إمام أهل السنة و الجماعة أبو الحسن الأشعري (المُتوفى سنة 324 هجري) نقل في "رسالة أهل الثغر" صحيفة 218 إجماع السلف الصالح على استحالة كون الله تعالى جسما أو جوهرا محدوداً. و نقل في الصحيفة 227 اتفاق السلف على تنزيه الله تعالى عن الحركة والسكون والزوال. وقال رحمه الله فيما نقله الإمام الشيخ أبو بكر بن فورك في كتاب "مقالات الإمام الأشعري" ما نصه: "الجهل بصفة من صفات الله كفر". ولا شك أن نسبة الجسمية لله هو جهل بصفات رب العالمين، لأن من صفاته سبحانه و تعالى تنزهه عن مشابهة خلقه. وقال رضي الله عنه في كتابه النوادر: "من اعتقد أن الله جسم فهو غير عارف بربه وإنه كافر به".
وقد نقل أصحابه و تلاميذه عنه أنه كان يقول بكفر المجسمة. فقد قال الإمام أبو منصور البغداديّ في تفسير الأسماء و الصّفات ما نصّه: "إعلم أن أصحابنا وإن أجمعوا على تكفير المعتزلة والغلاة من الخوارج والنجارية والمرجئة والجهمية والمشبهة فقد أجازوا لعامة المسلمين معاملاتهم في عقود البياعات والإجارات والرهون وسائر المعاوضات دون الأنكحة ومواريثهم والصلاة خلفهم وأكل ذبائحهم فلا يحل شيء من ذلك إلا الموارثة ففيها خلاف بين أصحابنا، فمنهم من قال مالهم لأقربائهم المسلمين لأن قطع الميراث بين المسلم والكافر إنما هو في الكافر الذي لا يعد في الملة، ولأنّ خلاف القدريّ و الجهميّ و النّجاريّ و المجسّم لأهل السّنّة و الجماعة أعظم من خلاف النّصارى و اليهود و المجوس". وأبو منصور البغدادي هو إمام الأشعرية والشافعية في عصره، كما قال الهيتمي. وهو حافظ فقيه من العلماء الثقات. ومراده (بأصحابنا) الإمام الأشعري و أتباعه فإنه كان رأسا من رؤوس الأشاعرة. وقال رحمه الله: "وأما أصحابنا فإن شيخنا أبا الحسن الأشعري وأكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل السنة والجماعة قالوا بتكفير كل مبتدع كانت بدعته كفرًا أو أدّتْه إلى كفر".
وجاء في مجرد مقالات الأشعري لابن فورك ما نصه: "اعتقاد من اعتقد ان البارئ اجزاء متصلة و أبعاض متلاصقة كفرٌ به، وجهل لان البارئ سبحانه شئ واحد و ليس باثنين وهو غير الأبعاض المتصلة و الأجزاء المتلاصقة". ونقل الفقيه الحنفي ملاّ علي القاري في كتابه "شرح المشكاة" (3/300) ما نصه: "قال جمع من السلف والخلف إن معتقِد الجهة (أي في حق الله) كافر كما صرح به العراقيّ وقال إنه قول أبي حنيفة ومالك والشافعي والأشعري والباقلاني". وقال تاج الدين السبكي في كتابه معيد النعم و مبيد النقم صحيفة 62 ما نصه: "وبالجملة عقيدة الأشعري هي ما تضمنته عقيدة أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها علماء المذاهب بالقبول ورضوها عقيدة".
وعقيدة أبو جعفر الطحاوي فيها تكفير من وصف الله بمعنى من معاني البشر وهذا دليل على أن أبا الحسن أشعري كان على تكفير المجسمة و المشبهة ولم يرجع عن ذلك. وقال الشيخ العلامة كمال الدين البياضي الحنفي (المُتوفى سنة 1098 هـجري) في شرح كلام الإمام أبي حنيفة ما نصه: "الثانية: اكفار من أطلق التشبيه والتحيز، وإليه أشار بالحكم المذكور لمن اطلقه، واختاره الإمام الأشعري، فقال في النوادر: من اعتقد أن الله جسم فهو غير عارف بربه لانه كافر به، كما في شرح الإرشاد لأبي القاسم الأنصاري" اهـ.
أما ما يدعيه الذين نصبوا أنفسهم للدفاع عن المجسمة من رجوع الإمام الأشعري عن تكفير كل أهل القبلة بلا استثناء فهو وهم منهم وهو ليس على اطلاقه, وبيان ذلك سيأتي لاحقا, و هذا الادعاء مدفوع بما نقله عنه أكابر علماء الأمة من تكفيره لمن قال كلاما صريحا في الكفر. قال السبكي الابن في طبقاته ما نصه: "لا خلاف عند الأشعري وأصحابه بل وسائر المسلمين أن من تلفظ بالكفر أو فعل أفعال الكفر أنه كافر بالله العظيم مخلد في النار وإن عرف بقلبه". وقال الإمام محمد بن خليل السكوني الإشبيلي في كتابه "أربعون مسألة في أصول الدين" ما نصّه: "المسألة الرابعة: من مات وهو لم يعلم ما يجب وما يستحيل وما يجوز في حق الله تعالى، هل هو هالك أو ناج؟ قال الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى : "الناس على قسمين عالم وجاهل ، فالعالم ناج والجاهل هالك". ونقل الشيخ أبو بكر بن فورك في كتابه "مقالات الإمام الأشعري" أنه قال: "الجهل بصفة من صفات الله كفر".
فهل خفي عن هؤلاء العلماء الأعلام تراجع الأشعري عن تكفير جميع أهل القبلة؟ ومعاذ الله أن لا يكفِّر الإمام الأشعري من قال بأن الله يفنى ولا يبقى منه إلا وجهه كما قال بيان بن سمعان. ومعاذ الله أن لا يكِّفر الإمام الأشعري من قال ألزموني بما شئتم إلا اللحية والفرج كما قال دواد الجواربي. ومعاذ الله أن لا يكفِّر الإمام الأشعري من قال بأن الجبل أكبر من الله حجمًا كما قال هشام بن الحكم. وكل هؤلاء يدّعون الإسلام ويقولون لا إله إلا الله و يزعمون الصلاة تجاه القبلة. أما ما نسبه العز بن عبد السلام للإمام الأشعري في قواعده في الجزء 1 صحيفة 202 أنه قال: "قد رجع الأشعري رحمه الله عند موته عن تكفير أهل القبلة، لأن الجهل بالصفات ليس جهلا بالموصوفات". فيجاب عليه من طُرق:
1- أنه خلاف ما أثبته عنه العلماء من نصوص في إكفار المجسم و الجاهل بصفات الله, كما نقل ذلك ابن فورك في كتابه "مقالات الإمام الأشعري" أنه قال: "الجهل بصفة من صفات الله كفر". اهـ.
2- أنه ليس على إطلاقه: وقد بين ذلك الإمام الجرجاني في شرح المواقف فقال ما نصه: "اعلم أن عدم تكفير أهل القبلة – أي بذنب - موافق لكلام الأشعري و الفقهاء لكن إذا فتشنا عقائدهم وجدنا فيها ما يوجب الكفر قطعا مما يقدح في الألوهية أو النبوة" اهـ.
3- أن الكلام المنقول عن الأشعري فيه تضارب: ففي رواية ابن عبد السلام قال "قد رجع الأشعري رحمه الله عند موته عن تكفير أهل القبلة" معناه أنه كان يكفر أهل القبلة ثم رجع عن ذلك. وفي الرواية التي نقلها الشيخ أبو طاهر القزويني في كتابه "سراج العقول" عن"السرخسي قال: لما حضرت الأشعري الوفاة في داري ببغداد قال لي: "اجمع أصحابي"، فجمعتهم فقال: "اشهدوا علي أني لا أقول بتكفير أحد من عوام أهل القبلة؛ لأني رأيتهم كلهم يشيرون إلى معبود واحد والإسلام يشملهم ويعمهم" اهـ. ففيه زيادة "عوام" و هو استثناء لعوام أهل القبلة فقط دون علماءهم. وفي رواية عند الإمام ابن عساكر في تبيين كذب المفتري (1/148) قال:"أخبرنا الشيخ أبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي بنيسابور قال سمعت الأستاذ أبا القسم عبد الملك بن هوازن القشيري يقول سمعت الأستاذ الشهيد أبا علي الحسن بن علي الدقاق رحمه الله يقول: سمعت أبا علي زاهر بن أحمد الفقيه رحمه الله يقول مات أبو الحسن الأشعري رحمه الله ورأسه في حجري وكان يقول شيئا في حال نزعه من داخل حلقه فأدنيت إليه رأسي وأصغيت إلى ما كان يقرع سمعي فكان يقول لعن الله المعتزلة موهوا ومخرقوا. وفي رواية البيهقي قال "اشهد على أني لا أكفر أحدا من أهل هذه القبلة" معناه بذنب من المعاصي. وهذا التفسير نص عليه الكثير من العلماء وبينوا أنه ليس على اطلاقه كما قال الإمام فخر الدين الرَّازي في كتابه "مَعَالِم أصول الدِّين" صحيفة 132 و نص عبارته : "المَسْألة العشرون: المُختار عندنا أنَّه لا يُكَفِّرُ أحَد مِنْ أهْل القِبلَة إلَّا بدليل مُفصَّل بَلْ الأقرب أنَّ المُجَسِّمَة كُفَّار لأنَّهم اعْتقدوا أنَّ كُلّ ما لا يكون مُتحيِّزاً ولا في جهة فليْس بمَوْجود، ونحْنُ نعْتقِدُ أنَّ كُلّ مُتحَيِّز فهو مُحْدَثٌ وخالِقهُ مَوْجود لَيْس بمُتحَيّز ولا في جهَة فالمُجَسِّمَة نَفَوا ذات الشىْء الذي هو الإلَه فيلزمهم الكُفر". وعلى هذا التفصيل يُحمل القول المنسوب للإمام أبو الحسن الأشعري وليس مراده بذلك أن كل من يقول الشهادتين لا يكفر مع اعتقاده بعض الاعتقادات الكفرية فإن هذا الإطلاق بعيد من مراده. قال المحدث الشيخ محمد أنور شاه الكشميري في كتابه "إكفار الملحدين في ضروريات الدين": "أعلم أن المراد بأهل القبلة: الذين اتفقوا على ما هو من ضروريات الدين. كحدوث العالم، وحشر الأجساد، وعلم الله تعالى بالكليات والجزيئات، وما أشبه ذلك من المسائل المهات، فمن واظب طول عمره على الطاعات والعبادات مع اعتقاد قدم العالم ونفي الحشر أو نفي علمه سبحانه بالحزئيات لا يكون من أهل القبلة، وإن المراد بعدم تكفير أحد من أهل القبلة عند أهل السنة: أنه لا يكفر ما لم يوجد شيء من إمارات الكفر وعلاماته، ولم يصدر عنه شيء من موجباته إن غلا فيه -أي في هواه - حتى وجب إكفاره به لا يعتبر خلافه ووفاقه أيضاً، لعدم دخوله في مسمى الأمة المشهود لها بالعصمة وإن صلى إلى القبلة واعتقد نفسه مسلماً، لأن الأمة ليست عبارة عن المصلين إلى القبلة، بل عن المؤمنين، وهو كافر وإن كان لا يدري أنه كافر. ونحوه في "الكشف شرح البردوى" من الإجماع، و"الإحكام" للآمدى من المسألة السادسة منه: لا خلاف في كفر المخالف في ضروريات الإسلام وإن كان من أهل القبلة المواظب طول عمره على الطاعات. كما في "شرح التحرير". "رد المختار" من الإمامة ومن جحود الوتر أيضاً ثم قال (أي صاحب "البحر") : والحاصل أن المذهب عدم تكفير أحد من المخالفين فيما ليس من الأصول المعلومة من الدين ضرورة. فافهم
4- ينبغي حمل هذه العبارة على من قال بخلق القرآن ففي كتاب "السنن الكبرى" للبيهقي. قال مانصه: (أخبرنا) أبو عبد الله الحافظ وأبو عبد الرحمن السلمي قالا سمعنا أبا محمد جعفر بن محمد بن الحارث يقول سمعت أبا زكريا يحيى بن زكريا يقول سمعت المزني يقول القرآن كلام الله غير مخلوق (أخبرنا) أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو محمد المزني قال سمعت يوسف بن موسى المروروذي سنة خمس وتسعين ومائتين يقول كنا عند أبي إبراهيم المزني بمصر جماعة من أهل الخراسان وكنا نجتمع عنده بالليل فنلقى المسألة فيما بيننا ويقوم للصلاة فإذا سلم التفت إلينا فيقول أرأيتم لو قيل لكم كذا وكذا بماذا تجيبونهم ويعود إلى صلاته فقمنا ليلة من الليالي فتقدمت انا وأصحاب لنا إليه فقلنا نحن قوم من أهل خراسان وقد نشأ عندنا قوم يقولون القرآن مخلوق ولسنا ممن يخوض في الكلام ولا نستفتيك في هذه المسألة الا لديننا ولمن عندنا لنخبرهم عنك بما تجيبنا فيه فقال القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال إن القرآن مخلوق فهو كافر (قال الشيخ رحمه الله) فهذا مذهب أئمتنا رحمهم الله في هؤلاء المبتدعة الذين حرموا التوفيق وتركوا ظاهر الكتاب والسنة بآرائهم المزخرفة وتأويلاتهم المستنكرة وقد سمعت أبا حازم عمر بن أحمد العبدوي الحافظ يقول سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول لما قرب حضور أجل أبى الحسن الأشعري رحمه الله في دارى ببغداد دعاني فقال اشهد على أني لا أكفر أحدا من أهل هذه القبلة لان الكل يشيرون إلى معبود واحد وإنما هذا اختلاف العبارات.
فيتبين من نص البيهقي أن الإمام أبا الحسن الأشعري خص قوله "لا أكفر أحدا من أهل هذه القبلة لان الكل يشيرون إلى معبود واحد وإنما هذا اختلاف العبارات" بمسألة خلق القرآن وكلامه محمول على الذين قالوا بخلق القرآن و لا يعنون بكلامهم كلام الله الذاتي بل مرادهم اللفظ المنزل الذي هو مخلوق. فهؤلاء يطلقون القول بخلق القرآن و مرادهم اللفظ المنزل, وهو حرام اطلاقه لأنه سوء أدب مع السلف و ليس كفرا. أما من يقول القرآن مخلوق و مراده بالقرآن كلام الله الأزلي فلا شك أن الإمام الأشعري يكفره لأنه جهل صفة من صفات الخالق وقد نقل أبو بكر بن فورك في كتابه "مقالات الإمام الأشعري" أن أبا الحسن قال: "الجهل بصفة من صفات الله كفر". وقال الباقلاني في الانصاف ما نصه: "إن قال قائل وما الكفر عندكم؟ قيل له: هو ضد الإيمان وهو الجهل بالله عز و جل و التكذيب به, الساتر لقلب الانسان عن العلم به" اهـ.
ومما يُؤيد ذلك ما رواه الإمام ابن عساكر في كتابه تبيين كذب المفتري، و لأهميته ارتأينا أن نسوقه كاملا لتوضيح السياق. قال رحمه الله في الصحيفة 409 ما نصه: "ثم ذكر ابن أبي زيد تشنيع علي بن أحمد البغدادي على الأشعري في مسئلة اللفظ ثم قال ابن أبي زيد في الرد على البغدادي: والقارىء إذا تلا كتاب الله لو جاز أن يقال أن كلام هذا القارىء كلام الله على الحقيقة لفسد هذا لأن كلام القارىء محدث ويفنى كلامه ويزول وكلام الله ليس بمحدث ولا يفنى وهو صفة من صفاته وصفته لا تكون صفة لغيره وهذا قول محمد بن اسماعيل البخاري وداود الأصبهاني وغيرهما ممن تكلم في هذا وكلام محمد بن سحنون إمام المغرب وكلام سعيد بن محمد بن الحداد وكان من المتكلمين من أهل السنة وممن يرد على الجهمية. ثم ذكر حكاية أحمد ابن حنبل رحمه الله مع أبي طالب التي أخبرنا بها الشيخان أبو عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد الفراوي وأبو الحسن عبيد الله بن محمد بن احمد البيهقي, قالا ثنا ابو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي قال ثنا ابو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن ابي عمر قالا ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال سمعت أبا بكر محمد بن اسحق يقول سمعت أبا محمد فوران يقول جاءني صالح بن أحمد وأبو بكر المروروذي عندي فدعاني إلى ابي عبد الله وقال لي إنه قد بلغ أن ابا طالب قد حكى عنه إنه يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق فقوموا إليه فقمت واتبعني صالح وأبو بكر. فدار صالح من بابه فدخلنا على أبي عبد الله ووافانا صالح من بابه فإذا أبو عبد الله غضبان شديد الغضب يتبين الغضب في وجهه فقال لأبي بكر إذهب جئني بأبي طالب فجاء أبو طالب وجعلت أسكن أبا عبد الله قبل مجيء أبي طالب وأقول له حرمة فقعد بين يديه وهو يرعد متغير الوجه فقال له أبو عبد الله حكيت عني أني قلت لفظي بالقرآن غير مخلوق قال إنما حكيت عن نفسي فقال له لا تحك هذا عنك ولا عني فما سمعت عالما يقول هذا وقال له القرآن كلام الله غير مخلوق حيث تصرف, فقلت لأبي طالب وأبو عبد الله يسمع: أن كنت حكيت هذا لاحد فأذهب حتى تخبره أن ابا عبد الله قد نهى عن هذا. قال ابن ابي زيد: وأبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل به يقتدي وقد أنكر هذا وما انكر أبو عبد الله أنكرناه, فكيف يسعك أن تكفر رجلا مسلما بهذا ولا سيما رجل مشهور إنه يرد على أهل البدع وعلى القدرية الجهمية متمسك بالسنن مع قول من قاله معه من البخاري وغيره فلو ذكرت أمرا يجب تكفير قائله عند أهل السنة كان لك ذلك لأن لا تعتقد أنا نقلد في معنى التوحيد والاعتقادات الأشعري خاصة ولكن لا يحل لنا أن نكفره أو نبدعه إلا بأمر لا شك فيه عند العلماء وإذا رأينا من فروع أقاويله شيئا ينفرد به تركناه ولا نهجم بالتضليل والتبديع بما فيه الريب وكل قائل مسؤول عن قوله وما مثال تشنيع هذا المعتزلي الغليظ الفظ على أبي الحسن رحمه الله في مسئلة اللفظ إلا كتشنيع رافضي على رجل من أهل السنة بتنقصه لمروان وهو يستجيز لنفسه لعن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم لأن هذا المعتزلي وأهل مذهبه يدينون بخلق القرآن فكيف يشنع على من يرى خلق الألفاظ به والألحان. ولكنه لما لم يتجاسر على إظهار ما كان يضمره ويدعو إليه منه موه على اهل المغرب بما ظنه يكون سببا لنفورهم عنه فلم يلتفتوا للاستضلاعهم بالعلم إلى تمويهه ووجهوا قول الأشعري في اللفظ على احسن وجوهه فان قلد الأهوازي المعتزلة وأطلق القول بتكفيره لشدة جهله فإن الأشعري كان لا يرى تكفيره ولا تكفير أحد من أهل القبلة - أي بذنب - لسعة فضله وقد تقدمت عنه في ذلك حكاية زاهر بن أحمد وهي الحكاية التي ينبغي أن يصار إليها في التكفير ويعمد لأنه القول الأخير الذي مات عليه وأكثر المحققين من أصحابه ذهب إليه, فأما الأصحاب فانهم مع اختلافهم في بعض المسائل مجمعون على ترك تكفير بعضهم بعضا بخلاف من عداهم من سائر الطوائف وجميع الفرق فانهم حين اختلفت بهم مستشنعات الأهواء والطرق كفر بعضهم بعضا ورأى تبريه ممن خالفه فرضا وظهرت منهم إمارات المعاداة والتباغض كما عرف من فرق المعتزلة والخوارج والروافض وما ذلك إلا من أمر الله عز وجل عليهم وإحسانه في الائتلاف مع وجود الإختلاف إليهم". اهـ. فالأشعري رحمه الله كان يحكم بكفر جميع أهل الأهواء من غير تفصيل لكن الامام ابن عساكر أكد أن القول الأخير الذي مات عليه هو التفصيل بحسب مقالاتهم و ترك اكفار من لم تصل بهم بدعتهم إلى حد الكفر. فالمعتزلة الذين كانوا يقولون أن القرآن مخلوق و يقصدون به اللفظ المنزل تراجع رحمه الله عن اكفارهم, و أما الذين يطلقون هذه العبارة و يقصدون بها كلام الله الذي هو صفة ذاته فالأشعري حاكم بكفرهم لم يتراجع قط عن ذلك.
قال ابن عساكر في تبيين كذب المفتري عن الأشعري أنه قال: "فإن كثيرا من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى التقليد لرؤسائهم ومن مضى من أسلافهم فتأولوا القرآن على أرائهم تأويلا لم ينزل الله به سلطانا ولا أوضح به برهانا ولا نقلوه عن رسول رب العالمين ولا عن السلف المتقدمين فخالفوا رواية الصحابة عن نبي الله صلى الله عليه و سلم في رؤية الله بالأبصار وقد جاءت في ذلك الروايات من الجهات المختلفات وتواترت بها الآثار وتتابعت بها الأخبار وأنكروا شفاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم وردوا الرواية في ذلك عن السلف المتقدمين وجحدوا عذاب القبر وان الكفار في قبورهم يعذبون وقد أجمع على ذلك الصحابة والتابعون ودانوا بخلق القرآن نظيرا لقول إخوانهم من المشركين الذين قالوا إن هذا إلا قول البشر فزعموا أن القرآن كقول البشر" اهـ. فلو كان هؤلاء فسقة فقط لما قال عنهم الأشعري أنهم اخوان المشركين.
5- هؤلاء المحرفون الذين يزعمون الانتساب لمذهب الأشعري من جملة تمويهاتهم أنهم يقولون: "من قال أن الله جسم لا كالأجسام لا يكفر أما إذا قال الله جسم كالأجسام فهو كافر" وهو مع كونه باطلا يلزم منه التناقض في أقوالهم لأنهم متمسكون برجوع الأشعري عن إكفار أهل القبلة مطلقا. فعلم أنهم تائهون اقتفوا نهج أحبابهم المشبهة فكلاهما زعم أن الأشعري ترجع عما ذهب إليه, وذلك لنصرة مذهبه الفاسد. فأهل الأهواء الذين تأولوا في القطعيات و نسبوا الجسمية لله سبحانه و تعالى وكذلك الذين نفوا صفات الله الواجبة له إجماعا ليسوا معذورين عند جمهور أهل السنة الأشاعرة فيُحكم عليهم جميعا بالكفر. قال الإمام الجويني في كتاب "التلخيص" ما نصه: "وكذلك من كفر من أهل القبلة وصدر منه ما يوجب تكفيره فهو مردود الشهادة وإن كان من المتأولين المنتمين إلى أهل القبلة وذهب بعض العلماء إلى ان من بدر منه الفسق وهو متأول ظان أنه مباح فذلك لا يوجب رد شهادته إذا كان مشهرا بالصدق وتوقي الخلف وذلك نحو قتل الخوارج الناس واستحلالهم الأموال والدماء على اعتقاد الإباحة مع استشهادهم بتوقي الخلف ومصيرهم إلى أنه كفر، والمختار عندنا رد شهادتهم لكفرهم وما يبدر منهم من فسقهم وإن اعتقدوه حسنا ، والذي يحقق ذلك اتفاق الأمة على أن تأويلهم وظنهم وحسابهم لا يعذرهم فيما يبدر منهم ولكن اعتقاد الحسن فيما أجمع المسلمون على قبحه إذا انضم إلى القبيح كانا قبيحين منضمين لا يقدر انفصال أحدهما من الآخر إجماعا واتفاقا وكذلك القول في الكفر وتأويله ولو ساغ أن يعذر المأولون ساغ أن يعذر أهل الملل" اهـ.
بعد كل هذا البيان ننقل ما قاله بعض أدعياء العلم في هذا الزمان وهو سعيد فودة في مقالة له بعنوان (تحرير كلام أئمة أهل السنة المتقدمين والمتأخرين في الحكم على أهل الأهواء والبدع) كان قد كتبها في المنتدى المسمى بمنتدى الأصليين, ونص عبارته: "الإمام الأشعري مات على القول بعدم تكفير أحد من أهل القبلة، وأهل القبلة يندرج فيهم أهل الأهواء من المعتزلة والمشبهة وغيرهم، وإن فصل علماء الأشاعرة في هذا الإطلاق كما سنورده، فبعضهم استثنى المجسم الصريح والقائل بعدم علم الله تعالى بما سيكون ونحو ذلك لأنه لا يقال عليه إنه تأويل وشبهة ، بل انحراف عن النص الصريح. وسنفصل في أقوالهم في ذلك لاحقا إن شاء الله تعالى. وقد قرر الإمام ابن عساكر أن هذا القول قد ذهب إليه أكثر المحققين من أصحابه، أي من أصحاب الإمام الأشعري. ويفهم من هذا أن الإمام الأشعري كان يذهب قبل ذلك إلى تكفير بعض أهل القبلة من أهل الأهواء الذين ذكرناهم، وهذا ما يفهم من قول ابن عساكر: وقد تقدمت عنه في ذلك حكاية زاهر بن أحمد وهي الحكاية التي ينبغي أن يصار إليها في التكفير ويعمد لأنه القول الأخير الذي مات عليه وأكثر المحققين من أصحابه ذهب إليه. فمعنى ذلك أنه كان يذهب إلى خلاف ذلك من قبل. ويؤخذ أيضا من قول ابن عساكر أن بعض أصحاب الإمام الأشعري، وبعض المحققين منهم من ذهب إلى تكفير أهل الأهواء أو بعضهم، فأخذ بقول الإمام الأشعري السابق. إذن هذا نص صريح في أن للإمام الأشعري قولين، الأول هو التكفير والثاني عدم التكفير، بل التبديع، ويفهم التبديع من لعنه للمعتزلة في الرواية التي سقناها سابقا عنه رحمه الله تعالى، وهي قوله:" لعن الله المعتزلة موهوا ومخرقوا"اهـ. فأقل ما يكون عليه اللعن التبديع، ولما نفى التكفير، ثبت التبديع لهم، ولا يصح تسويتهم بأهل السنة في الاعتقاد وحقيته، ثم إن هذا الكلام لم يأخذه بعض العلماء على إطلاقه، بل قيدوه كما سنرى". اهـ.
وهذا الكلام الذي قاله نعقب عليه في ثلاث نقاط:
أولا: هذا الكلام فيه رد على أتباعه الذين صاروا ينشرون بين الناس أن الأشعري لا يكفر أحدا على الاطلاق.
ثانيا: زعم أن الإمام الأشعري مات على القول بعدم تكفير أحد من أهل القبلة من أهل الأهواء بعد أن كان يذهب إلى تكفيرهم ثم قال أن هذا الكلام لم يأخذه بعض العلماء على إطلاقه، بل قيدوه.
ثالثا: زعم أن للإمام للأشعري قولين في الحكم على أهل الأهواء و لو كانت مقالاتهم كفرية: الأول هو التكفير والثاني عدم التكفير، بل التبديع فقط. وهو كلام باطل لأن ما يُنقل من قولين عن أئمة الأشعرية في الحكم على أهل الأهواء مرادهم به أن بعضهم مال إلى اكفارهم بلا استثناء و بعضهم الآخر مال إلى التفصيل في الحكم عليهم. فمن وصلت بدعته إلى حد الكفر كفروه و إلا حكموا بتفسيقه دون تكفيره قال الزركشي : "وأطلق الآمدي في التكفير حكاية قولين، ثم قال: والحق التفصيل وهو إن كان من البدع المضللة والأقوال الممكنة يرجع إلى اعتقاد وجود غير الله تعالى وحلوله في بعض الأشخاص، كالنسبة لبعض غلاة الشيعة، أو إلى إنكار الرسالة أو إلى استباحة المحرمات فلا نعرف خلافا بين المسلمين في التكفير به، وأما ما عدا ذلك من المقالات المختلفة فلا يمتنع أن يكون معتقدها مبتدعا غير كافر"اهـ.
فكلام سعيد فودة هذا متدافع أوله مع أخره, فهو يحمل قول الأشعري: "اشهد على أني لا أكفر أحدا من أهل هذه القبلة" على اطلاقه و بلا تقييد بحادثة معينة. ثم يقول في نفس المقال: "من قال: إن الله ليس بعالم، كفر بإجماع الأمة على تكفيره" فهل عنده الأشعري داخل في هذا الاجماع أم خارج عنه باعتبار أنه تاب بزعمه. ثم إن ما قاله سعيد فودة, إذا أضفنا له ما نقله عن بعض العلماء من تفصيل لهذه العبارة و ما نسبه من قولين للامام الأشعري في الحكم على أهل الأهواء, صار كلامه مظطربا لأنه يؤول إلى اثبات أقوال متناقضة في قضية واحدة. فعنده الذي يقول مثلا عن الله أنه جسم. بحسب خلاصة سعيد فودة الفاسدة هذا القول له عدة أحكام: الحكم الأول: أنه ليس بكفر مطلقا لأن الأشعري قال: "لا أكفر أحدا من أهل هذه القبلة" بل لو قال الله له جسم من لحم و دم لا يكون كفرا عنده. الحكم الثاني: التفصيل و الاستثناء: وهو كما زعم سعيد فودة:التجسيم الصريح كفر و غير الصريح كالذي يقول الله جسم لا كالأجسام فهو ليس بكفر. الحكم الثالث: في المسألة قولين قول أن هذه العبارة كفر و قول أنها ليست كفرا. وهذا الكلام ليس من التحقيق في شئ.
أهل السنة و الجماعة يقولون هذه الرواية إن صحت عن الأشعري فهي متعلقة بمسألة خلق القرآن كما في سنن البيهقي و يُحمل اطلاقه للعبارة على هذا المحمل لوجود القرينة, لا أن يُحمل كلام الأشعري على اطلاقه ثم تُعرض له بعد ذلك استثناءات. ثم إن أهل السنة في حكمهم على أهل الأهواء قسمين: قسم منهم كان يحكم باكفار جميع أهل الأهواء بلا استثناء. و قسم مال إلى التفصيل, فمن ثبتت عنده قضية كفرية حكموا بكفره و من ثبتت عنده قضية دون ذلك فسقوه فقط. و لعل الأشعري رحمه الله كان من القسم الأول الذين يحكمون بكفر جميع أهل الأهواء بلا استثناء ثم مال في آخر حياته إلى التفصيل.
أما على مقتضى كلام سعيد فودة فإن الإمام الأشعري كان يقول بتكفير من تلبس بمسألة كفرية ثم تراجع بعد ذلك و العياذ بالله وصار يقول بترك تكفيره. هذا الكلام باطل عن الأشعري. فقول الأشعري "لا أكفر أحدا من أهل هذه القبلة" ليس مراده بذلك أنه لا يكفر أحدا حتى لو كانت القضية كفرية أو أن هناك قولين في المسألة كما يدعي هذا الرجل بل مراده بذلك كل بدعة لم تصل إلى حد الكفر. و يشهد لذلك ما قاله الزركشي في شرحه لقول الإمام تاج الدين السبكي "ولا نكفر أحدا من أهل القبلة": وقد قال والد المصنف - تقي الدين السبكي- رحمهما الله تعالى يعني هذه العبارة: "إنا لا نكفر بالذنوب التي هي المعاصي كالزنا والسرقة وشرب الخمر خلافا للخوارج حيث كفروهم، أما تكفير بعض المبتدعة بعقيدة تقتضي كفره حيث يقضي الحال القطع بذلك أو ترجيحه، فلا يدخل في ذلك، وهو خارج بقولنا: بذنب" اهـ.
و ما أشبه كلام هؤلاء المتعصبين الذين قالوا: "تراجع الأشعري عن التكفير مطلقا" بكلام علي بن حزم الظاهري الذي نقل بزعمه عن الأشاعرة ما لا يتسنى معه القول بتكفير أحد أصلا، فقد قال في الفصل في الملل والأهواء والنحل ما نصه: "وأما الأشعرية فقالوا : إن شتم من أظهر الإسلام لله تعالى ولرسوله بأفحش ما يكون من الشتم ، وإعلان التكذيب لهما باللسان بلا تقية ولا حكاية، والإقرار بأنه يدين بذلك ليس شئ من ذلك كفرا" اهـ. وقد رد السبكي الابن على ابن حزم فقال عن كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل ما نصه "وكتابه هذا الملل والنحل من شر الكتب وما برح المحققون من أصحابنا ينهون عن النظر فيه لما فيه من الإزراء بأهل السنة ونسبة الأقوال السخيفة إليهم من غير تثبت عنهم والتشنيع عليهم بما لم يقولوه وقد أفرط في كتابه هذا في الغض من شيخ السنة أبي الحسن الأشعري وكاد يصرح بتكفيره في غير موضع وصرح بنسبته إلى البدعة في كثير من المواضع وما هو عنده إلا كواحد من المبتدعة والذي تحققته بعد البحث الشديد أنه لا يعرفه ولا بلغه بالنقل الصحيح معتقده وإنما بلغته عنه أقوال نقلها الكاذبون عليه فصدقها بمجرد سماعه إياها وتعدى إلى آخر كلامه" اهـ.
رابط ذو صله : | |
القسم : | مقالات وردود شرعية |
الزيارات : | 971 |
التاريخ : | 25/7/2022 |
|