الحمد لله أمات وأحيا، أضحك وأبكى، إليه المآب والرجعى، له ما أخذ وله ما أعطى. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، طه الممجد، من جعل الله موته صلى الله عليه وسلم لنا عِبرة، وأثابنا على حبه عند نزول كل عَبرة، وعلى ءاله وأصحابه وأزواجه وأتباعه، إلى يوم الحشر والحسرة.
الحمد لله الذي جمعنا على حب محمد، وعلى حب ما يحب محمد، ومن يحب محمد، ومن أحب صراط محمد. فأوصيكم ونفسي بخير وصية علَّمَناها محمد، تقوى الله الأحد الصمد، فهي طريق الجنة المؤكّد.
قلْ ما تشاءُ فإنَّها أقدارُ قبلَ المَوَالدِ تُكتبُ الأعمارُ
والناسُ في ركْبِ الحَيَاةِ مَوَاكِبٌ تمشِي الهُوَيـنا والقبورُ قرارُ
إنه الموتُ الذي لا بد منه، الحقُّ الذي لا بد عنه، سيفٌ على الرقاب، يفرّقُ الأصحاب، إنه خلفَ الأبواب، عند الأعتاب، هو ذا الموتُ أعظمُ مصائب الدنيا في الأحباب، إنه الموت نهاية هذه الحياة، إنه الموت مصير كل إنسان، إنه الموت هادم اللذات. إنه الموت، حِكمةُ الخَلاّق، ومنتهى الأرزاق، أقرب استحقاق، وموعِد الفراق، ميقَاتُ حق، وسفرُ الخلْق، مصيبة المصيبات، وسيوف السّكرات، باب الأبواب، وملتقى الأصحاب.
الموتُ بحرٌ موجهُ طافحٌ يَغرَقُ فيهِ الماهرُ السَّابحُ
ويحكِ يا نفْسُ قِفِي واسمَعِي مقالةً قد قالهَا ناصحُ
لا ينفعُ الإنسانَ في قبره إلا التقى والعملُ الصالحُ
قال الله تعالى ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءاَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)﴾.
بكى الباكونَ للرحمن ليلا وباتُوا دمعَهمْ لا يسأمونا
بقاعُ الأرضِ من شوقٍ إليهمْ تحِنُّ: متى عليها يسجُدونا؟
يُطيلونَ السجودَ لهمْ نَشِيجٌ وقد أجرَوْا عيونَهمُ عيُونا
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [إن العلماءَ وَرَثَةُ الأنبياء و إن الأنبياء لم يُوَرِّثُوا دينارا ولا درهما، إنما وَرَّثُوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر] رواه أبو داود والترمذي وغيرهم. وقال أيضا [إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يُفتَقدوا، وإن حضروا لم يُعرفوا، قلوبهم مصابيحُ الهدى يخرجون من كل غبراءَ مُظلِمة] صححه الحاكم .
أيها الإخوة المؤمنون، إن فقد العلماء في مثل هذا الزمان لتتضاعف به المصيبة ، وتعظم به الرزية ؛ لأن العلماء العاملين الذين يركن إليهم أصبحوا ندرة قليلة في الناس ، وكثر في الأمة الجهل والتشكيك والإلباس. فيا لها مصيبةً ما أشدَّ وقعها، وخسارةً ما أشدَّ وجعها. إن فقد العالمِ لا يعوِّض عنه مال ولا عقار ، ولا متاع ولا دينار ، بل إن فقده مصيبةٌ على الإسلام والمسلمين لا يعوض عنه شيء، فقد ورد في الأثر [وموت قبيلة أيسر من موت عالم]، وقال بعض السلف [موت العالم ثلمة في الإسلام لا يعوض عنه شيء ما اختلف الليل والنهار]. لذلك عظم الخطب على المسلمين في فقيدِهِمُ المرشد الكامل والعلامة المحدث الشيخ عبد الله الهرري أشعري العصر وشافعيه ورفاعيه رحمات الله عليه ورضوانه.
إلى بني شيبة القرشيين يعود نسبه، وفي مدينة هرر مولده ونشأته، وعلى أيدي أهل العلم والمعرفة تفتحت براعمه وتنور قلبه، حتى حفظ كتاب الله وهو في مقتبل العمر، وأجيز بالفتوى ورواية الحديث وهو دون الثامنة عشرة. جاب السهول والوهاد والهضاب، يطلب العلم من أهله لله، توحيدا وفقها وتفسيرا وتجويدا ونحوًا ولغة، حتى غدا محدثا حافظا مفسرا لغويا مؤرخا، عَلَما ومَعْلَما، عالما عاملا ومعلما ، يشار إليه بالبَنان، تقصده من الأقاصي الركبان، ويتنافس على ركبتيه العلماء من كافة البلدان.
ومن هرر إلى مكة إلى المدينة المنورة إلى بيت المقدس إلى دمشق ثم إلى بيروت، حكاية علم وخير، وتاريخ دعوة، بنشاط وحكمة، تروى للأجيال بلسان الصدق، عن عالم عامل تقي نقي ورع زاهد عابد متواضع، كالغيث أينما حل نفع. رحل فارس العلم الذي هوى صعودا، الرجل القرشي العربي، الأشعري الشافعي، البحر الطامي، والغيث الهامي، الذي لم يترك علما من علوم الدين والعربية إليه سبيل إلا كان فيه العَلَم الذي تشد إليه أكباد الإبل. رحل الداعي إلى الوحدة الإسلامية على الأسس الشرعية الحقيقية.
وفي بيروت، مدينة الإمام الأوزاعي والشيخ مصطفى نجا وعبد الباسط الفاخوري ومحمد الحوت، كان مثواه الأخير.
لله تحتَ قِبابِ العِزِّ طائفةٌ أخفاهمُ في رداءِ الفقرِ إجْلالا
همُ السلاطينُ في أطْمارِ مَسْكنةٍ قدْ جاوزُوا من ملوكِ الأرضِ أقْيالا
غُبْرٌ ملابسُهمْ شُمٌّ معاطسُهمْ جرُّوا على فلَكِ الخضراءِ أذيالا
حقا إنَّ فقد المربي الصالح يترك في قلب المؤمن الحي تحرقا على فراقه وحزنًا، وعِبرةً وعَبرة، ولكن عزاؤنا بما تركه من مؤلفات ونصائح وإرشادات هي زاد علمي وذخائر نافعة يجدر بنا التمسك بها والعمل بمقتضاها. نعم مات المحدث الشيخ عبد الله الهرري رحمات الله عليه، وهذه سنة الله ماضية في خلقه، إلا أن الله حافظ دينه، فدعوة الشيخ هي دعوة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وستبقى مشرقة بأنوار الهدى والحق بإذن الله. فلن تخلو الأرض من قائم لله بحججه، فدين الله منصور، والسعيد من كان له حظ في نصرته.
نسأل الله تعالى أن يتغمد فقيدنا بالرحمة والرضوان ، وأن يجمعنا وإياه في الجنان.
تاريخ الإضافة : | 19/11/2010 |
الزيارات : | 5167 |
رابط ذو صله : | http://www.sunnaonline.org |
الكاتب : | SunnaOnline | سنة اون لاين |
القسم : | مقالات في فضائل الهرري |
التعليقات على الماده