هرر (حزيران 1997): منذ قريب النصف قرن من الزمن، خرج المحدث العلامة الشيخ عبد الله الهرري من بلاده هرر مفارقًا أهله ومحبيه الذين كابدوا الليالي والأيام، وتحلوا بالأمل والصبر رغم مرور الأشهر والأعوام، منتظرين عودته والاستنارة من بحور علومه المتنوعةالصافية، والاسترشاد بنصائحه ومواعظه وحكمه، في الوقت الذي كان فيه الشيخ الهرري يجوب البلدان والنواحي حاملًا في صدره العقيدة الحقة والعلم الصافي ينشره بين الناس ويدافع به عن حمى الدين، محذرًا من الضلال وأهله بالأدلة والبراهين الساطعة. شهد مطار العاصمة الأثيوبية هبوط طائرة تحمل معها بشرى سارة لأهل هرر، ليست كغيرها من البشائر، وتحمل رجلًا يكاد لا يكون في زماننا هذا مثيل له، وهو المحدث العلامة الشيخ عبد الله الهرري، عائدًا إلى بلده ومسقط رأسه بعد ما يقارب الخمسين سنة على رحيله عنها، محققًا بذلك أماني المسلمين في تلك البلاد الذين بقوا سنين ينتظرون هذا الحدث التاريخي المرتقب.
أديس أبابا: وهي أول محطة نزل بها العلامة الهرري بعد أن استقبله أقرباؤه وبعض من معارفه في مطارها. ولبث في العاصمة أيامًا أمضاها في التدريس وعقد مجالس العلم والتحذير من الضلال وأهله. وقد زاره خلال هذه الفترة مشايخ البلد وأعيانها للترحاب به والاستفادة من علومه. وكان من أبرز وأهم زواره رئيس الإدارة الدينية في هرر الشيخ عبد الرحمن الذي كان في زيارة للعاصمة، وزاره أيضًا ابن الإمام الشيخ محمد عبد السلام الذي كان أحد مشايخ ومربّي المحدث الهرري، والذي كان من أجلّ مشايخه وأكابر العلماء والأولياء.
ديردوى: وينتقل المحدث الهرري إلى مدينة ديردوى التي تبعد 650 كلم عن العاصمة ويقضي فيها أيامًا في التدريس والتعليم والتحذير من أهل البدع كشأنه دائمًا، ويزوره خلال هذه الأيام أعيان المدينة ومشايخها الذين توافدوا إليه مع تلامذتهم يتبركون به ويستمعون إلى دروسه، ويظهرون له الكثير من الاحترام والتقدير حيث كانوا يقبلون يده وركبته كعادتهم دائمًا في معاملتهم العلماء الكبار. ومن الأعيان الذين زاروا المحدث الهرري أحد مريدي الشيخ محمد سراج الجبرتي القاضي تاج الدين الذي أراد لقاء الشيخ لكثرة ما سمعه من شيخه من مدح وثناء على العلامة الهرري، كما زار المحدث الهرري قبر شيخه ومربيه الشيخ محمد عبد السلام الذي دفن في هذه المدينة.
الوصول إلى هرر: كان وصوله رحمه الله إلى هرر يوم الجمعة، فزار قبر والديه وأخيه رحمهم الله قبل الصلاة، ثم توجه إلى مسجد الجامع الكبير حيث صلى الجمعة وبقي في المسجد بعد الصلاة يستقبل الوفود التي جاءت لترحب وتتعرف إليه عن كثب. بعد ذلك انتقل المحدث الهرري إلى منزل أخيه الحاج علي حيث أقام دروسًا واستقبل مشايخ هرر والنواحي والقرى المجاورة الذين قدموا للقائه، بالإضافة إلى جميع أعضاء الإدارة المحلية في هرر من رجال ونساء أتوا للترحاب به والاستماع إلى دروسه التي كانت بثلاث لغات هي: العربية والهررية ولغة «الأورومو».
المحدث الهرري في عيون أهله: أهل هرر من حيث العقيدة على أصول الإمام أبي الحسن الأشعري، وهم في الفروع يغلب عليهم مذهب الإمام محمد بن إدريس الشافعي، ومن حيث الطريقة فإنهم إما قادرية - وهم الأغلب - وإما رفاعية. ومما يظهر مكانة وقدر المحدث الهرري عند أهل هرر كونهم جميعًا يقبّلون يده وركبته عند لقائه، وإذا سأله شخص مسألة اكتفى بإجابة الشيخ، قائلًا له بأدب راقٍ: «رضي الله عنكم». وجميع مؤلفات المحدث الهرري هي جوهرة ثمينة وكنز نفيس عند من يملكها، وهي مستعانهم القوي في إخراج الأدلة والبراهين الدامغة لمحاربة أهل البدع والضلال من مُشبهة وغيرهم. علمًا أن من عادة الهرريين في بيوتهم وجود مصحف مخطوط باليد يوضع في مكتبة البيت فوق الكتب الشرعية. وأما أقوالهم التي أظهرت محبتهم للمحدث الهرري فقد كثرت على أفواههم، فقد قال بعضهم: «الشيخ أمانتنا التي فقدناها منذ خمسين سنة، وها هي قد عادت إلينا فلن نستغني عنها، ولو اضطرنا الأمر إلى أن نفترش الأرض أمام سيارته حتى يبقى معنا ولا يغادرنا فسوف نفعل ذلك». أما أخوه الشيخ علي فقد قال: «ما رأيته في حياتي يلعب معنا كما يلعب غيره من الأطفال، وكان يغيب إلى المشايخ والعلماء فلا يرجع إلى البيت إلا قبيل الفجر وهو دون العاشرة بينما الرجال الأشداء في البلد كانوا لا يتجرأون على أن يخرجوا بعد العشاء لكثرة الضباع التي كانت تتجول بين البيوت. ولما بلغ الخامسة عشرة كان يخرج إلى خارج مدينة هرر وينتقل بين المشايخ والنواحي ويغيب الأيام والأسابيع والشهور في طلب العلم». وأما الشيخ محمد إدريس الذي كان أحد معارفه القدامى فقال مادحًا إياه: «كان الشيخ وما زال من أهل الزهد والتصوف، وكنت أعمل جزارًا وأدعوه إلى أن يأكل اللحم فلا يرضى، بل يكتفي بالشاي والخبز واللبن الذي كان طعامه في كل الأوقات». وقال أحد زواره من أعيان البلد: «كان الشيخ إذا دخل بلدًا يتعلق به أهلها ويبنون له مسجدًا ويهيئون له بيتًا ليزوجوه إحدى بناتهم ويسكن عندهم، ولكنه كان يضع أحد تلاميذه في المسجد ويرحل إلى بلد ءاخر لينشر الدين ويعلم الناس». وقال أحدهم: «كان مشهورًا عن المحدث الهرري محاربته للضلال والبدع أنَّى وُجدت، فكان إذا سمع بالبدعة يمشي إليها حالا ولا يكترث للمسافات الطويلة التي قد تصل إلى مئات الكيلومترات والتي قد يقطعها مشيًا على الأقدام، ولا بالوقت الذي قد يستغرق أيامًا». إن تمسك أهل هرر بعالمهم ومفتي بلادهم الذي نشأ بينهم وتعظيمهم واحترامهم له، لم يكن أوهامًا أو سرابًا، فقد نشأ ذلك من توقد ذكائه وسعة حفظه وحبه لطلب العلم من أهل العلم الكبار، ووقوفه عند حدود الشريعة منذ نعومة أظفاره، إلا أن الشيخ عبد الله الهرري اختار أن يكون معلمًا للخير في أقطار الدنيا، فينتفع به المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها. وكأني بالشاعر قد عناه بقوله:
لله قوم إذا حلّوا بمنزلة
حل السرور وسار الجود
إن ساروا تحيا بهم كل أرض ينزلون بها
كأنهم لبقاع الأرض أمطار
تاريخ الإضافة : | 19/11/2010 |
الزيارات : | 5259 |
رابط ذو صله : | http://www.sunnaonline.org |
الكاتب : | SunnaOnline | سنة اون لاين |
القسم : | مقالات في فضائل الهرري |
التعليقات على الماده