التحذير من التسرع بالتكفير
الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين والصَّلاةُ والسَّلامُ على سيّدِ المُرسلين سيّدِنا محمّدٍ وعلى ءالهِ وعلى جميعِ إخوانِه مِنَ النبيّين ءادمَ وموسى وعيسى وإبراهيم ومَنْ بينَهُم مِنَ النبيّين أما بعدُ؛
فإنَّ اللهَ تبارَكَ وتعالى أمرَ عِبَادَه بأنْ لا يقولوا ما لا يعلمون قالَ اللهُ تبارَكَ وتعالى ﴿وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم﴾، القَولُ الذي يقولُهُ الإنسان إذا كانَ مُوافقًا لشرعِ الله ونوَى به وَجْهَ الله كانَ ذلك خيرًا وإلا فهو وَبالٌ على قائلِهِ، وإنَّ مِنَ المُهِمّ التوسُّطُ بالحكم فإنَّ الله تباركَ وتعالى يُحِبُّ الوَسطَ ويكرَهُ الإفراطَ والتَّفريط ثم إنَّ الحُكمَ على شخص بالكُفر أو الإسلام إنْ كان مُستَنِدًا إلى دليل فذاكَ ثوابٌ عندَ الله وإنْ كانَ لا يستَنِدُ إلى دليل فهو هَلاكٌ على صاحبِهِ، قالَ العُلَماء (إدخالُ كافرٍ في المِلَّةِ أمرٌ عظيم وإخراجُ مُسلمٍ عنها أمرٌ عظيم) المعنى أنه لا يُحْكَمُ لِشَخصٍ بأنه مسلم بدونِ دَليلٍ شرعيّ ولا يُحْكمُ على مُسلمٍ بالكفرِ إلا بدليلٍ شرعيّ.
اللفظُ الذي يصدُرُ مِنْ شخص يُنظَرُ في معناه إنْ كان معناهُ تكذيبًا للدّين وليسَ له معنًى ءاخرَ يُسألُ الشَّخص ماذا فَهِمْتَ إن فَهِمْتَ مِنْ هذا اللَّفظ كذا وكذا فهو كُفر وإنْ فَهِمْتَ منه غيرَ ذلك فاذكُرْ ما هو، فإنْ ذَكَرَ المعنى الذي هو كُفْر يُقالُ له كفَرْتَ تشهَّد ارجِعْ عن هذا الكفر وتشهَّد وإنْ قالَ إني أفهَمُ منه معنًى ءاخر وكانَ ذلك المعنى غيرَ مُعارِضٍ للشَّرع لا يُقال له كَفَرْت، إنْ كانَ مِنَ المُحرَّمِ يُقالُ له هذا حرام لا تَعُدْ إليه، لهذا قالَ الفقهاء: ينبغي للمُفتي أنْ يعرفَ اصطلاح البلدِ الذي هو فيه في ألفاظِهِم فما يفهَمُهُ أهلُ ذلك البلد مِنْ معنى الكلمة فعلى موجَبِها يحكم المُفتي، أما قبلَ أنْ يعْرِفَ اصطِلاحَ البلد فقد يحكُمُ فيَقَعُ حُكمُهُ على خلافِ ما هو الواقع عندَ أهلِ ذلك البلد.
الكلمةُ الواحدة قد يكون لها عِدَّةُ معان بعضُها تكذيبٌ للدّين وبعضُها لا بأسَ به، التسرُّعُ في الحُكمِ على مَنْ تلفَّظَ بها قبلَ التأمُّلِ في الأمرِ خطَرٌ عظيم، المسئول عن مسألة يتأمَّل فيما يفهَمُ الشخص من هذا اللفظ فإن كان يفهَمُ منه الكفر يُطلَبُ منه العودَةُ عن الكُفرِ إلى الإسلام بالشَّهادة، وإنْ كانَ يفهَمُ منه معنًى لا بأسَ به فلا يُكفَّر.
الإمام محمّد بنُ الحسَن الشَّيبانِيّ صاحِبُ أبي حنيفة وهو يُعَدُّ مُجتَهِدًا "في أوَّلِ أمرِهِ كانَ تلميذًا لأبي حنيفة ثم بلغَ إلى حَدِّ الاجتهاد" سُئِل عمَّن قالَ لا أصلّي فقال: إنْ كانَ يَعني بأنه قد صلَّى فلا يُكَفَّر، وإنْ كانَ يعني أنه لا يُصلّي لأَجلِ هذا الذي يأمُرُهُ فلا يُكفَّر، وإنْ كانَ يعني أنه مُتكاسِل لا يُصلَّي لأنه مُتكاسِل فلا يُكَفَّر، وإن قالَ بأنها لا تَجِبُ عليَّ كُفِّرَ. وكذلكَ قالَ فيمَن قيلَ له: خَفِ الله، فقَال لا أخافُهُ، إنْ كانَ قالَ هذا القول على مَعصيةٍ ظاهِرَةٍ يُكَفَّر، وأما إنْ كان قالَ هذا القول على أمرٍ ليس معصيةً فقالَ لا أخافُهُ فلا يُكَفَّر لأنَّ مُرادَهُ أني ما عَمِلتُ شيئًا حرَّمَهُ الله فلا أخافُ أنْ يُعاقِبَني على ذلك لأجلِ هذا لا يُكَفَّر، وأما مَنْ كانَ عُوتِبَ على معصيةٍ ظاهرة قيل له: اتقِ الله خَفِ الله، قالَ لا أخافُهُ كَفَر، كأن قيلَ له لا تشرَبِ الخمر أو لا تأكلِ اللَّحمَ الذي ذُبِحَ على غيرِ الطَّريقَةِ الشَّرعيّة بأنْ كان ذابِحُهُ كافرًا من غيرِ اليهودِ أو النصارى فاستحَلَّ ذلكَ فقالَ على إثْرِ ذلك لا أخافُهُ كفَر. وهكذا ينبغي التفصيل والاحتِياط، ثم إنَّ التسرُّعَ في التَّكفير قد يُسبِّبُ ضررًا للشَّخصِ الذي تسرَّع ولِغَيرِهِ لأنه قد يُصدِّقُهُ فيقولُ بما قال فيَهلِكُ كما هلَكَ الأوَّل، فإياكُنَّ وإياكُنّ من التَّسرُّع.