www.sunnaonline.org

رحل الغالي وبقي النهج والمؤسسات

الحمد لله الذي سخّر ما شاء من عباده لمن شاء، ويفعل في ملكه ما يشاء، والصلاه والسلام على سيدنا محمد أبي الزهراء وعلى ءاله وأصحابه البررة النجباء، وبعد.

 

إن من النعم التي سخّرها الله لوطننا الغالي لبنان زهاء أكثر من نصف قرن نزيل بيروت العالم العلامة والحبر الفهامة، محدث الدنيا والزمان، حافظ السنة وقامع البدعة، صاحب منهج الاعتدال في لبنان الشيخ عبد الله بن محمد الهرري المعروف بالحبشي رضي الله تعالى عنه وأرضاه الذي حلّ قريب سنة 1950 م الموافقة لسنة 1370 هـ على بيروت وأهلها ومشايخها وعلمائها وأشرافها وأعيانها ووجهائها، فاستقبلوه بالحفاوة والترحاب، وقدّروه وعظّموا شأنه، وقدموه في مجالس العلم والمحاضرات في المساجد والقاعات والبيوتات. وأحبّه أهل بيروت، ونشأت بينه وبين أسر بيروت علاقات مودة حتى عهدت إليه بعض هذه الأسر بتربية أولادها وإرشادهم، فكانت هذه الأمانةُ البذرةَ التي بدأ من خلالها هذا المربي الفاضل غرسَ نواة مجتمع قوامه العلم والأخلاق وحب الوطن.

 

تعلق هذا الضيف الجليل ببيروت وتعلقت به، وحمل همّها وأدرك بفكره الثاقب وعقله الرشيد دور هذه المدينة على صعيد الوطن، ودورها على صعيد العرب والشرق فشمّر ساعد الجدّ وبذل جهوده وأوقاته لنشر العلم، وسهر في الاعتناء بطلاب العلم من أهل بيروت وغيرهم من أبناء الوطن. ومع هذا الضيف المخلص الغالي أصبح الصغار كبارًا يلتفون حوله يؤازرونه ويعاونونه ويتأسّون به، وقد نهلوا منه، فضلا عن العلم الشرعي، كيف يحبون بلدهم ويعملون من أجل خدمته وتحقيق مصالحه.

 

لقد أنبت هذا المربّي الفاضل للبنان نباتًا حسنًا سقاه بعلم صاف، ونهج راق عنوانه الوسطية والاعتدال، فكان صمام أمان في حقبة من حقبات لبنان العصيبة التي شهدت حربا ضروسا قاسية استمرت من عام 1975 حتى عام 1989. ورغم المصاعب والمشاق بقي الشيخ الهرري رحمه الله جبلا راسخًا يدعو الى الله بكل حكمة وعزم ويقين، يؤلف القلوب، ويشحذ الهمم، ويجمع الصف، الى أن أينعت جهوده عام 1983 فبزغ فجر جمعية نموذجية سطع اسمها نورًا يمحق الظلمات، إنها جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية التي تأسست عام 1930. فقد تولى رئاسة هذه الجمعية، التي كانت شهدت فترة طويلة من الركود، صاحب الهمة العالية والصدق والإخلاص، التلميذ النجيب للشيخ الهرري، الشيخ نزار حلبي رحمه الله الذي انطلق بهذه الجمعية وحوله كبكبة من الرجال والشباب الأفذاذ الذين شمروا عن السواعد وبنوا مؤسسات الجمعية حجرا حجرا بصدق وإخلاص. والتف حول هذه الجمعية عموم طلاب ومريدي الشيخ عبد الله الهرري من شيوخ ورجال ونساء وشبان وشابات وبنين وبنات.

 

وهكذا انطلق وتوسع العمل المؤسساتي وتوالت الإنجازات انجازا تلو انجاز، وارتفع بنيان هذه الجمعية فقامت المؤسسات من مدارس وجامعة ومراكز متعددة ومستوصفات، إضافة إلى بناء وترميم عشرات المساجد والمصليات في بيروت والشمال والبقاع والجنوب وجبل لبنان. وهي مؤسسات تربي على التعاليم السامية والمفاهيم الراقية التي فيها صلاح الإنسان وبناء الأوطان. وهكذا سارت جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية سفينة نجاة في بحر هائج تعترضها الكثير من الأمواج العاتية، ومرشدها الروحي سلطان العلماء الشيخ الهرري يقودها بتوجيهاته بكل ثقة وثبات وأناة، وبحنكة فريدة وصبر شديد، وقد قال رحمه الله : " إرشادات الجمعية إرشاداتي".

 

هذا ما فعله هذا المرشد المربي والولي الصالح لمدينة بيروت وللوطن لبنان، وهو القادم وحيدا من بلاد بعيدة، من مدينة "هرر" في أثيوبيا. وعلى هذا رحل هذا الذي الرجل الكبير حين وافته المنية في بيروت في الثاني من شهر رمضان المبارك سنة 1429 هـ الموافق للثاني من أيلول سنة 2008 م. نعم رحل بعد أن أرسى دعائم جمعية عظيمة، وأرسى دعائم منهج قويم. بكته بيروت كما أعطاها علما وخيرا، واحتضنه ترابها في محلة برج أبي حيدر على مقربة من المسجد الذي كان يتحلق فيه الصغار والنشء والرجال حول هذا السلطان، سلطان العلماء والأولياء، يتلقون منه العلوم والمعارف.

 

رحمك الله يا أيها الشيخ الطاهر، رحمك الله أيها المربي الفاضل والمرشد الكامل، لقد كنت أهلاً للأمانة وقمت بالمهمة خير قيام، وكنت جبلاً تتكسر تحته الصعاب والافتراءات وحملات المتطرفين. اهنأ في قبرك يا معلم التوحيد فنهجك باقٍ مستمر، وصرحك ثابت شامخ، وسيبقى علمك فينا يا سيدي وكذا نصائحك وإرشاداتك، ونحن تحت راية "المشاريع" التي بنيتها لنا وللبنان حصنًا حصينًا يلتجئ إليه الناس برئاسة من ارتضيته قائدًا لنا في حياتك سماحة الشيخ حسام الدين قراقيرة حفظه الله ورعاه.

 

سنفتقدك يا قمر الزمان ويا كوكب العرفان، سنفتقد طلعتك البهية ونظراتك الدافئة التي لطالما غمرتنا بها حبا وعطفا وحنانا، سنفتقدك مربيًا فاضلاً وعالمًا جليلاً وأبًا حنونًا، سيفتقدك لبنان الذي أرسيت فيه دعائم الخير وصروح المعرفة. ومع هذا الفقد نحن صابرون فالموت حق، ونرجو الله عزّ وجلّ أن يتغمدك بعميم رحمته، وينعم عليك جزيل عطائه وكرمه، وأن يرفع من مراتبك ومقاماتك في أعلى عليين، وأن يدخلك الجنة من باب الريان مع الصائمين، وأن يسكنك الفردوس الأعلى مع النبيين والصدقين والشهداء وحسن أولـٰئك رفيقًا. ولسان الحال يقول:

 

نادى المنادي بصوت هزّه الألمُ غاب الإمامُ الذي ضاءتْ به الأممُ

فاغرورقت أعينُ العشاق واشتعلتْ أكبادُهم في الحشا والدمعُ منسجمُ

نبكيك يا شيخَنا السلطانُ ما طلعتْ شمسٌ نهارًا ونارُ القلب تحتدمُ

هذا الذي هابت الأعداءُ وطأتَهُ في قوله الحقُّ بالبرهان يلتزمُ

شيخُ المشايخ بحرُ العلم من هرر طلْقُ المحيَّا معَ الأعباء مبتسمُ

يا حبذا قبلةً في جبهة ويدِ من قَبْلِ لحدٍ بتُرْبٍ فوقُ يرتدمُ

 

والحمد لله ربّ العالمين على نعمائه حَمْدَ مَنْ بالدّينِ يعْتصم


تاريخ الإضافة : 19/11/2010
الزيارات : 4868
رابط ذو صله : http://www.sunnaonline.org
الكاتب : SunnaOnline | سنة اون لاين
القسم : مقالات في فضائل الهرري

التعليقات على الماده