا
وقد ثبت عن السبكي ما نقله عنه تلميذه الصفدي وتلميذ ابن تيمية أيضًا في قصيدته المشهورة حتى عند المنتصرين لابن تيمية وقد تضمنت الردّ على الحليّ ثم ابن تيمية لقوله بأزلية جنس العالم وأنه يرى حوادث لا ابتداء لوجودها كما أن الله لا ابتداء لوجوده قال -أي السبكي- ما نصها
ولابن تيمية ردُّ عليـه وفـى بمقصد الردّ واستيفاءِ أضْرُبِهِ
لكنه خَلطَ الحق المبين بما يشوبـُهُ كَـدًرٌ فـي صَفوِ مشرَبِهِ
يحاوِلُ الحَشوَ أنَّى كان لهُ حثيثُ سيرٍ بشرقٍ أو بمغرِبِه
يـرى حـوادث لا مبـدَا لأوَّلـهـا في الله سبحـانَهُ عما يظُنُّ به
وقال العلاّمة البياضي الحنفي في كتابه إشارات المرام (17) بعد ذكر الأدلة على حدوث العالم ما نصّه "فبطل ما ظنه ابن تيمية من قدم العرش كما في شرح العضدية".ا
هذا وقد نقل المحدّث الأصولي بدر الدين الزركشي في تشنيف المسامع (18) اتفاق المسلمين على كفر من يقول بأزلية نوع العالم فقال بعد أن ذكر أن الفلاسفة قالوا: إن العالم قديم بمادته وصورته، وبعضهم قال: قديم المادة محدث الصورة، ما نصه "وضلَّلهم المسلمون في ذلك وكفروهم" اهـ. ومثل ذلك قال الحافظ ابن دقيق العيد والقاضي عياض المالكي والحافظ زين الدين العراقي والحافظ ابن حجر في شرح البخاري وغيرهم.ا
قال القاضي عياض في الشفا (19) "وكذلك نقطع على كفر من قال بقدم العالـم أو بقائه أو شك في ذلك على مذهب بعض الفلاسفة والدهرية" اهـ.ا
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (20) ما نصه "قال شيخنا- يعني العراقي- في شرح الترمذي: الصحيح في تكفير منكر الإجماع تقييده بإنكار ما يعلم وجوبه من الدين بالضرورة كالصلوات الخمس، ومنهم من عبر بإنكار ما علم وجوبه بالتواتر، ومنه القول بحدوث العالم، وقد حكى القاضي عياض وغيره الإجماع على تكفير من يقول بقدم العالم، وقال ابن دقيق العيد: وقع هنا من يدّعي الحذق في المعقولات ويميل إلى الفلسفة فظن أن المخالف في حدوث العالم لا يكفر لأنه من قبيل مخالفة الإجماع، وتمسك بقولنا: إن منكر الإجماع لا يكفر على الإطلاق حتى يثبت النقل بذلك متواترًا عن صاحب الشرع، قال: وهو تمسك ساقط إما عن عمى في البصيرة أو تعام، لأن حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل" اهـ.ا
وقال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء عند الكلام على تكفير الفلاسفة ما نصه (21) "ومن ذلك قولهم بقدم العالم وأزليته، فلم يذهب أحد من المسلمين إلى شىء من ذلك" اهـ، وقال في موضعءاخر منه ما نصه (22) "وقال السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب: اعلم أن حكم الجواهر والأعراض كلها الحدوث،ا فإذًا العالم كله حادث، وعلى هذا إجماع المسلمين بل وكل الملل، ومن خالف في ذلك فهو كافر لمخالفة الإجماع القطعي" ا.هـ.ا
فقول ابن تيمية بأزلية نوع العالم مخالف للقرآن والحديث الصريح وإجماع الأمة وقضية العقل، أمّا القرءان فقوله تعالى {هو الأوَّلُ والآخِرُ} [سورة الحديد، ءاية 3]،ا فليس معنى هو الأول إلا أنه هو الأزلي الذي لا أزلي سواه أي أن الأولية المطلقة لله فقط لا تكون لغيره، فأشرك ابن تيمية مع الله غيره في الأولية التي أخبرنا الله بأنها خاصة له، وذلك لأن الأولية النسبية هي في المخلوق، فالماء له أولية نسبية أي أنه أول المخلوقات بالنسبة لغيره من المخلوقات، ثم تلاه العرش ثم حدث ما بعدهما وهو القلم الأعلى واللوح المحفوظ ثم الأرض ثم السموات، ثم ما ذكره الله تعالى بقوله {والأَرضَ بَعدَ ذَلِكَ دحاها}[سورة النازعات، ءاية 30].ا
وأما الحديث فقوله صلّى الله عليه وسلّم الذي رواه البخاري (23) في كتاب بدء الخلق وغيرُه "كان الله ولم يكن شىء غيره" الذي توافقه الرواية الأخرى رواية أبي معاوية "كان الله قبل كُلِّ شىء" (24) ، ورواية: "كان الله ولم يكن معه شىء".ا
وأمّا رواية البخاري في أواخر الجامع (25) "كان الله ولم يكن شىء قبله" فترد إلى روايته في كتاب بدء الخلق وذلك متعين، ولا يجوز ترجيح رواية "كان الله ولم يكن شىء قبله" على رواية "كان الله ولم يكن شىء غيره" كما أومأ إلى ذلك ابن تيمية، لأن ظاهر رواية "كان الله ولم يكن شىء قبله" يوافق ما يزعمه كما أشار لذلك الحافظ ابن حجر في شرح البخاري (26) عند ذكر حديث "كان الله ولم يكن شىء قبله" فقال فيما حاول ابن تيمية من ترجيح هذه الرواية على تلك الرواية توصلاً إلى عقيدته من إثبات حوادث لا أول لها ما نصه "وهذه من أشنع المسائل المنسوبة له" اهـ.ا
أقول: ولا أدري لماذا لم يجزم الحافظ ابن حجر بقول ابن تيمية بهذه المسألة مع أنه ذكر في كتابه لسان الميزان قول الحافظ السبكي في ابن تيمية في تلك الأبيات التي منها:ا يرى حوادث لا مبدا لأولها في الله، وأنه يقول بتجدد حوادث في ذات الله من كلمات وإرادات بحسب المخلوقات. وهو المراد بقول ابن تيمية نوع العالم أزلي وأفراده حادثة.ا
وكذلك رواية مسلم (28) "اللهم أنت الأول فليس قبلك شىء" ترد إلى رواية البخاري "كان الله ولم يكن شىء غيره" فإن لم ترد ورجحت رواية مسلم كان ذلك رجوعًا إلى قول الفلاسفة وإلغاء لرواية البخاري.ا
------------------------------ا
ا(1) أنظر الموافقة (2/ 75).ا
ا(2) أنظر المرافقة (1/ 245).ا
ا(3) أنظر الموافقة (1/ 64).ا
ا(4) محمد زاهد بن الحسن الكوثري (1296 - 1371 هـ- 1879- 1952 ر) فقيه حنفي، تفقه في جامع الفاتح بالأستانة ودرّس فيه، ثم جاء إلى الإسكندرية عام 1922 ر. ثم استقر في القاهرة موظفا في دار المحفوظات، له تآليف كثيرة منها: الاستبصار في التحدث عن الجبر والاختيار، وله نحو مائة مقالة جمعت في كتاب مقالات،ا الكوثري.ا
ا(5) أنظر السيف الصقيل (ص/ 74).ا
ا(6) أنظر المنهاج (1/ 224).ا
ا(7) أنظر المنهاج (83/1).ا
ا(8) أنظر المنهاج (1/ 109).ا
ا(9) الدواني عالم مشهور ترجمه الحافظ السخاوي في البدـر الطالع ووثقه.ا
ا(10) شرح العضدية (ص/ 13).ا
ا(11) أنظر المنهاج (1/ 224).ا
ا(12) أنظر نقد مراتب الإجماع (ص/ 168).ا
ا(13) أنظر الكتاب (ص/ 193)، ومجمرع الفناوى (18/ 239).ا
ا(14) أنظر الكتاب (ص/ 161).ا
ا(15) الفتاوى (6/ 300).ا
ا(17) مجموعة تفسير (ص/12-13).ا
ا(18) أنظر الكتاب (ص/ 197).ا
ا(19) أنظر تشنيف المسامع (ص/ 342)، مخطوط.ا
ا(20)الشفا (606/2).ا
ا(21) فتح الباري (12/ 252).ا
ا(22) إتحاف السادة المتقين (1/ 184).ا
ا(23) إتحاف السادة المتقين (2/ 94).ا
ا(24) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الخلق: باب ما جاء في قول الله تعالى {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده}.ا
ا(25) فتح الباري (13/ 410).ا
ا(26) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد: باب وكان عرشه على الماء.ا
ا(27) فتح الباري (13/ 410).ا
ا(28) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الذكر والدعاء والتوبة: باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع.ا