أَمَّا بعدُ فقَد جاءَ في الحديثِ أَنَّ رَجلاً أَتى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ إني كنت أفعل كذا وكذا قبل أن أسلم، فقال لَهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ "أسلَمتَ على ما أسلَفتَ" رواهُ مُسلِمٌ، فهذا قال بعضهم للكافر الأصلي إذا أسلم يثابُ على ما كان فعله قبل إسلامه من نحو صلة الرحم وإغاثة الملهوف والصدقه لكن الاحتياط أن لا يعتقد هذا لأنه يخالف الحديث الآخر الصحيح "وأما الكافر فيطعم بحسناته فى الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له منها نصيب". ويفسر حديث "أسلَمتَ على ما أسلَفتَ" أنك بعد إسلامك ما تعمله بنية صحيحة بعد إسلامك مما كنت تعودت عمله من الخير كصلة الرحم وإغاثة الملهوف والصدقة الآن بعد إسلامك تثاب عليه.
بَعضُ النَّاسِ وهُم كُفَّارٌ يُكرِمونَ الضَّيفَ ويُغيثونَ الملهوفينَ، هَؤلاءِ إن أَسلَموا يُكتَبُ لهم حسناتُهُم التي يَعملونها بعدَ إِسلامِهِم وأَعمالُ الخيرِ التي كانوا يَعملونها وهُم على الكُفرِ كالصَّدَقة وقِرى الضَّيفِ وإِغاثَةِ الملهوفِ والإِحسانِ إلى الأرامِلِ، أَمّا إِن لم يُسلِم فَمَهما كانَ يَرحَمُ المساكينَ ويُغيثُ الملهوفينَ ويَعطِفُ على الأَيتامِ فَلَيسَ لَهُ شىءٌ، فَمَن قالَ إِنَّ لَهُ ثوابًا يَكفُرُ لأَنَّهُ كَذَّبَ القُرءانَ.
عَرَبُ الجاهِلِيَّةِ كانوا يَقولونَ: الإنسانُ مَتى ما ماتَ وصارَ تُرابًا لا عَودَةَ لَهُ، يُنكِرونَ البَعثَ. الرَّسولُ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: إِنَّهُ لم يَقُل يَومًا: رَبِّ اغفِر لي خَطيئَتي يومَ الدِّينِ، مَعناهُ ما كانَ يُؤمِنُ بِالآخِرَةِ.
هُوَ هَذا عَبدُ اللهِ بنُ جُدعانَ في أوَّلِ أَمرِهِ كانَ فاتِكًا شِرّيرًا، أَبوهُ تَبرّأَ مِنهُ، قالَ لَه أمامَ العَشيرَةِ: أَنتَ لَست ابني، نَفاهُ فَكَرِهَ الحياةَ، قالَ: بَعدَ أَن تَبرّأَ مِنّي أَبي وعَرَفَ قومي ذلِكَ، الحياةُ لا تَطيبُ لي، فَذَهَبَ إلى بعضِ جِبالِ مَكَّةَ يَطلُبُ الموتَ لِتلسَعَهُ حيَّةٌ مَثَلاً في بَعضِ الجِبالِ فَيموتَ، فَوَجَدَ شقًا في جبل فدخله على ظن أنه قد تلسعه حية فيموتُ فوجد ثعُبانًا كَبيرًا ظَنَّهُ ثُعبانًا حَقيقيًّا وهُو في الحقيقةِ لَيسَ كَذلِكَ، هُوَ صورَةُ ثُعبانٍ كَبيرٍ كُلُّهُ ذَهَبٌ وعَيناهُ جَوهَرَتانِ، ورأى كَومَ ذَهَبٍ وكَومَ فِضَّةٍ ورأى رِجالاً طِوالاً على سُرُرٍ وَهُم مِنَ العَرَبِ القُدَماءِ، فَوَجَدَ عِندَ رؤوسِهِم لَوحًا مِن فِضَّةٍ مَكتوبًا فيهِ تاريخُهُم، ومِن جُملَةِ ما فيهِ أَبياتُ شِعرٍ مِنها هذا البيتُ:
صَاحٍ هل رَيتَ أو سَمِعتَ بِراعٍ ردَّ في الضَّرعِ ما جَرى في الحِلابِ
هؤلاءِ كأَنَّهُم كانوا هارِبينَ مِن مَلِكٍ قَصَدَ بِلادَهُم، وكانوا لا يَستطيعونَ دَفعَهُ فأَخَذوا ما أخَذوا مِنَ المالِ والذَّهَبِ، ودَخَلوا هذا الشَقَّ لِيَعيشوا فيهِ إلى أَن يموتوا أو يأتيَ الفَرَجُ، يُشبِهونَ أَهلَ الكَهفِ في بعضِ الصِّفاتِ، أَجسادُهُم كانَت مِن حيثُ الظاهِرِ كما هي، لَكِن لو جَسَّها شَخصٌ لَصارَت كالرَّمادِ، ويمكِن هُم دَهَنوا أَجسادَهُم بالحَنوطِ قبلَ أَن يموتوا، الحَنوطُ شَىءٌ يُرَكَّبُ، أَملاحُ الحَنوطِ نوعانِ: نَوعٌ لِتطييبِ الرّائحةِ فَقط وهَذا يُسَنُّ أَن يوضَعَ لِلمَيِّتِ المسلِمِ، لأَنَّ بعضَ الموتى تَكونُ فيهِم رائِحةٌ كَريهَةٌ، إمّا مَن جُرِحَ في جِسمِهِ كالذي أَصابَتْهُ الآكِلةُ، لأَنَّ الآكِلَةَ مَن أُصيبَ بها تَصيرُ رائِحَتُهُ كَريهَةً، والنَّوعُ الآخِرُ مِنَ الحَنوطِ لِدَفعِ سُرعَةِ بِلى الجِسمِ.
الشَقُّ غارٌ صغيرٌ لا يُنتَبَهُ إِليهِ إلا بِالتَّأمُلِ، ولا يُقصَدُ لِدُخولِهِ عادةً، النّاسُ إِن نَظَروا إِليهِ يَقولونَ هذا مأوى بَعضِ الوُحوشِ والحيّاتِ، ثمَّ هؤلاءِ الذينَ وُجِدوا في هذا الكَهفِ يُحتَمَلُ أَن يَكونوا مِنَ المسلمينَ، ومعنى كلامِهِم الذي وُجِدَ مَكتوبًا على اللّوحِ، أَنّنا لا نَعودُ إلى الحالةِ التي كُنّا فيها كَما أَنَّ الحليبَ لا يَعودُ إلى الضَّرعِ بَعدَما خَرَجَ مِنهُ، أَصابَهُم اليأسُ مِن شِدَّةِ ما حَصَلَ لهم مِنَ الاضطرابِ. وقَد قالَ أَحَدُهُم:
التعليقات على الماده