أما بعد، فإنّ أفضلَ الأعمال معرفة الله لأنه لا يُقبل عملٌ من الأعمال ممن لا يعرفه ولا يقبل الله صلاة ولا صياما ولا حجًا ممن لا يعرفه. ومعرفة الله تكون باعتقاد أنّ الله ذاتُه موجودٌ لا يُشبه الذوات أي حقيقته لا تُشبه الحقائق، الله ليس حجمًا هو الذي خلق الحجم اللطيف والكثيف كيف يكون حجمًا ..! ثم الحجم له امتدادٌ صغير أو امتداد كبير، الامتداد الصغير كحبّة الخردل لأن مقدارها صغير جدًا ويوجد ما هو أصغر منها، وأكبر حجم خلقه الله تبارك وتعالى العرش، وما بين ذلك الله تعالى خلقه على مقادير مختلفة.
الإنسان له مقدار أربعة أذرع طولا وذراع عرضًا. العرش جرم له شكل إما مربع وإما مستدير وإما مخمّس وإما على شكل غيره كسائر المخلوقات، هذه السماوات لها شكل لها مساحة، وهذه الأرض لها شكل لها مساحة، كل شيء له حجم مخلوق، ثم كل شيء له حجم يشغل فراغًا. العرش له فراغ حلّ فيه والسماوات كذلك وهذه الأرض كذلك. الحجم يحلُّ مكانًا من الفراغ والشمس والقمر والنجوم مكانهن الفراغ، يسبحون في هذا الفراغ وهذا الفراغ مكانٌ لهن.
ثم الحجم له صفات يتحرك ويسكن، بعضٌ ساكنٌ دائمًا والبعض متحرك دائمًا، النجوم دائمًا متحركة أما العرش والسماوات السبع ساكنات. الحركة والسكون صفتان من صفات الحجم، الله لا يوصف بحركةٍ ولا بسكونٍ الله تبارك وتعالى موجودٌ ليس له حجمٌ ولا مقدارٌ ، منزّهٌ عن كل صفات الخلق، منزّهٌ عن الحركة والسكون وكذلك عن اللون والحرارة والبرودة وعن الانفعال من الانبساط إلى الانزعاج ومن التلذذ إلى الألم وسائر الانفعالات، غضبه ليس انفعالا كغضب المخلوقين ورضاه ليس انفعالا كرضى المخلوقين، أبو حنيفة رضي الله عنه قال [الله يغضب ويرضى لا كما نغضب ونرضى] معناه غضبه ورضاه ليس انفعالا، الانفعال شيء حادث، لا ليس انفعالا ليس شيئا حادثًا يحدُث في ذاتِه، الله ذاته أزلي أبدي وكذلك صفاته كله أزلية أبدية وإلا لكان مثلنا.
هذا كله، هذا التنزيه كله يُفهم من ءاية واحدة {ليس كمثله شيء} لو كان هؤلاء الوهابية يفهمون معنى هذه الآية ما قالوا الله جسم قاعد على العرش، ما قالوا الله متحيّز جهة فوق، ما قالوا الله ينزل بذاته إلى السماء الدنيا ثم يعود إلى العرش. هم يحتجّون لتصحيح عقيدتهم الكفرية ببعض الآيات القرءانية.
الآيات القرءانية بعضها لا يُفسّر على الظاهر من فسّرها على الظاهر يكفر كآية {الرحمن على العرش استوى} وحديث "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا" هذا الحديث من حمَلَه على ظاهره كفر، وهذه الآية من حملها على ظاهرها كفر لأنه وصفه بصفة الخلق، الشيء الذي له كمية يوصف بالحركة والسكون. الله ليس له كمية ولا كيف، لا عُذر لهؤلاء الذين فهموا هذه الآيات على الظاهر.
الله تعالى ما أنزل القرءان ليهتدي به كل من قرأه ما أنزله ليكون كل من قرأه سعيدًا في الجنة، بل أنزله ليسعد به بعض خلقه وليهلك به بعض. أهل السنة الذين فهموه على الوجه الذي يليق بالله وهو أنه موجود لا كيفية له وليس له كمٌّ ولا كيف، هؤلاء سعدوا وهؤلاء هم أهل الجنة الذين يشفع لهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الآخرة. اليهود والنصارى تقول الله متحيّزٌ في جهة فوق والوهابية يقولون الله متحيّزٌ في جهة فوق، هؤلاء كفار وهؤلاء كفار ما عرفوا الله، لا هؤلاء عرفوا الله ولا هؤلاء عرفوا الله.
في القرءان الكريم في سورة البقرة ءاية {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً}، أي أنّ الله يهدي به أي بالقرءان خلقًا كثيرًا ويُضلّ به خلقًا كثيرًا. ليس القرءان سعادة لكل من قرأه. الله تعالى شاء في الأزل أن يكون الجن والأنس قسمًا منهم سعيدًا وقسم منهم كفار، أكثر البشر كفار وأكثر الجن كفار. وجعل الملائكة الذين هم أكثر من الإنس والجن بأضعاف كثيرة كلّهم أولياؤه. والله تبارك وتعالى له صفات أزلية أبدية كما أنّ الله موجود بلا ابتداء ولا انتهاء كذلك له قدرة واحدة أزلية أبدية ومشيئة أزلية أبدية وسمع وبصر أزليان أبديان، بِسمعٍ واحدٍ أزلي أبدي يسمع الأصوات الحادثة، نحن نسمع الأصوات عند حدوثها بسمع يحدث لنا عند حدوثها، كذلك نرى الشيء نرى الحجم عند ظهوره لنا برؤية حادثة، الله ليس كذلك. بسمعٍ ليس له ابتداء ولا انتهاء يسمع المسموعات ويرى المُبصرات.
سمعه تبارك وتعالى واحد وبصره واحد وقدرته واحدة ومشيئته واحدة لا تتجزأ. نحن مشيئتنا تتجزأ الآن نشاء شيئًا ثم نشاء شيئًا ثم نشاء شيئًا، الله تبارك وتعالى مشيئته واحدة أزلية أبدية ليست حادثة. الحادث يتجدد أما سمع الله وبصره وقدرته ومشيئته ليست شيئًا يتجدد، أما القديم لا يتجدد لأنه أزلي لا ينقطع ليس له ابتداء ولا انتهاء. والله له كلام واحد أزلي أبدي ليس حرفًأ ولا صوتًا لو كان حرفًا لكان له ابتداء وانتهاء وتجزأ وانقطاع وتكرر. وعلمه تبارك وتعالى واحد أزلي أبدي لا يزيد ولا ينقص ولا يتجدد بمرور الزمن، وهذا القرءان الذي نقرأه دليل عليه، دليل على هذا الكلام الذي ليس حرفًا ولا صوتًا، ليس الله تكلم به على هذه الهيئة: بسم الله الرحمن الرحيم إلى ءاخر القرءان.. الله تبارك وتعالى خلق لجبريل صوتًا بحروف القرءان وجبريل عليه السلام تلقف هذا حفظه ثم قرأه على سيدنا محمد بأمر الله.
ثم هذه الكتب السماوية كلها عبارات عن ذلك الكلام، الكتب السماوية التوراة والإنجيل والزبور والقرءان وغيرها مما أنزله الله على بعض الأنبياء كلها عبارات عن كلام واحد أزلي أبدي ومع هذا يقال لها كلام الله، التوراة يقال لها كلام الله والإنجيل كذلك والزبور لأنها تدل على ذلك الكلام الأزلي الأبدي الذي ليس حرفًا ولا صوتًا، فكما أن الله تعالى يرى المرئيات بدون حدقة ويسمع الأصوات بدون أُذُن هو تبارك وتعالى متكلم بكلام ليس حرفًا ولا صوتًا. موسى عليه السلام لما سمع كلام الله ما سمع كلامًا مؤلفًا من حروف، لا، إنما سمع ذلك الكلام الأزلي الأبدي الذي ليس حرفًا ولا صوتًا الله أعطاه القدرة على سماع ذلك الكلام، مرتين سمع كلام الله، مرة لما رأى شجرة لما كان في طريقه في سفر قصده سمع ما معناه {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ليست الشجرة نطقت بهذا وليس الله نطق بهذه الحروف إنما هذه الكلمات عبارة عن ذلك الكلام الأزلي الأبدي ومع هذا، هذا القرءان الذي نقرأه لا يجوز أن يقال عنه مخلوق، لا يجوز، من قال القرءان مخلوق إن قصد هذا الكلام الذي نقرأه بالحرف والصوت لا نكفّره لكن حرام، إن قصد الكلام الذاتي الأزلي كفر. لا يقال القرءان مخلوق.
فيما مضى بعد مائتي سنة من الهجرة بعض رؤساء المسلمين ألزموا الناس أن يقولوا القرءان مخلوق مرادهم هذه الحروف، الإمام أحمد بن حنبل في ليلة من الليالي جُلد بمائة وخمسين جلادًا. ورجل ءاخر يقال له أحمد بن نصر الخزاعي رضي الله عنه لمّا أبى قُطع رأسه وشُكّ برُمح ووجهّوه إلى خلاف القلبة، من شدّة الظُلم، ثم هذا الرأس صار يقرأ سورة يس قراءة صحيحة، كرامة له الله أنطق الرأس بهذه القراءة، اسمه أحمد بن نصر الخُزاعي رضي الله عنه. ثم هؤلاء الحرس لما يغفلون عنه يتوجّه الرأس إلى القبلة ثم بعد ذلك دفنوه. ثم بعد ذلك جاء هؤلاء، كانوا يجبرون الناس أن يقولوا القرءان مخلوق، عذّبوا نفرًا من العلماء صبروا ما طاوعوهم وبعضهم خوفًا من القتل ما صبروا طاوعوهم، قالوا القرءان مخلوق. نحن اعتقادنا القرءان بمعنى اللفظ الذي يقرأ بالصوت مخلوق لله، الله خلقه، أما ذلك القرءان الذي هو أزلي أبدي كلام الله نعتقد أنه قديم ليس مخلوقًا.
أبو حنيفة رضي الله عنه وُلد سنة ثماني للهجرة هو قال في كتاب له [نحن نتكلم بالآلات والأحرف والله يتكلم بلا ءالة ولا حرف]. هذا مذهب أهل السنة القدماء والمتأخرون لكن بعض الناس من شدّة الجهل يظنون أننا لما نقول أن الله يتكلم بلا حرف ولا صوت أننا أتينا بشيء جديد، سمّوا أنفسهم سلفيّة ليوهموا الناس أنهم على عقيدة الصحابة، وهو كاذبون هم ضدّ السلف والخلف ليسوا موافقين للصحابة ولمن كانوا تبعوا الصحابة ولا للخلف ولا أهل هذا الزمن، هم شاذّون عن كل الأمة يكذبون على الناس يدلّسون على الناس، يقولون سلفي سلفي ليوهموا الناس أنهم على الأصل على ما كان عليه الصحابة وهو ضد الصحابة ضد كل المسلمين.
أبو علي السَكوني الإشبيلي المالكي عمر بن محمد أبو أمين السكوني مضى عليه سبعمائة سنة من أهل الأندلس يقول [وكلام الله واحد سبحانه بإجماع الأمة] معناه كل الأمة على هذا أن كلام الله واحد ليس يتجزأ.
والحمد لله رب العالمين
تاريخ الإضافة : | 19/11/2010 |
الزيارات : | 4745 |
رابط ذو صله : | http://www.sunnaonline.org |
الكاتب : | SunnaOnline | سنة اون لاين |
القسم : | مختارات من دروس الهرري |
التعليقات على الماده