من خطبة الجمعة التي أُلقيت في الخامس من رمضان 1429/ الخامس من أيلول 2008 عقب وفاة الشيخ رحمه الله:
الحمد لله أمات وأحيا، أضحك وأبكى، إليه المآب والرجعى، له ما أخذ وله ما أعطى. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، طه الممجد، من جعل الله موته صلى الله عليه وسلم لنا عِبرة، وعلى ءاله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الحشر والحسرة. الحمد لله الذي جمعنا على حب محمد، وعلى حب ما يحب محمد، ومن يحب محمد، ومن أحب صراط محمد. أوصيكم ونفسي بخير وصية علَّمَناها محمد، تقوى الله الأحد الصمد، فهي طريق الجنة المؤكّد.
قُلْ ما تشاءُ فإنها أقـــدارُ قبلَ الموالدِ تُكتَبُ الأعمارُ
والناس في ركْبِ الحياةِ مواكِبٌ تمشي الهُوَينا والقبورُ قرارُ
إنه الموتُ الذي لا بُدّ منه، الحقُّ الذي لا بُدّ عنه، سيفٌ على الرقاب، يفرّقُ الأصحاب، إنه خلفَ الأبواب، عند الأعتاب، هو ذا الموتُ من أعظم مصائبِ الدنيا في الأحباب، إنه الموتُ نهاية هذه الحياة، إنه الموتُ مصيرُ كلِّ إنسان، إنه الموتُ هادمُ اللّذات. إنه الموت حِكمةُ الله الخَلاّق، ومنتهى الأرزاق، أقربُ استحقاق، وموعِدُ الفِراق، ميقَاتُ حقّ، وسفرُ الخلْق، وسيُوفُ السّكرات، بابُ الأبواب، ومُلتقى الأصحاب.
الموتُ بحرٌ موجُهُ طــافحُ يَغرَقُ فيهِ الماهـرُ السَّــابحُ
ويحكِ يا نفْسُ قِفِي واسمَعِي مقالةً قد قـــالهَا نـاصحُ
لا ينفعُ الإنســانَ في قبره إلا التـقى والعملُ الصـالحُ
الحمد لله الذي جعلنا من نصيب شيخ شريف شفوق شامخ، أكرمه الله بكرامة عظيمة، فانطبقت عليه الآية الكريمة ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءاَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾. وقد قال نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام والتحية والإكرام «إِنَّ الدِّينَ بَدَأَ غَرِيبًا وَيَرْجِعُ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي».
إلى بني شيبة القرشيين يعود نسبه، وفي مدينة هرر مولده ونشأته، وعلى أيدي أهل العلم والمعرفة تفتحت براعمه وتنور قلبه، حتى حفظ كتاب الله وهو في مقتبل العمر، وأجيز بالفتوى ورواية الحديث وهو دون الثامنة عشرة. جاب السهول والوهاد والهضاب، يطلب العلم من أهله، توحيدًا وفقهًا وتفسيرًا وتجويدًا ونحوًا ولغة، حتى غدا محدثًا حافظًا مفسّرًا لغويًّا مؤرّخًا، علَمًا ومَعْلَمًا، عالمًا عاملا ومُعلِّمًا، يُشار إليه بالبَنان، تقصده من الأقاصي الركبان، ويتنافس على ركبتيه العلماء من كافة البلدان. ومن هررٍ إلى مكة إلى المدينة المنورة إلى بيت المقدس إلى دمشق ثم إلى بيروت، حكاية علمٍ وخير، وتاريخ دعوة بنشاط وحكمة تروى للأجيال بلسان الصدق عن عالم عامل تقي نقي ورع زاهد عابد متواضع كالغيث أينما حل نفع.
بيروت، مدينة الإمام الأوزاعي والشيخ مصطفى نجا وعبد الباسط الفاخوري ومحمد الحوت، بيروت انضم إلى سلسلتها الذهبية حَبر المعارف والبحر العارف، المحدث الشيخ عبد الله الهرري المعروف بالحبشي رحمه الله تعالى. من بيروت هذه، انطلقت جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية، فكانت نقطة الضوء التي يُنسَجُ منها بريقُ الشمس، وعنوان الخير في كتاب الأمجاد، وقطرة الندى على أكمام الزهر المتورد، ونسمة الفجر التي تلامس صفحة الماء، ورمز الوسطية والاعتدال، ومعدن الرجال الأبطال.
إنها جمعية أشرقت في زمن خيمت فيه الظلمات، هي بحق درة جهود المحدث الشيخ عبد الله الهرري وتربيته وتوجيهاته، ترأسها سماحة الشيخ الشهيد نزار حلبي رحمه الله، الذي اغتالته يد التطرف والإرهاب المذموم ، ليكمل المسيرة من بعده بعزم وإصرار سماحة الشيخ حسام قراقيرة حفظه الله، حيث استمرت الإنجازات، وتوسعت المؤسسات، وازدادت ثقة الناس بمضمون أهداف هذه الجمعية الإسلامية الوطنية المعتدلة، فانتشرت فروعها في الأرجاء كدوائر الماء، ترشد العباد، وتحذّر من الفساد، جامعة ومدارس ومعاهد ومساجد ومراكز صحية وإعلامية وشبابية وغيرها.
هذه هي حكاية هذا الرجل الكبير باختصار، المرشد الصالح الشيخ عبد الله الهرري رحمه الله تعالى وأكرم مثواه الذي ينطبق عليه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم «إِنَّ الدِّينَ بَدَأَ غَرِيبًا وَيَرْجِعُ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي».
لله قومٌ قــد صَبَرُوا وبسـعدِهِمُ سَبَقَ القَدَرُ
قــامُوا لله بأمرِ اللهِ ولولا اللهُ لَمَا قَــدَروا
كَسَرُوا بالذُّلِّ نفوسَهُمُ جُبِرُوا واللهِ وما كُسِرُوا
بحديــثِهِمُ وبذكرِهِمُ المِسْـكُ يَفُوحُ ويَنتشِرُ
رحل اليوم فارس العلم الذي هوى صعودًا، الرجل القرشي العربي، الأشعري الشافعي، البحر الطامي، والغيث الهامي، الذي لم يترك علمًا من علوم الدين والعربية إليه سبيل إلا كان فيه العَلَم الذي تشد إليه أكباد الإبل. رحل اليوم الزاهد العابد الذي ترسّخ في قلبه حب الآخرة، فزهد بما في أيدي الناس فأحبه الناس. رحل اليوم الصّوّام القوام، الهين اللين، المهيب الحبيب، العظيم الكريم، البكّاء من خشية الله. رحل اليوم حافظ أحاديث رسول الله وحامي شريعة رسول الله العلامة المجدد الشيخ عبد الله الهرري. رحل اليوم مفتاح الرشاد، ومغلاق الفساد، الأمّار بالمعروف، النهّاء عن المنكر، المعمّر للأرض بالصالحات، الداعي إلى سبيل الجنات. رحل اليوم الشاكر الصابر، الشفيق اللبيق، الحكيم الحليم، العالم العامل. رحل اليوم معلم التوحيد، والمجتهد الفريد، مجدد الزمان، ومحدث الأوان. رحل اليوم رافع لواء الأشعرية، وحامي حمى المتحققين من الصوفية. رحل اليوم الداعي إلى الوحدة الإسلامية على الأسس الشرعية الحقيقية. رحل اليوم الرجل النسيب الأريب الذي شغله إصلاح عقائد الناس، فسخر جهده ووقته ونفسه ونفيسه في سبيل ذلك. رحل اليوم إمام العلماء والفضلاء والأولياء، رحل اليوم معلم الأجيال ومربي الرجال. رحل اليوم محيي السنة النبوية، وقامع البدع الشيطانية بالحجج النقلية والعقلية. رحل اليوم عالم علَّم علمَ السلف الصالحين، وتخلق بأخلاق المسلمين الأولين، عالم كأنه من الصحابة المرضيين، يعيش في القرن الواحد والعشرين. رحل اليوم الجبل المتواضع، والغذاء النافع الشيخ عبد الله الهرري الشيبي العبدري المعروف بالحبشي رحمه الله وأحسن مثواه.
مات الشيخ الهرري إلا أن جمعيته التي أسّس وأرسى ماضية على الحق كما يحبّ، طاهرة الظاهر والمضمون، على المحجة البيضاء بحمد الله، حصن يلتجئ إليه الناس من فساد الاعتقاد. مات الشيخ الهرري إلا أن تلميذه البارّ الهمام الحكيم القدوة سماحة الشيخ حسام قراقيره حفظه الله ما زال بيننا، تاجًا لرءوسنا، وملء السمع والبصر. فكما ارتضاه لنا شيخنا في حياته قائدًا للمسيرة، فكذلكم هو بعد موت الشيخ، نرى له ما نرى للشيخ عبد الله، نطيعه ونتطاوع معه، نمشي خلفه كظله، لا نحيد أبدًا، ما دام قلبنا ينبض، وعروقنا يمشي فيها الدم. مات الشيخ الهرري إلا أن عزيمتنا زادت، وهمتنا ارتفعت لنكمل الدرب على سنة وهدى. مات الشيخ الهرري إلا أن حبه محفور في قلوبنا. أنزل الله عليك يا شيخنا الهرري شآبيب رحمته، وأمطر قبرك بسحائب رضوانه، يا حبيب القلوب وسويداءها، ويا صاحب الفضل علينا في أمور ديننا وءاخرتنا. جزاك الله عنا خير الجزاء، وأجزل لك مثوبات الأجر. رحمك الله ورفع من مقاماتك، وجعل مثواك مع النبيين والصديقين والشهداء. إنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
شوقيْ تزايدَ والحنينْ لإمامِنا القُطْبِ الأمينْ
لمحدِّثٍ مُتفقِّهٍ صدْرِ الرجالِ العاملينْ
ملأ القلوبَ مَهابةً وسَمَا بعَيْنِ النَّاقدينْ
فكلامُهُ حُلْو ٌتكرَّرَ في نفُوسِ السَّامعينْ
وحديثُهُ عَذْبٌ تسلسلَ مِنْ مَعِينِ الصَّالحينْ
الطالبينَ رضى الإلهِ الناصحينَ المشفقينْ
تركَ التنعمَ أُسوةً بالأولياءِ العارفينْ
عرَفَ الحقيقةَ بالشريعةِ إنَّ هذا العلمَ دينْ
يا أيُّها الشيخُ الدليلُ إلى صراطٍ مُستبينْ
يا مقصدَ المسترشدينَ وقُدوةَ المتتبعينْ
أقسمتُ أنكَ جِهْبِذٌ وحبيبُ ربِّ العالمينْ
لله قمتَ معلّمًا زَمَنَ الكُسَالى القاعدينْ
خلَّفتَ دنيا حالُها غدَّارةٌ عبرَ السنينْ
قوَّمتَنا بعقيدةٍ علَّمتَنا النهجَ الثمينْ
خالفتَ نفْسَكَ فاستقامت للشريعةِ تستكينْ
أمضيتَ همَّتَك التي عند المصائبِ لا تلينْ
لتُزيلَ كلَّ ضلالةٍ بالحزمِ والعزمِ المتينْ
حسدُوك إذ وجدُوا الألوفَ على طريقِكَ مقتفينْ
نشرُوا الأكاذيبَ الُمشينةَ عن جنابِك مُفترينْ
لكنهُمْ عادُوا بخُسرانٍ وذُلٍّ خاسئينْ
فنقاءُ ثوبِك ظاهرٌ يزهُو بعينِ الناظرينْ
واللهُ أيَّدَ عبدَهُ رَغمًا لأنفِ الحاسدينْ
يا شيخَنا سلطانَنا تبقى دليلَ الحائرينْ
وحسامُ أنت إمامُنا ولِمَحْضِ أمرِك طائعينْ
وعلى الطريقةِ خلفَكُمْ نمشي معًا متطاوعينْ
فسفينةُ التقوى جرت يا ذُلَّ من ترك السفينْ
فسفينةُ التقوى جرت يا ذُلَّ مَنْ ترَكَ السَّفِينْ
تاريخ الإضافة : | 19/11/2010 |
الزيارات : | 5713 |
رابط ذو صله : | http://www.sunnaonline.org |
الكاتب : | SunnaOnline | سنة اون لاين |
القسم : | مقالات في فضائل الهرري |
التعليقات على الماده