بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا محمد النبي الأمين.
فليعلم أن ما نُقل عن الإمام العز بن عبد السلام في قواعده من ترك تكفير الجهوي،نقله علماء غير معاصرين للإمام العز بن عبد السلام. ونسبتهم تلك المقالة إليه لا تثبت بصفة قطعية، بل لم يثبت عن واحد من تلاميذ العز بن عبد السلام كإبن دقيق العيد وشهاب الدين القرافي و أحمد بن فرح الأشبيلي وشرف الدين الدمياطي و أبو شامة وغيرهم أنهم نقلوا تلك المقالة عنه. ثم هذا الكلام المنسوب للعز بن عبد السلام مخالف لكلام شيخه الآمدي في كتابه "الإحكام" عند كلامه على شروط الرواية و نص عبارته: "الشرط الثاني أن يكون مسلما، وذلك لأن الكافر إما أن لا يكون منتميا إلى الملة الإسلامية كاليهودي والنصراني ونحوه أو هو منتم إليها كالمجسم" اهـ.
وقد عقب الشيخ محمد زاهد الكوثري في مقالاته في الصحيفة 261 على كلام العز فقال: "نعم يعد ابن عبد السلام في قواعده الكبرى العامي معذورا في الكلمة الموهمة لكن ناقشه المقبلي في ذلك, وعلى كل حال لا يرضى هؤلاء – أي مشبهة عصره – أن يعدوا من العامة ليعذروا في كلماتهم الشاطحة, وقد ملأت مؤلفاتهم البقاع, فلا محيص في عدهم واعين لما نطقوا به, فتعيين إلزامهم بما يترتب على تلك التقولات في نظر أهل البرهان الصحيح" اهـ. فالإمام الكوثري يرد كلام العز إلى أمرين: الأول حصر الأمر الذي أفتى به العز في الكلمة الموهمة و الثاني فهم المعنى من تلك الكلمات الموهمة.
فكلام الإمام العز بن عبد السلام يتعلق بمن تلفظ الكلمة و لم يدر معناها بدليل قوله في قواعد الأحكام (2/102) ما نصه: "فصل فيمن نطق لفظا لا يعرف معناه لم يؤاخذ بمقتضاه: فإذا نطق الأعجمي بكلمة كفر أو أيمان أو طلاق أو إعتاق أو بيع أو شراء أو صلح أو إبراء لم يؤاخذ بشئ من ذلك, لأنه لم يلتزم مقتضاه و لم يقصد إليه, وكذلك إذا نطق العربي بما يدل على هذه المعاني بلفظ أعجمي لا يعرف معناه فإنه لا يؤاخذ بشئ من ذلك لأنه لم يرده" اهـ.
ويُؤيد كلامنا ما قاله الشيخ محمد الخضر الشنقيطي المالكي في كتاب "إستحالة المعية بالذات و ما يضاهيها من متشابه الصفات" صحيفة 319 لما تكلم عن الجارية التي ضربها سيدها ونص كلامه: "وقد قال في الفتح ان وجه ثبوت إيمانها ( أي الجارية) بذلك القول هو أن من أتى بلفظ يدل على التجسيم لا يكون به مؤمنا إلا ان كان عاميا لا يفقه معنى التجسيم فيكتفي منه بذلك كما في قصة الجارية" اهـ. فلاحظوا يرحمكم الله قوله: "إلا ان كان عاميا لا يفقه معنى التجسيم" قيد في ترك تكفير العامي الذي لا يفقه معنى كلمة جسم و يظن أن لها معنى آخر كالوجود مثلا.
وليس في كل مرة يسلم العامي من التكفير فقد قال الإمام السنوسي في شرحه لعقيدته الكبرى ما نصه: "أما العامة فأكثرهم ممن لا يعتني بحضور مجالس العلماء ومخالطة أهل الخير، يتحقق منهم اعتقاد التجسيم والجهة وتأثير الطبيعة، وكون فعل الله لغرض، وكون كلامه جل وعلا حرفاً وصوتاً، ومرة يتكلم ومرة يسكت كسائر البشر، ونحو ذلك من اعتقادات أهل الباطل، وبعض اعتقاداتهم أجمع العلماء على كفر معتقديها" اهـ.
ولله در ابن عرفة حيث أنكر في كتابه الشامل في علم الكلام على من نسب القول بالجهة إلى بعض العلماء وعده كفرا فقال: "نقل عياض في آخر كتاب الصلاة من (الإكمال) ما نصه: الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله تعالى (ءامنتم من في السماء) أولها من قال باثبات جهة فوق له تعالى, من غير تحديد و لا تكييف من دهماء المحدثين و الفقهاء و بعض المتكلمين من الأشعريين و المشبهة بمعنى (على)، فعزا ما جعله الإمام ملزوما للكفر إلى من ذكر من الأشعرية و غيرهم, ما أدري على من اعتمد في نقله هذا. و قد اغتر بعض الجهلة ممن يرى يدا لنفسه مشاركة في العلوم في قوله بالجهة لله تعالى" اهـ. أما اليوم فقد كثُر هؤلاء الجهلة ممن يرون لأنفسهم أيادي مُشاركة في العلوم فصاروا يعتذرون للعوام و لمن ينتسب للمشيخة من القائليين بالجهة في حق الله.
ذكر بعض العلماء الذين ردوا على ما نسب إلى الإمام العز بن عبد السلام:
1- الإمام البلقيني: قال الرملي في حاشيته 1/ 219 ما نصه: وقال ابن عبد السلام في القواعد : إنه الأصح (أي ترك تكفير الجهوي) بناء على أن لازم المذهب ليس بمذهب (الرملي) وكتب أيضا. قال البلقيني الصحيح , أو الصواب خلاف ما قال" اهـ. والبلقيني رحمه الله كان من أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي. قال عنه الزبيدي في تاج العروس عند شرحه لكلمة "بلقن" ما نصه: منها علامة الدنيا صاحبنا سراج الدين أبو حفص عمر بن رسلان (أي البلقيني)
2- الشيخ صالح بن مهدي المقبلي: نقل الإمام محمد زاهد الكوثري في مقالاته صحيفة 261 ما نصه: "نعم يعد ابن عبد السلام في قواعده الكبرى العامي معذورا في الكلمة الموهمة لكن ناقشه المقبلي ". انتهى وقال في الصحيفة 267 ما نصه: " وإن العز بن عبد السلام يعذر –في قواعده- من بدرت منه كلمة موهمة لكنه يريد بذلك العامي الذي تخفى عليه مدلولات الألفاظ، وتعلو على مداركه دقائق علم أصول الدين، ويتهيب الولوج في هذه المضايق، لا من ألّف وقام يدعو الناس إلى عقيدة التجسيم بهذه الصراحة، فيجب إلزامه مقتضى كلامه بدون توقف,بل يقول القرطبي المفسر في التذكار إن المجسم عابد صنم. و المقبلي يرد على ابن عبد السلام رأيه و يقول إنه رأي منه لا دليل عليه و ليس أحد يعذر فيما يوجب الكفر" اهـ.
3- النووي و ابن أبي جمرة المالكي: فقد تعقبا كلام العز بن عبد السلام و قيدا كلامه و ضبطا قيود المسألة على وفق قواعد الشرع. فقال الإمام إبراهيم اللقاني:فائدة: قال عز الدين ابن عبد السلام: معتقد الجهة لا يكفر. وقيده النووي بكونه من العامة، وابن أبي جمرة بعسر فهمهم نفيها، والله أعلم." اهـ. ومعنى قول اللقاني:"قيده" أي ما تركه على اطلاقه. و مراد النووي بالعامي هنا الذي لا يفهم المعنى من الكلمة التي تلفظ بها.
قال أهل الحق: من لم يعلم معنى الجهة في اللغة و الشرع لعُجْمَةٍ في لسانه أو شدةِ جهل بلغة العرب و بمدلولات العبارات فظن أن معناها العظمة و اعتقد أنه إذا قال إن الله في جهة فوق كان معنى ذلك أنه أعلى من كل شىءٍ قدراً، و لم يرد بذلك المكان و لا الحيّزَ، و لا عرف أنّ هذا ما يعنيه لفظه فلا يُكفَّر، و لكنّه يُزجر عن هذا الكلام و يُمنع منه و يُنهى عنه أشدّ النهي فإنه لا يجوز وصف الله الا بما وصف به نفسه سبحانه أي إلا بما ثبتتْ نسبته إليه سبحانه قرءانا او سنّةً او إجماعاً، ووظيفة الجاهل التعلّم لا التصدّر للتكلم. فالنووي رحمه الله لما علم من مراد العز بن عبد السلام تركه تكفير من أطلق لفظ الجهة في حق الله وهو غير فاهم لمعناها قيد كلامه بكونه من العامة. و يؤكد ذلك ما قاله العز في قواعد الأحكام (2/102): "فصل فيمن نطق لفظا لا يعرف معناه لم يؤاخذ بمقتضاه: فإذا نطق الأعجمي بكلمة كفر أو أيمان أو طلاق أو إعتاق أو بيع أو شراء أو صلح أو إبراء لم يؤاخذ بشئ من ذلك, لأنه لم يلتزم مقتضاه و لم يقصد إليه, وكذلك إذا نطق العربي بما يدل على هذه المعاني بلفظ أعجمي لا يعرف معناه فإنه لا يؤاخذ بشئ من ذلك لأنه لم يرده. انتهى فعند الإمام النووي: غير العامي ممن له إحاطة بمعاني الألفاظ إذا أطلق كلمة الجهة الحسية في حق الله يكفر لأن الجهة تفيد المكان و الحيز. أما ابن أبي جمرة فقد جعل مراد العز بن عبد السلام متعلقا ببعض العبارات الموهمة للجهة كقول العامي "الله فوق العرش" أو "على العرش" أو "ربي فوق" وقصده بذلك فوقية قهر و استعلاء. فالعامي يعسر عليه نفي معاني هذه الألفاظ عن الله وان كان ظاهرها يوهم الجهة لأنه جازم بأن ما قاله موافق لظواهر النصوص وأن ما يعتقده هو نفي التشبيه و التحيز عن الله, لذلك عبر الإمام ابن أبي جمرة عن هذا القيد بقوله " بعسر فهمهم نفيها". وإلا فلا معنى لقول اللقاني: "قيده". وهذا هو اللبس الذي وقع فيه بعض الناس فتاهوا في هذه المسألة فلم يعرفوا الفارق بين من ينطق بلفظ "الجسم" أو "جهة فوق" وهو فاهم لمعناها و بين من ينطق بها وهو لا يفهم المعنى أو يظن أن هذين اللفظين تردان في لسان العرب بمعنيين, أحدهما المعنى الكفري الفاسد و الآخر المعنى الذي يوافق العقيدة السليمة. فصاروا يطلقون القول بإيمان كل من نسب الجهة الحسية لله . فهؤلاء الذين تلقفوا كلام العز بن عبد السلام و جردوه من قيوده ضلوا وأضلوا غيرهم و حكموا باسلام من نسب الجهة الحسية لله ولم يفرقوا بين العامي الذي لا يفهم ما يتلفظ به و بين رؤوس المجسمة الذين ينسبون عن اختيار الجهة لله.
4- الأمير الصنعاني: عقب على الكلام الذي يُنسب للعز بن عبد السلام فقال في كتابه " إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة " تحقيق محمد صبحي بن حسن حلاق دار ابن حزم ط 1 لعام 1999 - 1420 ص " 87 إلى 91 ما نصه :" ذكر هذا الدليل -أي تحقيق نفي الجسمية أو تجويزها على الله من قوم موسى الذين عبدوا العجل - ابن عبد السلام في قواعده ، و تابعه -أي تعقبه- العلامة المقبلي فنقله في مؤلفاته حتى نقله في المنار (1/ 68-69) في بحث الشك ، و كنا نراه كلاما حسنا برهة من الدهر - أي كلام ابن عبد السلام- ثم ظهر لنا اختلاله فانه يقال عليه:العجل قد خالف الذات الشريفة في كل صفة من صفات الجسمية و في كل صفة من الصفات العلية بل شاهده بنو اسرائيل يُصنع من حلي القبط و علموه محدثا صنعه السامري جسما محدثا لا يعلم غيبا و لا شهادة و لا يملك ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا و بالجملة علموه على خلاف ما عليه الرب تعالى في كل صفة وقد كانوا مسلمين قبل ذلك, فان كانوا حال اسلامهم جاهلين كونه تعالى غير محدث كما كانوا جاهلين كونه غير جسم و جاهلين كونه على كل شئ قدير و جاهلين كونه عالم الغيب و الشهادة و جاهلين كونه المالك لكل نفع وضر فأي اسلام عندهم و اي رب عرفوه و آمنوا به ؟...." إلى آخره.
رابط ذو صله : | |
القسم : | مقالات وردود شرعية |
الزيارات : | 851 |
التاريخ : | 25/7/2022 |
|