www.sunnaonline.org

بطلان ما يسمى قوانين حقوق الطبع والتأليف والابتكار

تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

مقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد فإن من الأفكار التي غزت بلادنا ولاقت قبولا لدى الكثيرين مع كونها من بضاعة أهل الكفر التي لا تمتّ إلى الإسلام بحبلٍ واهٍ (1) ولا متين فكرةُ حماية الملكية الفكرية التي بنيت عليها جملةٌ من القوانين العصرية، أعني قوانينَ حقوق الطبع والتأليف والابتكار، المطبَقة في كثير من البلاد والأمصار. ولمّا رأيت انخداع كثير من المسلمين بها ودفاعَهم عنها وكأنما هي من صميم التعاليم الإسلامية وأصول الشريعة الإسلامية، دفعتني الغيرة على دين الله الذي لا يشاركه في الصحة دينٌ إلى أن أكتب هذه الرسالة للمسترشدين لعلها ترشد حائرًا من الحائرين أو تهدي ضالا من الضالين، وأسميتها (الإعلان بالإنكار لقوانين حقوق الطبع والتأليف والابتكار) واللهَ تعالى أسأل حسن النية وحسن العمل والنـُجحَ والقبول فهو نِعمَ المسؤول لنيل المأمول.

(1) حبلٌ واهٍ: الحبل الواهي هو الضعيف المتخرّقُ المتشقق

لمحة تاريخية

حماية الملكية الفكرية مبدأ رأسماليٌ

ليعلم أن فكرة حماية الملكية الفكرية نشأت في ظل النظام الاقتصادي الرأسمالي، وأصبحت من مبادئه، فقد أبرمت الدول الرأسمالية الصناعية اتفاقية باريس لحماية الملكية الفكرية عام 1883 ر، واتفاقية بيرن عام 1886ر، وتلاهما اتفاقيات أخرى لا تقل عن عشرين. وما لبثت أن تأسست المنظمة العالمية للملكية الفكرية التي تعرف باسم "ويبو" (wipo) لتشرف على الاتفاقيات المذكورة وترعاها. وفي العام 1995 تبنت المنظمة العالمية للتجارة فكرة حماية الملكية الفكرية، وأصبحت منظمة ويبو جزءًا منها فاشترطت المنظمة العالمية للتجارة على الدول التي ترغب في الانضمام إليها أن تلتزم بحماية الملكية الفردية وأن تسن قوانين ملزمة لرعيتها من أجل حماية الملكية الفكرية على أراضيها.

حماية الملكية الفكرية فكرة غريبة عن المسلمين

ففكرة حماية الملكية الفكرية فكرةٌ غريبةٌ عن مجتمعات المسلمين لم يعرفها المسلمون قط قبل أن تغزو بلادَهم في ما غزاها من أفكار دخيلة لا تمت إلى شريعتهم ولا أعرافهم بصلة. وقد انتشرت الطباعة في بلاد المسلمين وأخذوا يطبعون الكتب على نطاق واسع قبل أن تصل فكرة حماية الملكية الفكرية وقوانين حقوق الطبع والتأليف والابتكار إلى بلادهم فلم يرِدْ أن أحدًا رأى في أي من مؤلفات المسلمين القديمة ومخطوطاتهم المنتشرة اليوم في مكتبات الدنيا أيةَ عبارة تشير إلى احتفاظ المؤلف بحق الاستنساخ دون غيره، كعبارة: (جميع حقوق الاستنساخ محفوظة للمؤلف) كما نرى في غالب الكتب العصرية وعلى صفحاتها الأولى

وجهة النظر الرأسمالية

تعتبر القوانين الرأسمالية الفكرة مالاً يملكه مَن سبَق إليها

تعتبر قوانين حماية الملكية الفكرية التي سنّتها الدول الرأسمالية أن للفرد حقـًا في حماية إنتاجه الفكري المبتكر أي ما ابتكره وسبق إليه من فكر وتأليف، وتعتبره مالكـَه الوحيد وتمكـّنه من التصرف به دون غيره وتمنع غيرَه من التصرف والانتفاع بهذا الابتكار إلا بإذنه، وتقوم الدول التي تطبق هذه القوانين بحماية ما ابتكره الشخص وصيانته عن النسخ والتقليد والاستعمال والتصرف والانتفاع من قبل الآخرين بلا إذنه، في حياته وبعد موته، وتعاقبُ كلَ مَن يفعل ذلك وتجعل لورثة المبتكر حقـًا في التصرف والانتفاع بهذه الفكرة بعد موته. وتصحح هذه القوانين ملكية الشركات أيضًا للأفكار المبتكرة كالأفراد.

العلم والتكنولوجيا تدخل عندهم تحت ذلك


والمقصود بالإنتاج المبتكر في هذه القوانين هو الفكر أو العلم الذي توصّل إليه عقل شخص ما ولم يسبقه إليه أحد كما ذكر ءانفـًا، ويدخل في ذلك تأليف الكتب وتصنيفها، ومن أهم هذه الابتكارات المعارف التي تستخدم في التصنيع وإنتاج السلع والخدمات وهي ما يسمى اليوم "التكنولوجيا" وتوسع كفارُ الغرب حتى اعتبروا أي فكرة جديدة نافعة مالاً قابلاً للتملك (ولو كانت مثلا ترتيبًا جديدًا لمجموعة إجراءات عملية في إدارة الأعمال كلٌٌ منها معروف سابقـًا).

الأفكار في القوانين الرأسمالية كالأعيان ومنافعها


وبذلك اعتبر الرأسماليون المعارف والأفكار الفردية مالا قابلا للتملك كالأعيان ومنافعها، ولا يجوز الانتفاع به لمن علِمَه أو تعلمه إلا بإذن صاحبه الأول أو بإذن ورثته من بعد موته وفقـًا لمعايير حددوها في قوانينهم، منها أن يكون هذا الابتكار قد تم تسجيله في سجلات خصصوها لهذا الغرض، فإن اشترى شخص كتابًا أو أسطوانة حاسوب "ديسك" أو شريط تسجيل "كاسيت" مما هو محمي بالقوانين المذكورة، فله في نظرهم أن ينتفع بالنسخة التي اشتراها انتفاعًا مقيدًا كالقراءة أو النظر أو السماع، ويحظرون عليه أن ينتفع بها في مجالات أخرى كطباعتها ونسخها للبيع والمتاجرة. وينسحب هذا الحكم عندهم على جميع الصنائع، فمن اشترى آلة أو سلعة أخرى مما تمّ تسجيله في سجلاتهم فليس له عندهم أن يصنع مثلها إلا بإذن الصانع الأول.

كثيرون اعتبروا ذلك موافقـًا للإسلام مع أنه يخالفه

والعجيب أن كثيرًا من الناس في بلاد المسلمين ـ ومنهم من هو معدود في أهل الفقه بالدين ـ اعتبر أن كل ذلك موافق للشرع الإسلامي، بل زاد على ما ذهب إليه الرأسماليون فاعتبر الملكية الفكرية حقـًا يكفله الشرع الإسلامي للشخص الذي سبق إليه ولو لم يسجله في السجلات التي خصصتها الدول لذلك، واعتبر طبعَ الكتب بدون إذن مؤلفيها اعتداءً على هذا الحق المزعوم بل تمادى البعضُ فمنعَ طبعَ الكتاب المشترى وتصويرَه بدون إذن الناشر الذي نضّده وصفّ أحرفه نقلا من بعض المخطوطات ولو كان كتابًا تراثيًا قديمًا؛ وقيّد ءاخرون المنعَ بوجود نية المتاجرة؛ واستثنى قومٌ من هذا المنع الكتبَ الإسلامية. وكل هذا باطل لا أصل له في شرع الله كما سنبين فيما يلي وقد أفردتُ فصلاً في ءاخر هذه الرسالة لتعداد أسباب انجراف البعض مع هذه الفكرة وانجرافهم عن الجادة (1) في هذه القضية.

(1) الجادّة: هي الطريق الأعظم، والمقصود بالانحراف عنها هنا هو مجانبة الصواب.


حكم الشرع الإسلامي

تنظيم الشرع للملكية

والحقيقة أن الاسلام نظـّم الملكية فشرع للمسلم التملّك وأباح له ملكية أكثر الأعيان كالرقيق والأنعام والمساكن ومحاصيل الأرض، وحرّم عليه ملكية بعض الأعيان كالخمر والخنزير، وشرع له أسبابًا لتملّك الأعيان والمنافع كالبيع والإجارة والإرث والهبة، وحرّم عليه أسبابًا أخرى كالربا والقمار، كما أباح له أخذ الأجرة على عمله كتعليم الآخرين.

لا تثبت الملكية في الإسلام إلا بالشرع

والملكية الفردية في الإسلام لا تثبت إلا بإثبات الشرع لها وتقريره لأسبابها، فالحقّ في ملكية الشيء ليس ناشئـًا عن الشيء نفسه ولا عن كونه نافعًا، وإنما هو ناشئ عن إذن الشارع وهو الله، بملكيته بسبب من أسباب التملك الشرعية كالبيع والهبة والإرث.

للفرد سلطان على ما يملكه شرعًا

وقد جعل الشرعُ الإسلامي للفرد سلطانـًا على ما يملك يمكـّنه من التصرف والانتفاع بما يملك وفق الأحكام الشرعية، وأوجب على الدولة صيانة الملكية الفردية (1)، ووضع عقوبات زاجرة لكل من يتعدى على ملكية الآخرين.

الفكرة ليست مما يباع ويشترى شرعًا

وأما الفكرة المبتكرة والنظرية العلمية والكلام المؤلــَف فليست شرعًا من الأعيان التي تباع وتشترى، ولا من المنافع الني تـُتـَمَلك فهي ليست مالاً شرعًا (2)، لكن لصاحبها ـ إن كان لها اعتبار في الإسلام ـ أن يأخذ أجرة على عمله في تعليمها لغيره أو تدوينها في كتاب أو تسجيلها في شريط أو أسطوانة أو تطبيقها في صناعة سلعة ما، كما له أن يكتبها على ورق يملكه أو يسجلها على شريط أو أسطوانة يملكها أو يطبّقها في صناعة سلعة من مواد يملكها ثم يبيع هذا الكتاب أو الشريط أو الأسطوانة أو السلعة.

لا يحق للبائع تحديدُ تصرف المشتري بما اشتراه


ثم لهذا الذي اشترى كتابًا مثلا أن يتصرف به بالقراءة والبيع والهبة والإعارة والنسخ كما يشاء، وليس للبائع الأول أن يمنعه من شيء من ذلك، إذ لا مسوغ لهذا المنع شرعًا، وليس للبائع أن يشترط تقييد تصرف المشتري بأن يمنعه من نسخه لغرض المتاجرة مثلا، فكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط، والمسلمون عند شروطهم إلا شرطـًا حرّم حلالا أو أحلّ حرامًا.

لا يجوز للمشتري أن يدّعي أنه المؤلف أو المبتكر

إلا أنه لا يجوز للمشتري أن يدّعي أنه مؤلف هذا الكتاب لأن هذا يدخل في الكذب المحرم شرعًا، كما أنه لا يجوز لمن قلد سلعة مبتكرة وصنع مثلها أن يبيع إنتاجه على أنه من صنع المبتكر الأول أو يدعيَ أنه هو المبتكــِر لأن ذلك يدخل في الغش المحرّم شرعًا.

حقوق البائع في السلعة تنتقل إلى المشتري


بمقتضى عقد البيع في الإسلام يحُلُ المالكُ الجديد (أي المشتري) محلَ المالك الأول (أي البائع) بالنسبة للسلعة المبيعة، وتنتقل إلى المالك الجديد حقوقُ المالك الأول في السلعة كافة؛ وليس للمالك الأول أن يحرم المالكَ الجديد من أيٍ منها. وهذا يصدُق على كل ما يصح بيعُه في الإسلام سواءً كان كتابًا أم غير ذلك وسواءً كان المالكُ الأولُ هو مؤلفَ ما في الكتاب ومبتكِرَ هذه السلعة أم لم يكن.

(1) تعبير "الملكية الفردية" تعبيرٌ غريب عن النصوص الفقهية فليس متداوَلاً بين الفقهاء، ولعل مَنشأه الترجمةُ عن كتابات الغربيين، وإنما استعملناه هنا لأننا وجدناه أقربَ للفهم.

(2) لو كانت كذلك لحَرُمَ إنشادُ بيتٍ من الشعر بدون إذن ناظمه أو ورثته مِن بعدِه، ولحرُم نقلُ أي فتوى بدون إذن مستنبطها أو ورثته من بعده، ولحرم أن نتكلم في أي فكرة بدون إذن مَن سبق إليها أو ورثتِه مِن بعدِه؛ ولكن المسلمين ما زالوا منذ عهد النبوة ينشدون الأشعار وينقلون الفتاوى ويخوضون في الأفكار دون استئذان أحدٍ ودون اعتراضٍ من فقيه أو حاكم، ولذلك تجدُ في كتب الفقه التصريحَ بأن المكتوبَ في الكتاب ليس مالاً مُتـَقـَوِّمًا، فلا يقع عليه البيع، ولا يملكه المؤلف ولا أيُ شخص آخر.


قوانين حماية الملكية الفكرية تحرّم حلالا فلا يجوز تطبيقـُها

كلُ شرطٍ يخالف الشرعَ فهو باطل


إن الشروط التي نصت عليها قوانين حماية الملكية الفكرية وسمحت لمؤلفي الكتب وصانعي السلع ونحوهم أن يشترطوها عند البيع باسم حماية الملكية الفكرية كما يسمونه حقوق الطبع وبراءة الاختراع، هي شروط غير شرعية، لا يجب الالتزام بها، ولا يجوز إلزام الناس بها لأن مقتضى عقد البيع في الإسلام يعطي المشتري حق التصرف بما يملك كما يعطيه حق الملكية، وكلّ شرط مخالف لمقتضى عقد البيع فالمشتري في حلّ منه، ولو كان مائة شرط، ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها: "أن بَريرة أتتها وهي مكاتـَبة قد كاتبها أهلها على تسع أواق، فقالت لها: إن شاء أهلك عددتـُها لهم عَدة واحدة وكان الوَلاء لي. فأتت أهلـَها فذكرَت ذلك لهم وأبوا إلا أن يشترطوا الولاءَ لهم، فذكرته عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم فقال افعلي ففعلـَت. فقام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب الناس فحمِد الله وأثنى عليه قال: ما بال رجال يشترطون شروطـًا ليست في كتاب الله، قال: فكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، كتاب الله أحق، وشرطه أوثق، والولاء لمن أعتق" (1)، فالحديث يدل بمنطوقه على أن الشرط المخالف لما في كتاب الله وسنة رسوله لا عبرة به ولا يجوز إلزام أحد به. كما أن هذه الشروط المخالفة لمقتضى عقد البيع تدخل أيضًا بلا أدنى شكٍ تحت النهي الوارد في حديث: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعٍ وشرطٍ" (2) وحديثِ: "اِنهَهُم عن بيعٍ وشرطٍ" (3)، فهي شروط لا يقتضيها عقد البيع ولا تلائمه لأنها تناقض إطلاق يد المشتري فيما اشتراه وتنافي كونـَه أًصبحَ مالكَه وصاحبَ حق الانتفاع به.

اشتراط احتفاظ البائع بحق البيع أو التصنيع شرطٌ باطل

وما دامت شروط قوانين حماية الملكية الفكرية تجعل الانتفاع بالعين المبيعة مقصورًا على انتفاع دون انتفاع آخر مما أباحه الشرع، فهي شروط باطلة، تحرم المشتري من حقٍ كفله له الشرعُ فهي مخالفة لما في كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة، لكونها مخالفة لمقتضى البيع الشرعي الذي يمكـّن المشتري من التصرف والانتفاع بالعين التي اشتراها بأي وجه من الوجوه الشرعية كالبيع والإجارة والهبة والنسخ وغيرها، والشروط التي تحرّم الحلال لا شك باطلة لقوله صلى الله عليه وسلم: "والمسلمون على شروطهم إلا شرطـًا حرّم حلالا أو أحلّ حرامًا" (4)، وعليه فلا يجوز أن تكون حقوق التصرف (5) محفوظة للمالك الأول محرمة على المالك الثاني، بل هي مباحة للمالك الثاني بعد إنجاز البيع كما كانت للأول قبله، فعقدُ البيع نقل هذه الحقوقَ من المالك الأول إلى الثاني ولم يعد للمالك الأول أيُ حق فيها (6).

لا يحق للبائع والمعلم تحريمُ ما أحله الشرع للمشتري والمتعلم

فالمفكر والعالم والصانع والمؤلف، بعد أن وصل علمه أو فكرته أو صناعته أو تأليفه منه إلى غيره بالتعليم أو البيع لكتاب أو سلعة، لا يملك منع أحد من استعمال ما تعلمه أو اشتراه منه والتصرف به حسب ما أحله الشرع وأذن به الشارع (أي الله). فالمعلومات والأفكار كما تقدّم ليست مالاً متقوِّمًا يملكه شخصٌ معين ويحق له الانتفاع به دون غيره ولكن لا يجوز نسبتها إلى غير الذي صدرت عنه لأن ذلك كذبٌ والكذب حرام.


(1) حديث صحيح رواه البخاري.
(2) رواه الطبراني في الأوسط.
(3) رواه أبو داود والترمذي.
(4) حديث صحيح رواه الترمذي وأبو داود.
(5) يشمَل التصرفُ بنسخة الكتاب استنساخَ ما فيها بالطباعة وغيرِها وتقليبَ صفحاتها لهذا الغرض، كما يشمَل التصرفُ بالسلعة تقليبَها والنظرَ فيها لصنعِ مثيلٍ لها.
(6) ولذلك فلا يحل للمالك الأول أن يأخذ نسخة الكتاب أو السلعة ويقلـّبَها بعد بيعِه لها وتسليمِها إلى المشتري وانقضاءِ خِيارِ الفسخ بدون طيب نفس مالكها الجديد، ولكن يحلُ للمالك الأول أن يستنسخَ نسخة أخرى يملكها هو من الكتاب، كما يحل له أن يقلـّبَ سلعة أخرى يملكها ويصنعَ مثلها، وإن كانت مماثلة للتي باعها بدون استئذان أحد، لأنه صاحبُ السلطة على ما في مِلكه وليس على ما باعه وخرج عن ملكه.

الرد على فتوى منحرفة

فتوى تحرم على المشتري النسخ إلا بإذن المبتكِر


انتشرت فتوى منحرفة تحملها بعض السلع كأسطوانات الحاسوب والتسجيلات الصوتية وهذه الفتوى تحرّم على المشتري النسخ إلا بإذن المبتكر الأول استنادًا إلى ثلاثة أحاديث صحيحة هي:

الحديث الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم" (1).

الحديث الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" (2).

الحديث الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلى مباح فهو أحق به" (3).

واستدلال هذه الفتوى بهذه الأحاديث مخطئ لا يستقيم فلا مستند لها في هذه الأحاديث كما يبين الفصل التالي ولكن يبدو أنها وافقت هوىً في نفوس الكثيرين وساعدها الجو العام السائد في الدنيا اليوم وانخدع البعض باستدلالها المعوج فراجت ولاقت قبولا واسعًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.


منشأ خطئهم من جهتين

وقع أصحاب هذه الفتوى في خطأ جسيم وخطؤهم ءاتٍ من جهتين:

* الأولى: إغفالهم ما استثناه الرسول في الحديث الأول فقد عمموا لفظ "شروطهم" في الحديث الأول دون استثناء ما استثناه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (إلاشرطـًا حرّم حلالا أو أحل ّ حرامًا) كما هو تمام الحديث.

* الثانية: استدلالهم بالحديثين الآخرين في غير موضعهما فقد استدلوا بالحديثين الثاني والثالث في غير موضعهما إذ لا محل لهما في هذا المناط (4)، ولا تعلق لهما بهذه المسئلة كما يظهر مما يلي:

أ ـ الحديث الثاني مناطه مالُ الآخرين:

فأما الحديث الثاني: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" فمناطه مال الآخرين، فلا يتعلق بما يملكه المرأ، والكتاب أو الأسطوانة موضوع البحث قد انتقلت ملكيتها من البائع إلى المشتري بالبيع فلا سلطة للأول عليها، فهي أصبحت ملكـًا للمشتري، ولا يشملها الحديث لأنها لم تعد من مال الآخرين بالنسبة للمشتري، بل هي أصبحت بعد شرائه لها ماله الذي يحلّ له أن يتصرف به بدون اشتراط طيب نفس غيره.

ب ـ الحديث الثالث مناطه المال العام:

وأما الحديث الثالث: "من سبق إلى مباح فهو أحق به" فمناطه المال العام (أي ما كانت ملكيته عامة لجميع المسلمين أي أن فيه حقـًا لكل مسلم) (5) كحديث: "مِنى مُناخ (6) مَن سبق" (7) ، فلا يتعلق بما يملكه المرأ، والكتاب وأسطوانة الحاسوب ليسا مالا عامًا مباحًا لجميع المسلمين كأرض منى، بل هما ملكية فردية انتقلت بالبيع إلى المشتري وزالت ممن سبق (أي البائع)، فلا مجال لتعليق الحديث بها، إذ كيف يكون السابق (أي البائع) أحقّ بالسلعة من الثاني الذي اشتراها بعد أن صارت السلعة ملكـًا للثاني ولم تعد ملكـًا للأول.

(1) حديث صحيح رواه الترمذي وأبو داود.
(2) حديث صحيح رواه البيهقي.
(3) حديث صحيح رواه أبو داود.
(4) المَناطُ: هو المتعَلــَّقُ بفتح اللام، أي ما يتعلق به الشيء.
(5) كأرض منى التي لا يملكها أحدٌ من المسلمين، بل لكلٍ مِن المسلمين أن يجلس فيها ويُنيخَ فيها دابته، فمن سبق إلى موضع منها فهو أحق بما سبق إليه، فلا يحق لغيره أن يطرده منه ليشغله هو.
(6) المُناخُ (بالضم) : مَبرَك الإبل (أي المكان الذي تبرُك فيه).
(7) حديث صحيح رواه أبو داود.

انعقاد الإجماع على حل نسخ الكتب بدون إذن مؤلفيها

عملُ الأمة منذ عهد النبوة حتى مطلع القرن المنصرم


إن إباحة نسخ ما اشتراه المرء من كتب بدون إذن مؤلفيها ولو بأعداد كبيرة ولو بقصد التجارة من البدَهيات (1) والمسَلـّمات التي لم يختلف فيهما مسلمان منذ عهد النبوة حتى مطلع القرن المنصرم، (حتى بعد أن بدأ عهد الطباعة) (2) فلم يُعلم أن مؤلـِفـًا من المؤلفين في أي فن أو علم قبل القرن الماضي منعَ النساخَ من استنساخ مؤلفاته بقصد المتاجرة ولا طالبهم بحصة من أرباحهم من بيعها، مع أن علماء العصور الماضية أفنوا أعمارهم في التأليف والتصنيف مع الفاقة والفقر الغالب على كثير منهم، ولم يقل أحد منهم: "أنا أتعبت عقلي وجسمي وبصري في التحصيل والسفر والتأليف والجمع والاستنباط وهؤلاء الكتبيون (أي تجار الكتب) يستأجرون النساخ لنسخ مؤلفاتي ويتاجرون بها وتسير بها الركبان وينتفعون بأرباحها دون أن ينالني من ذلك فلس واحد".

ليس الزهد وحده هو الباعث على ذلك


وليس الزهد في عرض الدنيا وحده هو الباعث على إعراضهم جميعًا عن هذه المطالبة كما ظن البعض لأن كثيرًا منهم كانوا يقبلون الأموال من الحكام والأثرياء مكافأة على بعض مؤلفاتهم كما كان منهم من يأكل من المرتبات والأوقاف المخصصة لأهل العلم من مدرسين وقضاة وغيرهم ومنهم من كان يبيع بعض ما يملكه من الكتب عندما يحتاج إلى مال ومع هذا لم يطالب أحد منهم بحصة من أرباح تجار الكتب من مؤلفاته فلا يسلـّم بأن ملايين المؤلفين المسلمين في مختلف العلوم والفنون الذين عاشوا خلال ألف وثلاثمائة سنة كانت مقاصدهم وأغراضهم وأخلاقهم واحدة ولا أنهم كانوا جميعًا زهادًا إلى حد رفض أي نفع مالي حلال من مؤلفاتهم والتنازل عن حقوقهم فيه.

إذا كان جميع المؤلفين زاهدين فهل كان جميع ورثتهم كذلك


ثم إن كانوا جميعًا زاهدين في المال فهل كان جميع ورثتهم كذلك حتى لم يُعرف عن أحد من عوام المسلمين في القرون الغابرة أنه طالب بحصة من أرباح استنساخ مؤلفات والده أو جده أو قريبه ولا لجأ إلى واحد من القضاة الشرعيين لهذا الغرض أو استعان بأحد من الحكام والأئمة العادلين أو الجائرين على ذلك؟

لم يُعلم أن شاعرًا متكسبًا طالب نساخ ديوانه بالمال

وحتى الشعراءُ الذين دأبوا على التكسب بشعرهم على أبواب الحكام والموسرين في القرون الماضية وعُرفوا بشدة حرصهم على تحصيل المال لم يعرف أن أحدًَا منهم طالب النساخ بمال لاستنساخهم ديوانـَه الشعريَ ومتاجرتِهم به كما لم يُعرف أن أحدًا من ورثتهم فعل ذلك مع شدة حرص كثير منهم على الدنيا وبُعدهِم عن الزهد.

الزهد ما كان ليمنع الفقهاء من بيان الحق

ثم إن الزهد ما كان ليمنعَ فقهاء الأمة من بيان حرمة استنساخ الكتاب المشترى إلا بإذن مؤلفه لو كان حرامًا كما لم يمنعهم الزهدُ من بيان حرمة استنساخ الكتاب المستعار إلا بإذن مالكه؛ فلو كان الأمران مشتركـَين في الحرمة فلماذا بينوا حرمة أحدهما وسكتوا عن الآخر؟ فهذه كتب الفقه في المذاهب الإسلامية كافة لم تشر إلى تحريم استنساخ الكتاب بدون إذن مؤلفه لا من قريب ولا من بعيد، مع أنها اشترطت إذن مالكه (إذا كان مستعارًا) وأفادت تحريمَ نسخ المستعير من الكتاب الذي استعاره إلا بإذن المالك (ولم يشترطوا إذن المؤلف بحال)

فلو كان إذن المؤلف شرطـًا للحل فلماذا ترك العلماءُ ذكرَه بينما ذكروا اشتراط إذن المالك؟ ألا يدل إجماعهم على السكوت عن التحريم أن الأمر باق على أصل الحل؟


هل ورد عن أحد من القرون الماضية منع الاستنساخ بلا إذن المؤلف

فهل ورد عن أحد من أهل العلم (3) في القرون الماضية النهي عن استنساخ المرء ما يملك من كتب إلا بإذن البائع أو الملف؟ وهل ورد عن أحد من الصالحين وأهل الورع أنه تحرج عن التعامل مع هؤلاء الورّاقين أو نفـّر الناسَ من التعامل معهم إلا إذا حصلوا على إذن من كل مؤلف يستنسخون كتبه؟ وهل ورد عن أحد من الحكام المسلمين العادلين (أو الجائرين) في التاريخ أنه منع استنساخ الكتب بدون إذن مؤلفيها؟ وهل وُجد في أي من الكتب المستنسخة والمخطوطات المنتشرة في مكتبات الدنيا من العصور الماضية إشارة إلى استحصال الناسخ على إذن المؤلف قبل نسخ الكتاب للمتاجرة؟ وهل رأينا في مخطوطة من العصور الماضية (أو في أي من الكتب المطبوعة قديمًا، كالطبعات البولاقية) في أي فن من الفنون أو علم من العلوم إشارةً إلى احتفاظ مؤلفها أو ورثته أو طابعها أو ناشرها أو مصححها بحقوق النسخ ومنعِه الآخرين من ذلك؟

هل يعقل أن تسكت الأمة بأسرها على منكر


فهل يعقل أن يكون نسخ الكتب بدون إذن مؤلفيها بقصد التجارة أمرًا محرمًا شرعًا، ثم يسكت عنه علماء الأمة وحكامها العادلون قرونـًا طويلة، منذ عهد النبوة وحتى مطلع القرن الماضي؟ مع أن الكتبيين والوراقين كانوا ناشطين في استنساخ الكتب وبيعها على نطاق واسع لرواج بضاعتهم وإقبال الناس من أهل العلم والفضل وغيرهم على شرائها حتى سارت بمخطوطاتهم الركبان بين البلدان وتنافس الناس في اقتناء بعضها وغالــَوا (4) بها.

هل يُعقل أن تـُجمِعَ الأمة بأسرها كل هذا الزمن الطويل على السكوت عن منكر؟ وهي المعصومة عن الإجماع على الباطل فالإجماع من أدلة الشرع كما هو معلوم وقد قال الله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهَون عن المنكر وتؤمنون بالله) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتي على ضلالة) (5) أيعقل أن يغفل ملايين أهل العلم والورع من السلف والخلف عصورًا وقرونـًا طويلة عن إنكار منكر أو يتغافلوا عنه ليتنبه له بعض أهل عصرنا وينكروه؟


إنعقاد الإجماع الفعلي قرونـًا طويلة على حل النسخ بلا إذن المؤلف


يتبين مما تقدم أن الأمة الإسلامية أجمعت إجماعًا فعليًا بلا أدنى شك على حل النسخ بدون إذن المؤلف للكتاب المشترى سواءً كان موضوع الكتاب دينيًا أو غير ذلك ولو كان ذلك لغرض المتاجرة على نطاق واسع فعلى هذا جرى عمل المسلمين علمائهم وعوامهم على وجه واحد قرونـًا طويلة فكل الأمة كانت مطبِقةً على أن من اشترى كتابًا فله نسخـُه كما شاء وبالعدد الذي شاء وكفى بذلك دليلاً وأما إذا استعار الرجل كتابًا فليس له أن ينسخ منه إلا بإذن صاحبه (أي مالكه لا مؤلفه) فإن أذن له المالك حلّ له ذلك ولو بدون إذن المؤلف كما بيّن ذلك أهل العلم فكيف يُجعَل المؤلفُ مكانَ المالك ثم يُجعَل حكمُ مَن اشترى وحكمُ مَن استعار حكمًا واحدًا لا فرق بينهما؟ هذا بهتان عظيم.

(1) البَدَهيات: جمعُ بَدَهي، نسبة إلى البديهة وهو ما لا يحتاج إلى إعمال الفكر.
(2) فقد استمر العمل على ذلك زمنـَا بعد بدء عهد الطباعة.
(3) حتى من أولئك المعروفين بشدة الورع والاحتياط العجيب لدينهم مع الجرأة في قول الحق، كالإمام النووي الذي امتنع عن أكل فواكه دمشق لأنها كثيرة الأوقاف.
(4) غالى بالشيء: أي اشتراه بثمن غال.
(5) رواه الترمذي وغيره، وروي بالمعنى بإسناد صحيح ولا خلاف في الأخذ بمعناه بين العلماء.

الأمر باق على أصل الحل في الكتب وغيرها

لا يسوغ تحريم الحلال بلا دليل


وما ذكرناه عن الكتب ينسحب على جميع الصنائع، فلمن اشترى آلة أو سلعة أخرى أن يصنع مثلها، وبالعدد الذي يريد، شاء صانعُها الأول أم أبى، وله أن يبيع ما صنعه وينتفع بربحه ولو كان أضعاف ما ربحه الأول الذي أظهرهذه الصناعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" (1) ، فتصرّف المرء بما اشتراه وأصبح مالكَه الوحيد بتقليبه وفحصه وتقليده وصناعة مثله يبقى على أصل الحلّ، فلا يسوغ نقل أمر من أصل الحلّ والإباحة إلى التحريم والمنع بلا دليل.

سائر السلع كالكتاب لا سلطة للبائع عليها بعد البيع بالإجماع


ولا خصوصية للكتاب عن غيره من السلع في هذا فكما يحل شرعًا بالإجماع (كما بيّن الباب السابق) لمن اشترى كتابًا أن ينسخ منه كما يشاء ولا يجوز للبائع (ولو كان مؤلفـَه) منعُه من التصرف بالكتاب بعد أن دخل في ملكه بموجب عقد البيع، فكذلك يحل بالإجماع لمن اشترى آلة أن يصنع مثلها كما يشاء، ولا يجوز للبائع ولو كان مبتكرَها منعُه من التصرف بهذه الآلة بعد أن دخلَت في ملكه بموجب عقد البيع، فلا سلطة للبائع على السلعة بعد بيعها ودخولها في ملك المشتري، وعلى هذا جرى عمل الأمة قرونـًا طويلة، بلا اعتراض من أي مجتهد أو فقيه. ولا نسلــّم بأن الآلات المبتكـَرة والتصاميم الجديدة والسلع الفريدة لم تكن موجودة بتاتـًا في الماضي، وإن سلمنا بأنها لم تكن بكثرتها في القرنين الأخيرين (2).

جهد الصانع كجهد المؤلف لا يعطيه حق تقييد تصرف المالك

ولا يسوّغ الجهدُ المبذول في ابتكار سلعة ما وتصميمها، مهما بلغ، منعَ من اشتراها من التصرف بها وتقليبها أو تفكيكها وتصنيع مثلٍ لها، كما لا يسوّغ الجهدُ المبذول في تأليف الكتاب منعَ من اشتراه من تقليبه والنظر فيه ونسخه أو حفظه أو تحفيظه أو قراءته باللسان وتسجيل صوته به في شرط التسجيل، سواء كان غرضُه علميًا أم تجاريًا، فالشرع لم يأذن بهذا المنع للصانع ولا للمؤلف، ولم يسلطهما على حقوق المشتري يتصرفان بها ويغيّرانها كما يشاءان. فتحديد الحقوق لا يكون بالتشهي والهوى بل بالدليل الشرعي فقط
ثم إننا لا نسلم بأن الجهد المبذول في ابتكار السلع لا يضاهيه (أي يشابهه) الجهد المبذول في تأليف الكتب، بل ربما فاق جهدُ المؤلف جهدَ الصانع، في كثير من الأحيان وعلى أي حال فإن الشرع لم يعط الصانعَ الحق في تقييد تصرف المالك مهما كان جهدُه عظيمًا، كما لم يعطه للمؤلف، فمثل هذا التقييد لا يصح بلا دليل شرعي.


(1)
حديث صحيح رواه أبو داود.
(2) ومثاله في الماضي أن مَن عمل نقشًا فريدًا كالنقوش المستعملة في القصور في ماضي العصور لم يكن يمنع غيرَه مِن محاكاة نقشه وتقليده، ولا كان يطالب أحدًا بمالٍ على محاكاة عمله، مهما كان عمله أنيقـًا وفريدًا، ومهما تعب في تصميمه وهندسته وتقديره، ومهما كان حريصًا على المال، فلم يُعلم أن مهندسًا ممن سبقنا في القرون الماضية ادعى عند قاض على أحد بمحاكاة صناعته ونقوشه بلا إذنه وطالبَه بمال، ولا أن أحدًا من أهل العلم حرّم محاكاةَ نقوش المهندس وصَنعة الصانع بلا إذنه، فالإجماعُ الفعلي على حِل ذلك متحقق.

اعتراضاتٌ ستة للمخالفين وردُنا عليها

الرد على الاعتراض الأول: الحرامُ حرامٌ ولو كان فيه منفعة

ولا يَرِدُ علينا قولُ بعضهم: "إن في قوانين حماية الملكية الفكرية وحقوق الطبع والابتكار المطبقة في هذا العصر منفعةً لأنها تشجع المؤلفين والمبتكرين"؛ لأن مجرد وجود منفعة ما في أمر ما لا يجعله حلالا شرعًا، فالخمر والميسر فيهما منافع للناس بنص القرءان، قال الله تعالى: "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس"، ومع هذا فهما حرام شرعًا، فمتى قام الدليل على حرمة شيء ما فهو حرام ولا ينظر إلى وجود منفعة فيه، فهذه القوانين تحرّم حلالا كما ظهر مما تقدّم، فهي حرام ولا خير فيها وإن نفعت من بعض الوجوه، فالخير في ما شرعه الله لنا، لا فيما سنّه البشر مما يخالف شرع الله. قال تعالى: "أفـَحُكمَ الجاهلية يبغون ومَن أحسنُ مِن الله حُكمًا لقوم يوقنون".

الرد على الاعتراض الثاني: اعتمادُ كثيرٍ من الناس على حرامٍ ما في معيشتهم لا يجعله حلالا


كذلك لا يَرِدُ علينا قولُ بعضهم: "إن في إطلاق الحِل في مسئلة النسخ إضرارًا بأصحاب دور النشر والمؤلفين والمبتكرين، الذين لا دخل لهم إلا ما تدُرُّهُ عليهم منشوراتهم ومؤلـَفاتـُهم ومبتكراتهم"؛ لأن من اختار أن يعيش مِن تحجيرِ مباح، أو تحريمِ حلالٍ، أو تحليل حرامٍ، لا يُلتفت إليه فهو أضرَّ بنفسه؛ فهل يسوغ مثلا أن يقال: "ليس لأحد اليوم أن يحرم الربا ويغلق بابه لأن في إيقافه إضرارًا بالآلاف المؤلفة من موظفي البنوك الربوية المنتشرة في بلاد المسلمين والذين لا دخلَ لهم سوى مُرَتباتِهم وهم لا يحسنون عملاً آخر".

الرد على الاعتراض الثالث: الحلال لا يصبح حرامًا إذا أصبح سهلا


كذلك لا يَرِدُ علينا قولُ بعضهم: "إن سهولة استنساخ الكتب وتصنيع السلع بأعداد كبيرة في عصر الصناعة والطباعة غيّرت الحكمَ"؛ فهذا قول بلا دليل فلم يقل أحد من الفقهاء إن الشيء الحلال يصبح حرامًا إذا أصبح في منتهى السهولة، ثم إن استنساخ الكتب بأعداد كبيرة كان قائمًا قبل عصر الطباعة كما أشرنا أعلاه، وكان تجارُ الكتب أقدرَ ماليًا على الاستنساخ على نطاق واسع من كثير من المؤلفين الذين غلب عليهم الفقر في العصور الماضية؛ ثم إن المسلمين في مطلع عهد الطباعة بقوا على ما كانوا عليه من إباحة أن يستنسخ مالكُ الكتاب كتابَه الذي اشتراه ويطبعَ ما شاء منه بلا قيود، ولذلك لا نرى على أي كتاب من الكتب المطبوعة قديمًا كالطبعات البولاقية مثلا عبارةً تفيد منعَ مَن يشتري الكتابَ مِن إعادة طبعه؛ فلا وجه لهذا الاعتراض.

الرد على الاعتراض الرابع: عاشت الأمة قرونـًا وأنتجت بدون هذه القوانين

ولا نسلـّم بأن إبطال هذه القوانين يعني إيقافَ أعمال التأليف والابتكار، فقد عاشت الأمة قرونـًا طويلة بدون هذه القوانين حتى في عصورها الذهبية، ومع هذا وصلت إلى ما وصلت إليه في مختلف العلوم والفنون، مما اتكأ عليه الغربُ في نهضته في الطب والعلوم الكونية وغير ذلك. بل ربما كان في إبطال هذه القوانين حافزًا للمؤلفين والمبتكرين الحريصين على المكاسب المالية لمواصلة جهودهم بدل التراخي والاتكال على ما تدُرّه عليهم مؤلفاتـُهم ومبتكراتهم السابقة من أموال دون أي جهد إضافي منهم، فكم مِن كاتبٍ أو مبتكرٍ يعيش اليومَ بلا إنتاجٍ جديد اتكالا على ما سبق أن أنتجه (1). وعلى أي حال فالخير فيما يوافق شرعَ الله ولو كره الكثيرون، والشرُ فيما يخالف شرع الله ولو أعجب الكثيرين.

الرد على الاعتراض الخامس: إلغاءُ هذه القوانين لا يلغي الحوافزَ مطلقـًا


ولا وجه للقول بأن إبطال هذه القوانين يسد على المؤلفين والمبتكرين جميعَ وجوه الانتفاع الماليّ بإنتاجهم، فالشرع لم يسدَّ كلَ وجوه الكسب المالي والانتفاعِ المادي عليهم، ولم يُلغِ حافزَي المال والشهرة اللذين يدفعان كثيرًا من الناس إلى التأليف والابتكار، فكما ذكرنا في فصلٍ سابق، للمؤلف أو المبتكر ـ إن كان لِما ألـّفه أو ابتكره اعتبارٌ في الشرع ـ أن يأخذ أجرة على عمله في تعليمه لغيره أو تدوينه في كتاب أو تسجيله في شريط أو أسطوانة أو تطبيقه في صناعة سلعة ما، كما له أن يكتبه على ورقٍ يملكه، أو يسجله على شريط أو أسطوانة يملكها، أو يطبقـَه في صناعة سلعة من موادََّ يملكها، ثم يبيعَ هذا الكتابَ أو الشريط أو الأسطوانة أو السلعة، وكلُ هذا يدُرُّ عليه مالاً، إن كان هدفـُه هو المالَ. كما أن الشرعَ لا يمنعُ المرءَ من نيل الشهرة والمجدِ مِن إنتاجه إن كان هذا ما يطمَح إليه، بشرط أن لا ينزلق إلى الرياء والسمعة، وهو العملُ بالطاعة وامتثال الأوامر الشرعية ظاهرًا من أجل محمدة الناس.

الرد على الاعتراض السادس: لا يسوغ شرعًا السكوت عن هذه القوانين


وأما ظن البعض أنه ينبغي ترك الخوض في مسئلة قوانين حماية الملكية الفكرية وحقوق الطبع والابتكار لحديث: "وسكت عن أشياء رحمةً لكم غيرَ نسيانٍ فلا تبحثوا عنها" (2) فلا وجه له لأن هذا الحديث لا يعني أن يترك الناسُ السؤالَ في النوازل التي نزلت ولا أن يترك العلماءُ بيانَ حكم شرع الله فيها، فهذا المعنى لا يليق بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كيف يمكن أن ينهانا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن سؤال أهل العلم عما عرض لنا من أمور لنعرف ما أحل الله منها وما حرم وكيف يمكن أن ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَ العلم عن القيام بواجبهم في بيان حكم الله في ما ينزل من النوازل ويطرأ ويقع من المسائل، أيصح أن يأمر الشارعُ (أي الذي شرع الشرعَ وهو الله)الناسَ أن يقدِموا على أمر دون معرفة حكم الله فيه، هذا والله ما لا يكون فالحديث إنما يعني الكفَ عن السؤال عما لا يعني الناسَ ولا يحتاجون إلى معرفته ولا يتعاطونه، وأما ما تدعو الحاجة إلى بيانه مما لابسَهُ (3) كثيرٌ من الناس وفيه تحريمُ حلالٍ ـ كهذه المسئلة ـ فلا بد من بيانه والتحذير منه لأنه يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة للمسلمين بلا أدنى شك.

(1) لهذا يرى بعض الغربيين أن التوسع في قوانين حماية ما يسمونه الملكية الفكرية في دول الغرب إلى حدٍ مبالـَغٍ فيه قد يتحول إلى وبال على اقتصاد تلك الدول، ويصبح سببًا لتدمير اقتصادها ويقتل الإنتاج الفكريَ فيها بدل تشجيعه.
(2) حديث حسن رواه الدارقطني وغيره.
(3) لابَسَ الأمرَ: أي خالطه، والمقصود هنا أنهم يتعاطونه.

قوانين حماية الملكية الفكرية من أساليب الاستعمار الغربي

هذه القوانين تفرضها دولُ الاستكبار وتروّجُها


تجدر الإشارة هنا إلى أن قوانين حماية الملكية الفكرية التي فرضتها دول الاستكبار الرأسمالية على سائر دول العالم وشعوبه عن طريق المنظمة العالمية للتجارة، هي أسلوب من أساليب الاستعمار الغربي (1) يستخدمه الغرب الكافر في حفظ تفوقه العسكري وبسط نفوذه الاقتصادي وتمتين تأثيره الثقافي وتكريس غزوه الفكري وتوسيع استغلاله لشعوب الأرض وزيادة ثروته وثرائه، ولذلك ترى دولَ الغرب (ولا سيما كبراها) شديدة الحرص على أن تطبق دولُ الدنيا هذه القوانين، فهي تضغط عليها بشتى الوسائل لتفعل، وتستعمل لهذا الغرض الترغيب والترهيب كليهما. فبعد أن توصلت هذه الدولُ إلى "التكنولوجيا"، وهي المعارفُ المتعلقة بالصناعة وإنتاج السلع والخدمات، فرضوا قوانينهم ليحتكروا هذه المعارف ويمنعوا الأمم الأخرى من الاستفادة التامة منها، لتظل بلاد الدنيا أسواقـًا استهلاكية لبضائعهم ولتبقى دولُ الدنيا بحاجة إلى شراء منتجاتهم من أسلحة وسيارات وطائراتٍ وأدوية ومحاصيلَ زراعية والالكترونيات وغيرِها، ولكي لا تنفكَ أمم الأرض تابعة لهم خاضعة لنفوذهم، يتحكمون بها ويسرقون ثرواتها وينهبون خيراتها باسم الاستثمار والتجارة والعولمة.

بعض الغربيين يُقرّ بأن هذه القوانين صُممت لحماية مكاسب الدول الصناعية


يُقر بعضُ المنصفين من الاقتصاديين في الغرب نفسِه كـَهاجون تشانغ الاقتصادي في جامعة كامبريدج البريطانية الشهيرة بأن المبادئ الاقتصادية التي تروجها دولُ الغرب كفكرة حماية الملكية الفكرية صُممت للمحافظة على مكاسب الدول الصناعية ويصرح بأن الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الصناعية الأخرى تتعامل في هذا الشأن بأنانية (2) وكذب فهي تمنع البلدَ الذي يحاول أن يصبحَ بلدًا صناعيًا من استعمال الأساليب التي اعتمدتها هي في الماضي لتصبح قوةً صناعيةً هائلة. فأمريكا نفسها بُعَيد الحرب الكونية الثانية لم تتردد في تجاهل قوانين الملكية الفكرية مدةً من الزمان، وحين توصلت إلى ما تريد وتمكنت في الصناعة أصبحت تطبق قوانين الملكية الفكرية وتحميها وتـُلزم غيرَها بها (3).

الأمة الإسلامية هي هدف الكفار الأول

ولا شك أن الأمة الإسلامية هي الهدف الأول لدول الكفر بين الأمم، فالكفار يدركون قوة هذه الأمة العظيمة ويعرفون خطرها عليهم إنْ هي عادت إلى تطبيق تعاليم الإسلام، ولذلك فرضوا عليها قوانينهم البشرية المفصّلة على قياس مآربهم، بدءًا بالديموقراطية ووصولا إلى فكرة حماية الملكية الفكرية، وذلك لمنعها من أسباب قوتها وإبعادها عن العمل بشرعها، خوفـًا من نهضتها من جديد. فعلينا أن ندرك خطر قوانين الغرب ومبادئه على ديننا ودنيانا. ومن هذه القوانين والمبادئ الخطيرة قوانين حماية الملكية الفكرية فمن أهداف هذه القوانين منعُنا من الوصول إلى المعارف العلمية والأسرار التكنولوجية والاستفادة منها، للحيلولة دون نهضة أمة الإسلام، واستغنائِها عن دول الكفر وتحررها من التبعية لهم، ولذلك علينا رفض هذه القوانين وعدم الالتزام بها، لأنها تخالف الإسلام ولأنها سُنّت لإلحاق الضرر بنا، ولسنا بحاجة إليها فلنا في شرع الله خيرُ كفاية.
(1) الاستعمار هنا هو بمعناه الحديث أي تسلط أهل الاستكبار من الكفار على غيرهم من الدول لنهب ثرواتها واستغلالها.
(2) الأنانية: الأثـَرة وهي تفضيلُ المرء نفسَه على غيره.
(3) النشرة الصادرة عن مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية في لبنان ـ مطبوعة آذار 2003.


أسباب تلقي بعض المعاصرين لهذه القوانين بالقبول

لست أرى تلقّيَ بعض المؤلفين المعاصرين من المنتسبين إلى المشيخة والفقه بالدين لمبدأ حماية الملكية الفكرية وحقوق الطبع والتأليف والابتكار بالقبول ودفاعَ بعضهم عنه إلا لواحد أو أكثر من الأسباب التالية، وهي:

1 ـ تقليدُ غيرهم من المؤلفين المعاصرين ممن ينطبق عليه واحد أو أكثر من هذه الأسباب عينها.

2 ـ الانبهار بالغرب الكافر والتأثر بأفكاره، تأثرَ الضعيف بالقوي، كما هو حال الكثيرين في هذا الزمان.

3 ـ مداهنة الغربيين أو بعض من يتبعهم من الحكام والأنظمة والدول طمعًا في مكسب دنيوي ما أو خوفـًا من الملاحقة القانونية.

4 ـ حماية مؤلفاتهم لكيلا يشاركَهم في الانتفاع بطبعها مشارك، زيادة في الحرص على الدنيا.

5 ـ إظهار أنفسهم بمظهر المنفتح على الأفكار الجديدة، هربًا من نسبتهم إلى الجمود والرجعية والتخلف.

6 ـ التسرع بل التهوّر في الفتوى قبل إنعام (1) النظر في المسئلة وتمحيص (2) الأدلة واستقراء النصوص.

7 ـ التأثر بانتشار هذه الفكرة والعملِ بها في مجتمعات الدنيا في هذا العصر حتى بين المسلمين.

8 ـ الانخداعُ بواحد أو أكثر من الاعتراضات التي رددنا عليها في فصلٍ خاص في هذه الرسالة .

9 ـ الجهل بأحكام الشرع الحنيف وروح الفقه الإسلامي في قضايا المعاملات.

فلا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم

(1) إنعامُ النظر: إطالة الفكرة.
(2) التمحيص: الابتلاء والاختبار، والمقصود هنا تدقيق النظر والبحث.

كلمة أخيرة

من أراد أن يحتفظ بسلطته على ما يملك فلا يبعه

وفي الختام أقول لمن ألف كتابًا أو صنع سلعة ورغب في أن يبقى له سلطة عليها وأن يحِلَ له شرعًا تحديدُ تصرف الآخرين بها: لا تبعها؛ إذ لا يمكن أن تبيع الشيء وتحتفظ بسلطتك عليه شرعًا؛ فكما يقول المثل: "لا يمكن أن تأكل الحلوى وتحتفظ بها في آنٍ معًا". فعليك أن تجد طرقـًا أخرى غير البيع للانتفاع المالي بمؤلـّفِك أو سلعتك، إن كان هذا هدفـُك، بحيث يبقى لك شرعًا سلطة عليها؛ ففي الشرع أبوابٌ تسمحُ بذلك ليست هذه الرسالة مجالَ بحثها. والخير في موافقة الشرع، لا في اتباع الهوى وتحصيل المال بالحرام.

من باع شيئـًا فقد رضي بالتخلي عن سلطته عليه

وأما من اختار بيع كتابه أو صنعته فقد اختار نقلَ ما له من سلطة عليهما إلى غيره، فلا يلومنّ غيرَه إذا رءاه يستنسخ الكتاب الذي باعه، أو يستصنع السلعة التي باعها. وليتق الله ولا يتعدّينّ حدودَ شرع الله بالتعدي على حقوق المشتري الشرعية، طمعًَا في كسبٍ أو منفعة لا يحلان له شرعًا؛ فمن ترك شيئـًا لله عوّضه الله خيرًا منه؛ والله هو الرزاق الكريم، ورحم اللهُ امرَأً عرف حده فوقف عنده ولم يتعدّه.

خاتمة

هذا آخر ما فتح به المولى سبحانه وتعالى، وإياه أسأل أن ينفع به ويجعله سببًا لإظهار الحق في هذه القضية التي أشكلت على الكثيرين وأن يجعله في ميزان حسناتي وأن يغفر لي سيئاتي إنه سميع مجيب.

وإني لأرجو من كل من اطلع على رسالتي هذه من إخواني في الإسلام أن يعملَ على نشرها بين المسلمين وله الأجر والثواب إن شاء الله تعالى.


(رسالة فقهية من إعداد سبط الجيلاني)

كان الفراغ منها بعونه تعالى يوم الثلاثاء في 12 ربيع الآخر سنة 1425 من هجرة خير الأنام عليه الصلاة والسلام والحمد لله على الدوام
رابط ذو صله :
القسم : مقالات وردود شرعية
الزيارات : 7190
التاريخ : 28/6/2012