بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله. وعلى آله وصحبه ومَن والاه. نسأل اللهَ أنْ يرزقنا حُسن النَّوايا.
مُقدِّمة في تعريف المُماكسة وبيان مندوبيَّة تركها
وبعدُ فالمُماكسة هي المُجادلة عند الشِّراء بين المُتبايعَين لغرض الحَطِّ مِن السِّعر؛ جاء في [لسان العرب]: <الْمُمَاكَسَةُ فِي الْبَيْعِ: انْتِقَاصُ الثَّمَنِ وَاسْتِحْطَاطُهُ وَالْمُنَابَذَةُ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ> انتهى.
وفي [القاموس المحيط]: <وَتَمَاكَسَا فِي الْبَيْعِ: تَشَاحَّا. وَمَاكَسَهُ: شَاحَّهُ> انتهى وفي [لسان العرب] كذلك: <وَيُقَالُ: هُمَا يَتَشَاحَّانِ عَلَى أَمْرٍ إِذَا تَنَازَعَاهُ، لَا يُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفُوتَهُ> انتهى.
والمُماكسة فيها هوى نفس، ولذلك فإنَّ تركها أفضل لمَن لا يضرُّه تركها فلا يُعطي نفسه هواها؛ فلو طلب البائع مبلغًا وكان المُشتري لو ماكسه لاشتراه بأقلَّ مِن ذلك بكثير فالأحسن له أنْ لا يُماكسه.
هذا هو الحال الرَّفيع لمَن كان يشتري لنفسه ولا يحتاج للمُماكسة؛ بخلاف ما لو كان مُحتاجًا ليس معه ما يقوم بحاجاته الأصليَّة أو كان يشتري مِن مال مصالح المُسلمين أو كان مُوكلًا بالشِّراء لغيره.
كلام الهَيتميِّ في بيان مندوبيَّة ترك المُماكسة
قال الهَيتميُّ في [تُحفة المُحتاج شرح المنهاج]: <وَقَدْ يُنْدَبُ كَالْبَيْعِ بِمُحَابَاةٍ أَيْ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا فِيمَا يَظْهَرُ وَإِلَّا لَمْ يُثَب وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ خَبَرُ الْمَغْبُونِ "لَا مَأْجُورٌ وَلَا مَحْمُودٌ" وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَإِنْ قُلْت يُمْكِنُ حَمْلُ نَدْبِ الْمُحَابَاةِ هُنَا عَلَى قَوْلِهِمْ يُسَنُّ لِمُشْتَرِي مَا يَتَعَلَّقُ بِعِبَادَةٍ أَنْ لَا يُمَاكِسَ فِي ثَمَنِهِ قُلْت لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا هُنَا فِي مُحَابَاةِ الْبَائِعِ وَذَاكَ فِي مُحَابَاةِ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنَّ الَّذِي يُتَّجَهُ نَدْبُ الْمُحَابَاةِ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا مُطْلَقًا وَذِكْرُهُمْ ذَاكَ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْآكَدِيَّةِ لَا لِعَدَمِ النَّدْبِ فِي شِرَاءِ مَا لِغَيْرِ عِبَادَةٍ بِمُحَابَاةٍ لِأَنَّ قِيَاسَ ذِكْرِهِمْ نَدْبَهَا لِلْبَائِعِ مُطْلَقًا نَدْبُهَا لِلْمُشْتَرِي كَذَلِكَ. فَإِنْ قُلْت يَصْدُقُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَنَّهُ مَغْبُونٌ قُلْت مَمْنُوعٌ إنَّمَا الْمَغْبُونُ مَنْ أُخِذَ مَالُهُ لِنَحْوِ تَغَفُّلِهِ أَوْ عَدَمِ قَصْدٍ مَحْمُودٍ مِنْهُ فِي الْمُسَامَحَةِ بِدُونِ ثَمَنِ مِثْلِهِ فَإِنْ قُلْت يُنَافِي ذَلِكَ كُلَّهُ حَدِيثُ <مَاكِسُو الْبَاعَةَ فَإِنَّهُ لَا خَلَاقَ لَهُمْ> قُلْتُ هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَبِفَرْضِ حُسْنِهِ لِوُرُودِ طُرُقٍ لَهُ مِنْهَا <أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ مَاكِسْ عَنْ دِرْهَمِك فَإِنَّ الْمَغْبُونَ لَا مَأْجُورٌ وَلَا مَحْمُودٌ> هُوَ لَا يُنَافِيهِ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى مَنْ لَمْ يَقْصِدْ مُحَابَاةً لِلَّهِ فَهَذَا يَنْبَغِي لَهُ مُمَاكَسَتُهُمْ دُونَ مَنْ يَقْصِدُ ذَلِكَ لَكِنْ الْأَوْجَهُ أَنَّ قَصْدَ الْمُحَابَاةِ سُنَّةٌ مُطْلَقًا لَكِنْ كَوْنُهَا فِيمَا يُشْتَرَى لِلْعِبَادَةِ آكَدُ وَفِي زَمَنِ نَحْوِ غَلَاءٍ> انتهى.
فيُستخلص مِن كلام الهيتميِّ ما يلي:
1. مندوبيَّة البَيع بالمُحاباة. وشَرَحَ الهيتميُّ ذلك فقال: <أي مع العِلم بها> أي بالمُحاباة؛ لأنَّه بذلك يكون صاحب قصد محمود شرعًا بما دفعه في الثَّمن تاركًا للمُماكسة فيه؛ فيكون فعله مُستحبًّا؛ ويكون مأجورًا.
2. ضعف حديثَي: <المغبون لا مأجور ولا محمود> و<ماكسوا الباعة فإنَّه لا خَلاق لهم>، وبتقدير صحَّتهما يُحمَلان في المغبون لأنَّه ترك المُماكسة جهلًا بالقيمة لا بقصدٍ محمودٍ شرعًا؛ فلا يكون مأجورًا.
3. مندوبيَّة ترك المُماكسة لمُشتري ما كان يتعلَّق بعبادة؛ ولغيره، لكنَّها في حقِّ الأوَّل أكثر تأكيدًا، وكلام الهيتميِّ صريح في الدِّلالة على أنَّ الثَّواب في -الحالتَين- مُعلَّق بالمُحاباة لِمَا فيها مِن قصد محمود.
فائدة مِن حاشية قليوبي على [المِنهاج وشرحه للجلال المحلي] في بيان مندوبيَّة ترك المُماكسة
وفي حاشية قليوبي على [المِنهاج وشرحه للجلال المحلي]: <تنبيه: اِعلم أنَّ البَيع تعتريه الأحكام الخمسة فيجب في نحو اضطراد ومال مُفلس ومحجور عليه، ويُندب في نحو زمن الغلاء وفي المُحاباة للعالِم بها وإلَّا لم يُثَب> انتهى ومعنى قوله <ويُندب في نحو زمن الغلاء وفي المُحاباة للعالِم بها> أي يُستحبُّ ترك المُماكسة لغَير المغبون؛ لأنَّ المغبون لمَّا جهل القيمة ولم يعرف سعر المِثل لم يُعامله مُحاباةً.
ومثل هذا الكلام تجده في [حاشية البُجيرميِّ على فتح الوهَّاب شرح منهج الطُلَّاب]؛ وكذا الدِّمياطي في [إعانة الطَّالِبين على حلِّ ألفاظ فتح المُعِين].
فائدة في بيان معنى المُحاباة في البَيع
ففي [لسان العرب]: <وَحَابَيْتُهُ فِي الْبَيْعِ مُحَابَاةً، وَالْحِبَاءُ: الْعَطَاءُ> انتهى؛ وفي [طَلَبَة الطَّلبة]: <المُحاباة في البَيع حطُّ بعض الثَّمن> انتهى؛ وفي [المِصباح المنير]: <وَحَابَاهُ مُحَابَاةً سَامَحَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ حَبَوْتُهُ إذَا أَعْطَيْتَهُ> انتهى؛ وفي [مقاييس اللُّغة لابن فارس]: <وَأَرْفَأْتُ فُلَانًا فِي الْبَيْعِ، إِذَا زِدْتَهُ مُحَابَاةً> انتهى؛ وفي [المُغْرب في ترتيب المُعْرِب]: <والمُحاباةُ في البَيعِ معروفةٌ وهيَ مِن الحِباءِ العطاءُ> انتهى؛ وفي [تحرير ألفاظ التَّنبيه] للنَّوويِّ: <المُحاباةُ في البَيعِ -بغيرِ هَمزٍ- وهي البَيعُ بدُونِ ثَمَنِ المِثْلِ وحابَيتُهُ مُحاباةً> انتهى.
ترك المُماكسة عند العرب مُروءة وكرم
وترك المُماكسة عند العرب مُروءة وكرم؛ حكى الرَّاغب الأصفهانيُّ في [مُحاضرات الأُدباء] وغيره قال: <المُنذر الغسَّانيُّ> -الغساسنة مُلوك العَرَب في الشَّام قبل البعثة المُحمديَّة- <يُوصي ابنه: آمرُك بالذُّلِّ في نفسك والانخداع في مالك> انتهى والانخداع في المال هُنا معناه تركُ الطَّمعِ والمُسامحةُ في أبواب إنفاقه وتركُ الشُّحِّ بما لا يضرُّ الاستغناء عنه. وفي لسان العرب: <وَيُقَالُ: هُوَ يَتَخَادَعُ أَيْ يُرِي ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ> وفيه: <وَتَخَادَعَ وَانْخَدَعَ: أَرَى أَنَّهُ قَدْ خُدِعَ> انتهى.
ولو أردنا الاستقصاء لضاق المقام؛ لكن يحضرني ما نقله أهل الأدب عن البُحتُريِّ مِن قوله: (وإذَا خادعتُهُ عن مالِهِ ~ عَرَفَ المسلَكَ فيه فَانْخَدَعْ) وقوله: (وقد يَتغابى المرءُ في عظْم مالِهِ ~ ومِن تحتِ بُرْدَيْهِ المُغِيرةُ أو عَمْرُوْ) أي المُغيرة بن شُعبة وعمرو بن العاص لأنَّهما يُضرب بهما المَثَلُ في الفطنة والدَّهاء؛ والشَّاعر إنَّما يُشير لفضيلة التَّغابُن في أمر المال مع الضَّعيف الحال فيُعامله بالمُسامحة في وُجوه إنفاق المال مِن نحو البَيع والشِّراء وغيره؛ دون أنْ يكون غبيًّا في الحقيقة.
الصَّحابة والتَّابعون ما كانوا يُماكسون فيما يشترون 1
وقال الرَّازيُّ عند تفسير {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}: <وَكَانَ الْمُشْتَرِي إِذَا تَرَكَ الْمُمَاكَسَةَ فِي الثَّمَنِ كَانُوا يَعُدُّونَ ذَلِكَ فَضِيلَةً وَمَكْرُمَةً، فَكَانَ تَكْثُرُ أَرْبَاحُهُمْ بِذَلِكَ السَّبَبِ> انتهى. فالصَّحابة لم يمتنعوا عن الخمر قبل نزول تحريمها؛ أمَّا امتناعهم عن المُماكسة فمُتَّصِل ممَّا قبل البعثة -جريًا على عادة العرب في أنَّ المُروءة تقضي بتركها- وبعد البعثة امتثالًا لِمَا دلَّهم عليه رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام من السَّماحة والسُّهولة في البَيع والشِّراء.
الصَّحابة والتَّابعون ما كانوا يُماكسون فيما يشترون 2
وأخطأ مَن توهَّم أنَّ كلام الرَّازيِّ في المُشركين دون الصَّحابة أو أنَّه في الخمر دون غيرها؛ فقد قال الحافظ الثِّقة بقيَّة بن الوليد: <أَعْطَانِي مُحمَّد بن زياد دِينَارًا فَقَالَ: اشْتَرِ بِهِ زَيْتًا وَلَا تُمَاكِسْ، فَإِنِّي أَدْرَكْتُ الْقَوْمَ فَإِذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمُ الْبِضَاعَةَ لَمْ يُمَاكِسْ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَشْتَرِيهِ> انتهى من [حِلية الأولياء] وغيره، ومُحمَّد بن زياد مِن الطَّبقة الأُوْلى في التَّابعين روى عن أبي أُمامة الباهليِّ وغيره مِن أصحاب رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام.
الصَّحابة والتَّابعون ما كانوا يُماكسون فيما يشترون 3
قال النَّوويُّ في [تهذيب الأسماء واللُّغات] في ترجمة الصَّحابيِّ جرير بن عبدالله رضي الله عنه: <ومناقبه كثيرة ومِن مستطرفاتها أنَّه اشترى له وكيله فرسًا بثلاثمائة درهم فرآها جرير فتخيَّل أنَّها تُساوي أربعمائة فقال لصاحبها أتبيعها بأربعمائة؟ قال نعم. ثُمَّ تخيَّل أنَّها تُساوي خمسمائة فقال أتبيعها بخمسمائة؟ قال نعم، ثُمَّ تخيَّل أنَّها تُساوي ستمائة ثُمَّ سبعمائة ثُمَّ ثمانمائة فاشتراها بثمانمائة> انتهى فسمَّاها منقبة وهي ضد المثلبة؛ والمثلبة العَيب؛ فتكون المُماكسة لغير ضرورة عنده عيبًا وتركها فضيلة.
مُلاحظة: أشكل على بعض القُرَّاء عبارات لبعض المُصنِّفين في تفضيل المُماكسة على ما مُؤدَّاه وقوع الغُبن على المُشتري؛ فتوهَّموا أنَّ الكلام عامٌّ أو مُطلق، وليس الأمر كذلك؛ بل هو في الحقيقة مُقيَّد فيما لو قابله وقوع الظُّلم على المُشتري؛ فأنزل أولئك بسوء أفهامهم تلك العبارات في غير محلِّها؛ وسوف نُبيِّن كُلَّ ذلك في محلِّه بإذن الله تعالى فتابعوني.
مِن أحوال السَّلف في ترك المُماكسة 1: الحسَن البصريِّ رضي الله عنه
ففي البداية والنَّهاية ما نصُّه: <كان الحَسَن البصريُّ رحمه الله إذَا اشترى السِّلعة بدرهم يَنْقُصُ دانقًا: كمَّله درهمًا، أو بتسعة ونصف: كمَّلها عشرة؛ مُروءةً وكرمًا؛ وقال عبدالأعلى السمسار: قال الحسَن: يا عبد الأعلى أمَا يبيع أحدكم الثَّوب لأخيه فينقُص درهمَين أو ثلاثة؟ قلتُ: لا والله ولا دانَق واحِد. فقال الحسَن: إنْ هذه الأخلاق فمَا بقيَ مِن المُروءة إذن؟ قال: وكان الحسَن يقول: لا دِين إلَّا بمُروءة> انتهى ومعنى قوله <إنْ هذه الأخلاق فمَا بقيَ مِن المُروءة>: أنَّ المُروءة شيء كثير مِن الأخلاق.
مِن أحوال السَّلف في ترك المُماكسة 2: الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه
فانظر أخي كيف بيَّن الحسن البصريُّ رضي الله عنه أنَّ مِن المُروءة المُسامحة وترك المُماكسة في البَيع والشِّراء وأنَّ هذا مِن الدِّين حثُّ عليه الشَّرع؛ وروى الذَّهبيُّ في [مناقب أبي حنيفة وصاحبَيه بتحقيق الكوثريِّ]: <أتت امرأة أبا حنيفة بثوب؛ فقال: بكم هو؟ قالت: بمئة درهم. قال لها: هو خير مِن ذلك. قالت: بمئتين؟ قال: هو خير مِن ذلك. قالت: بثلاث مئة؟ قال: هو خير مِن ذلك. قالت: بأربع مئة؟ فاشتراه بأربع مئة> انتهى الكلام في ذكر أحوال بعض السَّلف في ترك المُماكسة؛ فتأمَّلْ يرحمك الله.
نصُّ الماوردي على أنَّ المُماكسة مِن خوارم المُروءة أ
قال أبو الحَسن الماوردي المولود في 364ه والمُتوفَّى في 450هـ وهو مِن وُجوه الشَّافعيَّة في الفقه والأُصول والتَّفسير والعربيَّة في كتابه [أدب الدُّنيا والدِّين]: <وهذا إنَّما يسوغ مِن أهل المُروءة في دفع ما يُخادعهم به الأدنياء ويُغابنهم به الأشحَّاء؛ وهكذا كانت حال عبدالله بن جعفر؛ فأمَّا مُماكسة الاستنزال والاستسماح؛ فكلَّا؛ لأنَّه مُنافٍ للكرم ومُباين للمُروءة> انتهى.
وكلام الماوردي هذا يحلُّ ما أشكل على البعض -أصلحهم الله- فهمه في مسائل مُتعدِّدة كما سنُبيِّن لك أخي القارئ في النُّقاط التَّالية:
دفع شُبهة 1
فقد ذكر الماوردي مسألة اختبار الصَّبيِّ وَلَدِ التَّاجر في المُماكسة في [الحاوي الكبير] له؛ ومع ذلك لم يستحسن المُماكسة بل اعتبرها مُنافية للكرم مُباينة للمُروءة وهذا يدلُّ أنَّ الكلام في اختبار الصَّبيِّ وَلَد التَّاجر في المُماكسة لا يعني استحسانها أو استحبابها كما فهم البعض أصلحهم الله؛ بل المعنى اختبار قدرته على ما انتهض له أبوه أو وليُّه في هذا العمل وهو تحصيل الرِّبح وسوف نعود إلى بيان الرَّدِّ الكامل في هذه المسألة في مقال لاحق ضمن هذه السِّلسلة المُباركة مِن المقالات بإذن الله.
دفع شُبهة 2
وكذلك ذكر الماوردي أنَّ البيع مبنيٌّ على المُماكسة؛ ومع ذلك لم يستحبَّ المُماكسة بل اعتبرها مُنافية للكرم مُباينة للمُروءة أي أنَّ الخائض فيها لغير حاجة قليل المُروءة وهذا يدلُّ أنَّ قولهم البَيع مبنيٌّ على المُماكسة لا يعني استحبابها كما فهم البعض أصلحهم الله، ولا معناها أنَّ البَيع لا يصحُّ شرعًا إلَّا بالمُماكسة فهذا ظاهر البُطلان؛ بل المعنى أنَّ هذا ما انتهض له عامَّة النَّاس في غالب أحوالهم؛ وسوف نعود إلى بيان الرَّدِّ الكامل في هذه المسألة في مقال لاحق ضمن هذه السِّلسلة المُباركة مِن المقالات بإذن الله.
دفع شُبهة 3
وتكلم الماوردي عن البيوع فذكر بيع المُساومة تدخله المُماكسة وأنَّه بيع جائز باتِّفاق ولم يأتِ على ذكر استحبابه -البتَّة-؛ ونصَّ على جواز بيع المُرابحة وهو نوع يختلف عن المُساومة ونصَّ أنَّه غير مكروه عنده لكنَّه نقل بصيغة <حُكِي> عن ابن عبَّاس وابن عُمر كراهيته؛ والخُلاصة أنَّ كلامه في [الحاوي الكبير] ليس فيه ما يُشير إلى أنَّ المُماكسة مُستحبَّة بل على النقيض مِن ذلك جاء كلامه في [أدب الدُّنيا والدِّين] صريحًا في أنَّ المُماكسة مِن خوارم المُروءة؛ كما قدَّمنا في أوَّل هذا المقال، فتأمَّل.
مُقدِّمة
وكنتُ عزمت على استكمال سرد الفوائد المُتحصِّلة مِن كلام الماوردي لكنَّني أجَّلت ذلك إلى مقال الغد بعد أنْ رأيتُ ما أدلى به البعض -أصلحه الله- ممَّا يُوافقنا به مِن حيث لا يدري ويُؤيِّد قولنا مِن حيث أراد هدمه وهذا شأن مَن ترك ما أخذه عن العارف الثِّقة ورَكَن إلى الخوض فيما لا يرقى إليه عقله ولا فهمه مِن مباحثَ علميَّة وشرعيَّة؛ وليته لم يؤذ نفسه بذلك.
دفع شُبهة التَّدليس
وقد استعجل البعض -أصلحه الله- باتِّهامي بالتَّدليس لأنَّني نقلت مِن كلام الماوردي ما يهدم ما ذهب إليه وهو: <فأمَّا مُماكسة الاستنزال والاستسماح؛ فكلَّا؛ لأنَّه مُنافٍ للكرم ومُباين للمُروءة> انتهى وهو نصٌّ صريح في بيان أنَّ مَن تكلَّم في المسألة على هواه قد خالف الشَّرع بالقول باستحباب المُماكسة -والعياذ بالله- دون أنْ يكون له في ذلك مرجع صالح.
أوَّلًا: في الكلام عن المُسامحة في العقود
ثُمَّ قام بنشر ما لم أنشره مِن كلام الماوردي دون أنْ يكون فيه ما يناقض كلامي بل فيه ما يُؤيِّده، يقول الماوردي: <والمُسامحة نوعان في عُقود وحُقوق. فأمَّا العُقود فهو أنْ يكون فيها سهل المُناجزة، قليل المُحاجزة مأمون الغيبة بعيدًا مِن المكر والخديعة. رُوِيَ عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: "أجملوا في طلب الدُّنيا فإنَّ كُلًّا مُيسَّر لِمَا كُتِب له منها"> انتهى.
فأين التَّدليس في ترك هذا الجُزء مِن الماوردي وليس فيه ما يُعكِّر على ما نسخته مِن كلامه، اَللَّهم؛ إلَّا في وَهْم البعض -أصلحه الله- حيث لم يُسعفه عقله في فَهْم ما قرأ ولعلَّه توهَّم أنَّ سُهولة المُناجزة وقلَّة المُحاجزة وأمان الغيبة هذه الأمور الَّتي حثَّ عليها المُصنِّف هي مِن المُماكسة الَّتي زعم المُخالف استحبابها، فإنْ كان الأمر كذلك: فيا للعجب ويا للفضيحة.
ثانيًا: في الكلام عن "التَّغابُن للضَّعيف"
وتركتُ نقل قول الماوردي: <وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: "ألَا أدلُّكم على شيء يُحبه الله تعالى ورسوله؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: التَّغابن للضَّعيف"> انتهى ومعناه المُسامحة في أبواب إنفاق المال مع الضَّعيف الحال الَّذي لا يجد كفايته؛ والتَّغابن أنْ يُرِي المرء ذلك مِن نفسه وليس فيه؛ فكيف توهَّم أنَّ فيه ما يُعكِّر علينا لولا أنَّه لم يفهم معناه وما يدلُّ عليه؟
ثُمَّ هذا الحديث ليس لي فيه سماع ولا قرأته في كُتُب الحديث فتركتُ نقله مع كون معناه شاهدًا قويًّا على صحَّة كلامي في مندوبيَّة ترك المُماكسة وفي أفضليَّة ترك الطَّمع بالرِّبح الكثير وترك الشُّحِّ بما لا يضرُّ الاستغناء عنه. ولكن البعض -أصلحه الله- أبى إلَّا أنْ يُخالف لهوى نفسه دون أنْ يُدرك حقيقة معنى العبارات الَّتي يتناولها؛ فلو قلتُ تمرة لقال جمرة!
ثالثًا: في الكلام عن عُمر بن عُبيدالله
وتركتُ نقل ما حكاه الماوردي عن عُمر بن عُبيد الله وأنَّه: <اشترى للحسَن البصريِّ إزارًا بستَّة دراهم ونصف فأعطى التَّاجر سبعة دراهم، فقال: ثمنه ستَّة دراهم ونصف. فقال: إنِّي اشتريته لرجل لا يُقاسم أخاه درهمًا> انتهى وهو ضدُّ ما يدعو إليه المُخالف مِن القول باستحباب المُماكسة؛ فعُمر بن عُبيدالله لم يُماكس التَّاجر في ثمن الثَّوب بل وزاده على ثمنه.
رابعًا: الكلام عن عبدالله بن جعفر
أمَّا الكلام عن عبدالله بن جعفر فهو ما قدَّمتُ له في المقال السَّابق بقولي: <مقال الغد: نصُّ الماوردي على أنَّ المُماكسة مِن خوارم المُروءة (ب) وجوابه على مَن قال إنَّ بعض السَّلف ماكس> انتهى الاقتباس فليصبر إلى الغد؛ فلولا تعجُّله لَمَا كَثُرت أخطاؤه؛ وقيل: فَلَا تَعْجَلْ بِأَمْرِكَ وَاسْتَدِمْهُ ~ فَمَا صَلَّى عَصَاهُ كَمُسْتَدِيمِ. وصلَّى هُنا: لَوَّح. والمُستديم: تارك العَجَلة.
خاتمة:
وهكذا يثبت أنَّنا لم نُدلِّس بحرف بل كان يُغني ما نقلناه مِن قول الماوردي في فعل المُماكسة "مُناف للكرم مُباين للمُروءة" عن كثير مِن هذه الحروف، فما قولك أخي القارئ بمَن يتَّهمك بالتَّدليس لأنَّك تركتَ نقل ما يهدم بدعته لولا أنَّه ضعيف الفهم لكلام العُلماء ولولا أنَّه لا يفقه معاني الألفاظ في اللُّغة العربيَّة؛ فهل لِمِثله أنْ يُفتي وأنْ يُخالف العالِم العامل والعارف الثِّقة!
نصُّ الماوردي على أنَّ المُماكسة مِن خوارم المُروءة ب
قال أبو الحَسن الماوردي المولود في 364ه والمُتوفَّى في 450هـ وهو مِن وُجوه الشَّافعيَّة في الفقه والأُصول والتَّفسير والعربيَّة في كتابه [أدب الدُّنيا والدِّين]: <وهذا إنَّما يسوغ مِن أهل المُروءة في دفع ما يُخادعهم به الأدنياء ويُغابنهم به الأشحَّاء؛ وهكذا كانت حال عبدالله بن جعفر؛ فأمَّا مُماكسة الاستنزال والاستسماح؛ فكلَّا؛ لأنَّه مُنافٍ للكرم ومُباين للمُروءة> انتهى.
فائدة في أنَّ ترك المُماكسة معلوم مِن الدِّين بالضَّرورة
فهذا الفقيه الكبير نصَّ بالصَّريح أنَّ المُماكسة مِن خوارم المُروءة مع أنَّ في كُتُبه ما توهَّم منه البعض -أصلحهم الله- الاستحباب، فتبيَّن لك أخي أنَّ ما فهمناه هو المُوافق لقول العُلماء؛ وأنَّ ما فهمه أولئك لا أصل له في الشَّرع، فكُلُّ ما اشتبه عليهم أُريد به غير ما فهموا منه، لأنَّه معلوم مِن الدِّين بالضَّرورة أنَّ ترك المُماكسة أحسن؛ فالعوامِّ يعرفون أفضليَّة الكَرَم على البُخل وأفضليَّة ترك مُضايقة الإخوان على مُضايقتهم وكذلك يعرفون أنَّ الأحسن والأفضل أنْ يُحِبَّ المرء لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه.
فائدة في جواب الماوردي على مَن قال إنَّ بعض السَّلف ماكس
وقال الماوردي: <ومِن النَّاس مَن يرى أنَّ المُساهلة في العُقود عجز وأنَّ الاستقصاء فيها حزم حتَّى أنَّه ليُنافس في الحقير وإنْ جاد بالجليل الكثير كالَّذي حُكِيَ عن عبدالله بن جعفر وقد ماكس في درهم وهو يجود بما يجود به فقيل له في ذلك فقال: ذلك مالي أجود به وهذا عقلي بخلت به> انتهى فهو هُنا ينقُل خبر مُماكسة عبدالله بن جعفر -بصيغة لا تصحيح فيها لسنده- قبل أنْ يُجيب على ذلك النَّقل تمهيدًا لرفع الشُّبهة والإشكال الَّذي فيه وليقوم ببيان محلِّه وأين يسوغ فعله والإقدام عليه وأين لا يسوغ.
فالحمدلله كثيرًا أنَّ الماوردي وهو الفقيه الكبير أجاب عن هذه الحكاية وبيَّن أنَّ مثل ذلك لا يسوغ في كُلِّ مقام -بل في مُقابل مَن أراد أنْ يغبن النَّاس وأنْ يظلمهم- فأكمل قائلًا: <وهذا إنَّما يسوغ مِن أهل المُروءة في دفع ما يُخادعهم به الأدنياء ويُغابنهم به الأشحَّاء؛ وهكذا كانت حال عبدالله بن جعفر؛ فأمَّا مُماكسة الاستنزال والاستسماح؛ فكلَّا؛ لأنَّه مُنافٍ للكرم ومُباين للمُروءة> انتهى -و<الأدنياء> يعني الخبثاء- وبهذا زالت الشُّبهة الَّتي بنى عليها البعض ما شذَّ به مِن قوله باستحباب المُماكسة؛ والعياذ بالله.
خلاصة في هذا المقال
مِن هُنا نعلم أنَّه ينبغي على الواحد منَّا أنْ لا يترك ما تلقَّاه عن العارف الثِّقة إلى ما تميل إليه نفسه بل يقف مع الشَّرع حيث أمر ولا يحتكم إلى هواه فيما يقترب منه أو يبتعد عنه -وهو العاميُّ الَّذي لا اعتبار لرأيه-، وينبغي على الواحد منَّا أنْ يحذر أنْ يكون ممَّن يقع عليه قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله: <وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ قَالَ الْمُتَكَبِّرُونَ> رواه التِّرمذيُّ.
فائدة في أنَّ المُمَاكسةَ بما لا يَضُرُّه أبعدُ عن معالي الأخلاق
وقال الكشميريُّ في [فيض الباري على صحيح البُخاريِّ]: <فمَن كان عنده فَضْلُ أرضٍ فارغةٍ عن حاجته، فَلْيَمْنَحْ بها أخاه. وهو أيضًا حُكمٌ على طريق المُروءة؛ وبسط الخُلُق؛ فإنَّ المُمَاكسةَ بما لا يَضُرُّه أبعدُ عن معالي الأخلاق، فحرَّضَهُ على ما هو الأحرى بشأنه> انتهى؛ ولاحظ قوله: <فإنَّ المُمَاكسةَ بما لا يَضُرُّه أبعدُ عن معالي الأخلاق> لتعلم أنَّه لا يستحسنها ولا يجدها عملًا على طريق المُروءة وبسط الخُلُق؛ وهذا الفَهم هو المُوافق لِمَا جاء به الشَّرع وحثَّنا عليه نبيُّنا المُصطفى عليه الصَّلاة والسَّلام.
مِن أين أخذ الصَّحابة والسَّلف والعُلماء أنَّ ترك المُماكسة خُلُق كريم؟
الجواب: جاء في [صحيح البُخاريِّ]: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: <رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى> انتهى. فهذا الحديث يحضُّ على السَّماحة في البَيع والشِّراء؛ وفي [لسان العرب]: <وَالسَّمَاحَةُ: الْجُودُ> <وَالْمُسَامَحَةُ: الْمُسَاهَلَةُ. وَتَسَامَحُوا: تَسَاهَلُوا> فيُعلم أنَّ الحديث يحُضُّ على ترك مُماكسة الاستنزال لأنَّها تُنافي الكَرَم والمُروءة كما نصَّ الماوردي في الحاوي الكبير؛ والحديث يحُضُّ على ترك التَّضييق على النَّاس في المُعاملات؛ وفي مُماكسة الاستنزال تضييق لا يخفى.
روايات أُخرى للحديث
ورواه التِّرمذيُّ بلفظ: <غَفَرَ اللَّهُ لِرَجُلٍ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانَ سَهْلًا إِذَا بَاعَ> الْحَدِيثَ، قال ابن حجر: <وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ قَصَدَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ> انتهى، قال الكِرْمانيُّ: <ظَاهِرُهُ الْإِخْبَارُ لَكِنَّ قَرِينَةَ الِاسْتِقْبَالِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ "إِذَا" تَجْعَلُهُ دُعَاءً وَتَقْدِيرُهُ رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَقَدْ يُسْتَفَادُ الْعُمُومُ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالشَّرْطِ> انتهى؛ وللتِّرمذيِّ والحاكم مرفوعًا: <إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ سَمْحَ الْبَيْعِ سَمْحَ الشِّرَاءِ سَمْحَ الْقَضَاءِ>انتهى؛ وللنَّسائيِّ: <أَدْخَلَ اللَّهُ الْجَنَّةَ رَجُلًا كَانَ سَهْلًا مُشْتَرِيًا وَبَائِعًا وَقَاضِيًا وَمُقْتَضِيًا> انتهى؛ ولأحمد نحوُه.
دفع شُبهة
فلا يُحمَل قول ابن حجر في [فتح الباري]: <وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاحَةِ تَرْكُ الْمُضَاجَرَةِ وَنَحْوِهَا لَا الْمُكَايَسَةِ فِي ذَلِكَ> انتهى على أنَّه أراد أنَّ الحديث ما فيه حضٌّ على ترك المُماكسة -مُماكسة الاستنزال- مع ما فيها مِن تضييق ومُشاحَّة بَين المُتبايعِين لأنَّه قال بعد ذلك: <وَفِيهِ الْحَضُّ عَلَى السَّمَاحَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَاسْتِعْمَالِ مَعَالِي الْأَخْلَاقِ وَتَرْكُ الْمُشَاحَّةِ وَالْحَضُّ عَلَى تَرْكِ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ فِي الْمُطَالَبَةِ وَأَخْذُ الْعَفْوِ مِنْهُمْ> انتهى.
وقد علمتَ أنَّ الحضَّ على ما فيه ترك المُشاحَّة والتَّضييق معناه الحضُّ على ترك ما فيه مُماكسة؛ لأنَّ المُماكسة فيها تضييق ومُشاحَّة بَين المُتبايِعِين كما نصَّ على ذلك اللُّغويُّون ففي [القاموس المُحيط]: <وَتَمَاكَسَا فِي الْبَيْعِ: تَشَاحَّا. وَمَاكَسَهُ: شَاحَّهُ> انتهى وفي [لسان العرب]: <وَيُقَالُ: هُمَا يَتَشَاحَّانِ عَلَى أَمْرٍ إِذَا تَنَازَعَاهُ، لَا يُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفُوتَهُ> انتهى؛ وبهذا يزول الإشكال وتدخل الشُّبهة الرَّحى وأيُّ رحى.
مُلاحظة: اطَّلعتُ أمسِ على كلام -قاله مَن ندعو الله له بالصَّلاح والهداية- يزعم فيه أنَّ أهل السُّنَّة يُكفِّرون النَّاس في مسألة المُفاصلة في البَيع؛ وهذا منه هُجوم على الكلام بغير ما يُوافق شرع الله؛ فإنَّما نُكَفِّر مَن يزعم أنَّ المُماكسة سُنَّة مُحمَّديَّة وخُلُقًا نبويًّا مع ما فيها مِن شُحِّ الغنيِّ بما لا يضرُّه الاستغناء عنه؛ لأنَّه بهذا يكون قد ادَّعى أنَّ أخلاق نبيِّنا المُصطفى عليه الصَّلاة والسَّلام تُخالف الكَرَم وتُباين المُروءة -والعياذ بالله- بل نبيُّنا بريءٌ مِن مثل هذه التُّهمة الَّتي يُحاولون إلصاقه بها صلَّى الله عليه وسلَّم.
فائدة مِن كلام البُخاريِّ تدلُّ على ندب ترك المُماكسة
فأمَّا حديث النَّبيِّ: <رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى> انتهى فلا تخفى صحَّتُه وقد رواه البُخاريُّ وغيره كما مرَّ معنا؛ فلا يفوتنا أنَّ البُخاريَّ قال في عُنوان هذا الباب <باب السُّهولة والسَّماحة في الشِّراء والبَيع ومَن طلب حقًّا فليَطلبْه في عفاف> انتهى، وكلام البُخاريِّ في تبويب هذا الحديث يدلُّ على ندب ترك المُماكسة واستحباب السُّهولة في البَيع والشِّراء وهو ما وافقه فيه عُلماء الأُمَّة كما سنُبيِّن فيما سننقله مِن أقوالهم في شُروح هذا الحديث فيما يلي مِن هذه المقالات المُباركة بإذن الله تعالى.
شرح ابن بطَّال حديث: <رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى>
قال ابن بطَّال في شرحه على البُخاريِّ: <فيه الحضُّ على السَّمَاحَة وحُسن المُعاملة واستعمال معالي الأخلاق ومكارمها؛ وترك المُشاحَّة؛ والرِّقَّة في البَيع، وذلك سبب إلى وجود البَرَكة فيه لأنَّ النَّبيَّ عليه السَّلام لا يحُضُّ أُمَّته إلَّا على ما فيه النَّفع لهم في الدُّنيا والآخِرة فأمَّا فضل ذلك في الآخِرة فقد دعا عليه السَّلام بالرَّحمة لمَن فعل ذلك فمَن أحبَّ أنْ تناله بَرَكة دعوة النَّبيِّ عليه السَّلام فليقتدِ بهذا الحديث ويعمل به> انتهى فهو يرى في ترك المُشاحَّة سببًا في الانتفاع الأُخرويِّ وترك المُشاحَّة ما هو إلَّا ترك المُماكسة.
فائدة من كلام المَناويِّ في شرح حديث: <رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى>
وقال المَناويُّ في [فيض القدير]: <سمحًا: أي جوادًا أو مُتساهِلًا غير مُضايق في الأمور وهذا صفة مُشبَّهة تدلُّ على الثُّبوت ولذا كرَّر أحوال البَيع والشِّراء والتَّقاضي حيثُ قال: سمحًا إذَا باعَ سمحًا إذَا اشترى سمحًا إذَا قضى أي طلب قضاء حقِّه وهذا مسُوق للحثِّ على المُسامحة في المُعاملة وترك المُشاححة والتَّضييق في الطَّلب والتَّخلُّق بمكارم الأخلاق وقال القاضي: رتَّب الدُّعاء على ذلك ليدلَّ على أنَّ السُّهولة والتَّسامح سببٌ لاستحقاق الدُّعاء ويكون أهلًا للرَّحمة والاقتضاء والتَّقاضي..> انتهى.
فائدة من كلام القاري في شرح حديث: <ألَا أُخبركم بمَن يحرُم على النَّار>
ويزيد ما سبق قُوَّة حديث التِّرمذيِّ وابن حِبَّان وغيرهما عن ابن مَسعود رضيَ الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: <ألَا أُخبركم بمَن يحرُم على النَّار أو بمَن تحرُم عليه النَّار؟ على كُلِّ قريبٍ هيِّنٍ سَهل> انتهى قال عليٌّ القاري: <أي تحرُم على كُلِّ سهل طلق حليم ليِّن الجانب قيل: هُما يُطلقانِ على الإنسان بالتَّثقيل والتَّخفيف. قريب: أي مِن النَّاس بمُجالستهم في محافل الطَّاعة ومُلاطفتهم قدر الاستطاعة. سهل: أي في قضاء حوائجهم أو معناه أنَّه سمح القضاء سمح الاقتضاء سمح البَيع سمح الشِّراء> انتهى.
النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام ينهى عن المُماكسة
وفي سُنن ابن ماجه: <عَنْ قَيْلَةَ أُمِّ بَنِي أَنْمَارٍ قَالَتْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ عُمَرِهِ عِنْدَ الْمَرْوَةِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أَبِيعُ وَأَشْتَرِي فَإِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَاعَ الشَّيْءَ سُمْتُ بِهِ أَقَلَّ مِمَّا أُرِيدُ ثُمَّ زِدْتُ ثُمَّ زِدْتُ حَتَّى أَبْلُغَ الَّذِي أُرِيدُ وَإِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَ الشَّيْءَ سُمْتُ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ الَّذِي أُرِيدُ ثُمَّ وَضَعْتُ حَتَّى أَبْلُغَ الَّذِي أُرِيدُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَفْعَلِي يَا قَيْلَةُ إِذَا أَرَدْتِ أَنْ تَبْتَاعِي شَيْئًا فَاسْتَامِي بِهِ الَّذِي تُرِيدِينَ أُعْطِيتِ أَوْ مُنِعْتِ وَإِذَا أَرَدْتِ أَنْ تَبِيعِي شَيْئًا فَاسْتَامِي بِهِ الَّذِي تُرِيدِينَ أَعْطَيْتِ أَوْ مَنَعْتِ> انتهى وفي سنده كلام؛ ولكن له شواهدُ في الصَّحيحَين.
ففي هذا الحديث النَّهيُ عن المُماكسة وهذا يدلُّ على حُكمها في الشَّرع إذ لو كانت مُستحبَّة لَمَا نهى عنها نبيُّنا عليه السَّلام إذ النَّهي لا يكون عن مُستحَبٍّ ولا مُباح؛ فلا تتركوا ما دلَّنا عليه نبيُّنا عليه السَّلام إلى كلام مَن ترك ما كان أخذه عن الثِّقة وركن إلى فهمه وفهم أمثاله مِن العوامِّ الَّذين لا يُعوَّل على أفهامهم والَّذين خاضوا في دين الله بما لا علم لهم فأنكر بعضهم مِن كيسه وُرود النَّهي عن المُماكسة؛ وحمل بعضهم الحُكم المخصوص فجعله عامًّا وأسقط المُقيَّد في محلِّ المُطلق؛ فلا حول ولا قوة لا بالله.
تنبيه في تفصيل حُكم المُماكسة
وهكذا تعلم أخي القارئ أنَّ الشَّرع يأمر بالمُساهلة والكرم مِن الجانبَين مِن المُشتري ومِن البائع لكن إنْ كان الشَّخص ضعيف الحال لا يصِل إلى حاجاته الأصليَّة إلَّا بالمُماكسة لا بأس إنْ فعل؛ كذلك إذَا أراد الشِّراء لمصالح المُسلمين لا بأس؛ وكذلك الوكيل مطلوبٌ أنْ يُماكس إذَا أرسله أو وكَّله شخص ليشتريَ له؛ وإلَّا فقد علمتَ أنَّ المُماكسة مِن خوارم المُروءة وأنَّ تركها أفضل؛ وأنَّه ينبغي لطالب الآخِرة أنْ يتركها؛ وأنَّها ليست مُستحبَّة؛ وأنَّها ليست سُنَّةَ نبيِّنا المُصطفى عليه الصَّلاة والسَّلام.
فائدة مِن كلام إمامنا الهرريِّ رضي الله عنه
وقد قال المُحدِّث المُحقِّق المُدقِّق الفقيه النِّحرير شيخنا الهرريُّ رضي الله عنه: <تَرْكُ المُمَاكَسَةِ مَعْلُومٌ مِن الدِّينِ بالضَّرُورَةِ أنَّه أَحْسَنُ، الكَرِيمُ لَا يُمَاكِسُ> انتهى كلامه رحمه الله. ولذلك فإنَّ مَن زعم أنَّ مُماكسةَ الاستنزال -مع ما فيها مِن مُنابذةٍ ومُنازعةٍ بين المُتبايعِين وبُخلِ الغنيِّ بما لا يضرُّه الاستغناء عنه- سُنَّة مُحمَّديَّة أو أنَّها خُلُق نبويٌّ أو ذمَّ تركها -على الإطلاق- فقد أعظم الفِرية على نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم وضلَّ عن سبيل المُهتدِين؛ بخلاف ما لو فصَّل في بيان الحُكم كما بيَّنا آنفًا.
بيان حديث جابر
وحديث جابر فيه أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم سأل جابرًا أنْ يبيعه جملًا له فسامه بدرهم ثُمَّ زاد له شيئًا فشيئًا حتَّى اشتراه بأكثر مِن ذلك؛ والحديث ليس فيه أنَّ النبيَّ ماكس جابرًا ليذهب بجمله بل فيه نقيض ذلك؛ فيه أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم لم يكن ليأخذ مِن جابر جَمَلَه كما جاء في نصوص الرِّويات المُتعدِّدة وسوف نُورد بيان العُلماء والمُحدِّثين في ذلك.
حديث جابر ليس فيه أنَّ نبيَّنا ماكس بقصد انتقاص الثَّمن
ففي رواية أنَّ النَّبيَّ عليه السَّلام قال لجابر: (أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لِآخُذَ جَمَلَكَ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ)؛ وفي رواية: (أَتُرَانِي إِنَّمَا مَاكَسْتُكَ لآخُذَ جَمَلَكَ؟ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ). وفي رواية: (أَظَنَنْتَ حِينَ مَاكَسْتُكَ أَذْهَبُ بِجَمَلِكَ؟ خُذْ جَمَلَكَ وَثَمَنَهُ فَهُمَا لَكَ) وهذه الرِّواية نقلها ابن حجر ثُمَّ قال: <وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ تُوَضِّحُ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ "لِآخُذَ" لِلتَّعْلِيلِ> انتهى؛ فما أبعد ما فعله النَّبيُّ عليه السَّلام برفقه بجابر وإكرامه له مِن المُماكسة الَّتي يبخل فيها المُشتري بما لا يضرُّه الاستغناء عنه مِن متاع الدُّنيا.
فمَن رُزق الفهم فَهِمَ أنَّ النَّبيَّ عليه السَّلام لم يُماكس جابرًا ليأخذ جَمَلَه كما قد يتوهَّم البعض وفهم أنَّ نبيَّنا عليه السَّلام لم يُماكس بقصد انتقاص السِّعر أي لم يُماكس مُماكسة الاستنزال ولذلك حرَص العُلماء على بيان أنَّ الحديث مبنيٌّ على غير طريقة المُماكسة الَّتي يقصد بها المُشتري استحطاط السِّعر وإنزاله؛ وهاكَ أخي القارئ بعض النُّصوص الَّتي تُؤيِّد ما نقول بإذن الله:
كلام السِّنديِّ في أنَّ حديث جابر لا يُبنى على المُماكسة المنهيِّ عنها
وقال السِّنْديِّ في [حاشيته] على حديث جابر في الجمل مِن [سُنن ابن ماجَه] ما نصُّه: <(فَتَبِيعُهُ بِدِينَارٍ) هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ الشِّرَاءُ بِأَزْيَدَ ثَانِيًا وَثَالِثًا وَهَكَذَا؛ لا أَنَّهُ أَرَادَ الشِّرَاءَ بِالزَّائِدِ إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ النَّاقِصَ أَوَّلًا ثُمَّ زَادَ كَمَا هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ..> انتهى كلام السِّنديِّ.
ومُراده بـ [الحديث المُتقدِّم] ما ورد عن النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام في نهي قَيْلَة عن المُماكسة لأنَّه كان قدَّم روايته في الباب قبل حديث جابر في الجمل. وفي حاشية المطبوع: <إلَّا أنَّه أراد> ولعلَّه تصحيف والصَّواب <لا أنَّه أراد> وإلَّا لناقض ما سبقه مِن كلام صاحب الحاشية.
ومعنى قول السِّنديِّ أنَّ الحديث لا يُحمَل على أنَّ النَّبيَّ أراد مِن الأوَّل أنْ يدفع ثمنًا لكنَّه سام الجمل بأقلَّ ممَّا يُريد أنْ يدفع؛ ونحن نقول إنَّه لا يليق بالمُسلم أنْ يُريد غُبن أخيه المُسلم؛ فما قولك -أخي القارئ- برسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام وهُو أبعدُ النَّاس عن الشُّحِّ والبُخل.
النَّوويُّ ينقل قول الشَّافعي وأبي حنيفة أنَّ حديث جابر لا يُحتجُّ به
وجاء في [شرح مُسلم] للإمام النَّوويِّ ما نصُّه: <وَأَجَابُوا –[أي الشَّافعيُّ وأبو حنيفة]- عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِأَنَّهَا قَضِيَّةُ عَيْنٍ تَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا احْتِمَالَاتٌ قَالُوا: "وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ الثَّمَنَ وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ"> انتهى كلام النَّوويِّ.
وبناءً عليه ففي أنَّه <لم يُرد حقيقة البَيع> مزيد بيان في أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم لم يُرد مُماكسة جابر مُماكسةَ الاستنزال ليذهب بجمله؛ فلا يبقى على هذا القول إلَّا أنَّه أراد إعانته في صورة مُعاوضة وهذا مُخالف لحقيقة انتقاص الثَّمن؛ فتأمَّل!
كلام ابن المُلقِّن في أنَّ حديث جابر في الجمل فيه إعانة على سبيل المُعاوضة
قال أبو حفص عمر بن عليِّ بن أحمد الأنصاريُّ الشَّافعيُّ المعروف بابن المُلَقِّن ت/804هـ في [الإعلام بفوائد عُمدة الأحكام] ص/274 ما نصُّه: <وجاء ذلك لأنَّه لم يكن بيعًا مقصودًا وإنَّما منفعتُه لا مُبايعته> انتهى.
وفي ص/286 من الكتاب قال رحمه الله تعالى ما نصُّه: <فيه استعمال مكارم الأخلاق وذلك بأنْ يجعل ما يفعله مِن الإعانة على سبيل المُعاوضة لتطييب خاطر مَن يُفعل ذلك به ويكون قصدُه بذلك ثوابَ الآخرة> انتهى.
وترك المُماكسة هو إعانة في صُورة مُعاوضة لأنَّ دافع الزِّيادة يدفعها مِن ضمن عقد المُعاوضة -كالشِّراء مثلًا- قاصدًا القصدَ المحمود شرعًا لتطييب خاطر البائع أو تجنُّبًا للبخل بما لا يضرُّ الاستغناء عنه مُروءةً وكرَمًا.
ابن الجوزي يُبيِّن أنَّ ما فعله النَّبيُّ مع جابر مِن أحسن التَّكرُّم
وقال ابن الجوزيِّ: <هَذَا مِنْ أَحْسَنِ التَّكَرُّمِ، لِأَنَّ مَنْ بَاعَ شَيْئًا فَهُوَ فِي الْغَالِبِ مُحْتَاجٌ لِثَمَنِهِ فَإِذَا تَعَوَّضَ مِنَ الثَّمَنِ بَقِيَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْمَبِيعِ أَسَفٌ عَلَى فِرَاقِهِ كَمَا قِيلَ: "وَقَدْ تُخْرِجُ الْحَاجَاتُ يَا أُمَّ مَالِكٍ ~ نَفَائِسَ مِنْ رَبٍّ بِهِنَّ ضَنِينُ" فَإِذَا رُدَّ عَلَيْهِ الْمَبِيعُ مَعَ ثَمَنِهِ ذَهَبَ الْهَمُّ عَنْهُ وَثَبَتَ فَرَحُهُ وَقُضِيَتْ حَاجَتُهُ فَكَيْفَ مَعَ مَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ> اهـ.
فلم يفهم ابن الجوزي مِن حديث جابر إلَّا تكرُّمَ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم على جابر بن عبدالله رضي الله عنهُما في شرائه الجمل منه أوَّلًا؛ ثُمَّ تكرُّمَه عليه في ردِّ المبيع عليه مع ثمنه ثانيًا؛ ثُمَّ تكرُّمَه عليه ثالثًا فيما زاد عن الثَّمن؛ فما أبعد هذه الزِّيادات مِن مُماكسة الاستنزال الَّتي إنَّما يريد المُشتري فيها انتقاص الثَّمن والبخلَ بما لا يضرُّه الاستغناء عنه.
ابن حجر ينقل أنَّ قصَّة جابر جَرَتْ كلُّها على وجه الرِّفق به
ونقل الحافظ في [الفتح] أنَّ: <الْقِصَّةَ جَرَتْ كُلُّهَا عَلَى وَجْهِ التَّفَضُّلِ وَالرِّفْقِ بِجَابِرٍ> وقال: <وَسَبَقَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى نَحْوِ هَذَا وَزَعَمَ أَنَّ النُّكْتَةَ فِي ذِكْرِ الْبَيْعِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَبَرَّ جَابِرًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِهِ طَمَعٌ فِي مِثْلِهِ فَبَايَعَهُ فِي جَمَلِهِ عَلَى اسْمِ الْبَيْعِ لِيَتَوَفَّرَ عَلَيْهِ بِرُّهُ وَيَبْقَى الْبَعِيرُ قَائِمًا عَلَى مِلْكِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَهْنَأَ لِمَعْرُوفِهِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَمْرُهُ بِلَالًا أَنْ يَزِيدَهُ عَلَى الثَّمَنِ زِيَادَةً مُهِمَّةً فِي الظَّاهِرِ، فَإِنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ زِيَادَةَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ لِغَيْرِهِ تَأْمِيلٌ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ> انتهى.
فوائد لطيفة للحافظ السُّهَيليِّ في قصة جابر
وقال الحافظ في [الفتح] كذلك: <وَأَبْدَى السُّهَيْلِيُّ فِي قِصَّةِ جَابِرٍ مُنَاسَبَةً لَطِيفَةً غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ مُلَخَّصُهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَخْبَرَ جَابِرًا بَعْدَ قَتْلِ أَبِيهِ بِأُحُدٍ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُ وَقَالَ: "مَا تَشْتَهِي فَأَزِيدُكَ" أَكَّدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ بِمَا يَشْتَهِيهِ فَاشْتَرَى مِنْهُ الْجَمَلَ وَهُوَ مَطِيَّتُهُ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ وَفَّرَ عَلَيْهِ الْجَمَلَ وَالثَّمَنَ وَزَادَهُ عَلَى الثَّمَنِ كَمَا اشْتَرَى اللَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ بِثَمَنٍ هُوَ الْجَنَّةُ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَزَادَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}> انتهى. وفي شرح القسطلانيِّ: <أكد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخبر بما يُشْبِهُه> وفي [الإعلام بفوائد عُمدة الأحكام]: <فأكَّد الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم هذا الخبر بما يَشْتَبِهُهُ>.
السُّهيليُّ يُوضح أنَّ أعمال النَّبيِّ مقرونة بالحكمة
والخبرُ أنَّ جابرًا كان أبوه عبدُالله قد قُتِلَ يومَ أُحُد فأخبر رسولُ الله جابرًا أنَّ الله قال له: "يا عبدي تمنَّ عليَّ" -ابن ماجهْ- فجمع الحافظ أبو القاسم السُّهَيليُّ المُتوفَّى سنة 581هـ بَين هذا الخبر وبَين حديث جابر؛ فجعل الخبر الثَّاني عَمَلًا على مُقتضى الخبر الأوَّل؛ فقال في [الرَّوض الأُنُف والمَشْرع الرِّوَى فيما اشتمل عليه كتاب السِّيرة واحتوى] ما نصُّه:
<(فصل) ومِن لطيف العِلم في حديث جابر بعد أنْ تعلَم قطعًا أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يكن يفعل شيئًا عبَثًا بل كانت أفعاله مقرونة بالحكمة ومُؤيَّدة بالعصمة فاشتراؤه الجملَ مِن جابر رضي الله عنه ثُمَّ أعطاه الثَّمن وزاده عليه زيادة؛ ثُمَّ ردَّ الجمل عليه وقد كان يُمكن أنْ يعطيه ذلك العطاء دون مُساومة في الجمَل ولا اشتراءٍ ولا شرطٍ ولا توصيلٍ فالحكمة في ذلك بديعة جدًّا فلتُنظر بعين الاعتبار وذلك أنَّه سألَه: "هل تزوَّجت؟" ثُمَّ قال له: "هلَّا بِكرًا" فذكر له مقتل أبيه؛ وما خلَّف مِن البنات؛ وقد كان عليه السَّلام قد أخبر جابرًا بأنَّ الله قد أحيا أباه وردَّ عليه روحه وقال: (ما تشتهي فأزيدك). فأكَّد عليه السَّلام هذا الخبر بمثل ما يُشبهه فاشترى منه الجمَل وهو مطيَّته؛ كما اشترى اللهُ تعالى مِن أبيه ومِن الشُّهداء أنفسَهم بثمن هو الجنَّة -ونفسُ الإنسان مطيَّته كما قال عُمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه "إنَّ نفسي مطيَّتي"- ثُمَّ زادهم زيادة فقال: {لِّلَّذِين أحسنوا الحُسنى وزيادةٌ} ثُمَّ ردَّ عليهم أنفسَهم الَّتي اشترى منهم فقال: {ولا تحسبنَّ الَّذين قُتلوا في سبيل الله أمواتًا}؛ الآية؛ فأشار عليه السَّلام باشترائه الجمَل مِن جابر وإعطائه الثَّمن وزيادتِه على الثَّمن ثُمَّ ردَّ الجمَل المُشترى عليه؛ أشار بذلك كُلِّه إلى تأكيد الخبر الَّذي أخبر به عن فعل الله تعالى بأبيه؛ فتشاكل الفعل مع الخبر كما تراه؛ وحاشا لأفعاله صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ تخلوَ مِن حكمة بل هي كُلُّها ناظرة إلى القُرآن ومُنتزَعة منه> انتهى كلام السُّهَيليِّ.
جواز سَوم السِّلعة بما لا يُشبه أنْ يكون ثمنًا لها
فانظر رحمك الله كيف تكلَّف السُّهَيليُّ بديع الأفكار في شرح كيف أنَّ النَّبيَّ لم يفعل ذلك على وجه البُخل بما لا يضرُّه الاستغناء عنه، وأنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم لم يقصد انتقاص الثَّمن ليذهب بالجمل، وكيف أنَّ النَّبيَّ لم يُرِد أنْ يغبِنَ جابرًا حتَّى على تقدير أنَّ النَّبيَّ أعطاه الدِّرهم وهو يعلم أنَّ الدِّرهم لا يُشبه أنْ يكون ثمنًا للجمل وأنَّه إنْ كان الأمر كذلك أي على تقدير ذلك فيُفهم منه جواز المُماكسة ولو شديدة؛ جوازها وليس استحبابها؛ طالما كان البائع والمُشتري عالمَين بسعر المِثل ولم يكن في البَيع تدليس؛ فقال: <فإنْ كان أعطاه الدِّرهم مازحًا فقد كان يمزح ولا يقول إلَّا حقًّا..> إلى آخره.
فائدة نفيسة ثانية للسُّهَيليِّ في بيان حديث جابر
وقال السُّهَيليُّ: <ورُوِيَ مِن وجه صحيح: أنَّه كان يقول له كُلَّما زاد له درهمًا: "قد أخذته بكذا واللهُ يغفر لك" فكأنَّه عليه السَّلام أراد بإعطائه إيَّاه درهمًا درهمًا أنْ يُكثِر استغفاره له> انتهى وهي فائدة نفيسة لو تأمَّلتَ. فأنتَ ترى -أخي القارئ- كيف أنَّ هؤلاء العُلماء ليس بينهم مَن رأى في الحديث مُماكسةَ استنزال مِن النَّبيِّ بقصد أنْ يذهب بجمَل جابر بل هو أكرم الخلق صلَّى الله عليه وسلَّم بل وكلُّهم يَرَون أنَّه زاد له في العطاء مُحاباة وكرَمًا وتفضُّلًا ومُروءة أو مساعدةً في صُورة مُعاوضة أو تطييبًا لخاطره.
ابن خلدون: المُماكسة بعيدة عن المُروءة
وقال ابن خلدون في مُقدِّمته: <التُّجار في غالب أحوالهم إنَّما يُعانون في البَيع والشِّراء ولا بدَّ فيه مِن المُماكسة ضرورة فإنِ اقتصر عليها اقتصرت به على خُلُقِها وهي أعني خُلُق المماكسة بعيدة عن المُروءة الَّتي تتخلَّق بها المُلوك والأشراف> إلى قوله: <ولذلك تجد أهل الرِّئاسة يتحامَون الاحتراف بهذه الحِرفة لأجل ما يُكسب مِن هذا الخُلُق وقد يُوجد منهم من يَسلم مِن هذا الخُلُق ويتحاماه لشرف نفسه وكرم جلاله إلَّا أنَّه في النَّادر بين الوجود واللهُ يهدي مَن يشاء بفضله وكرمه وهو ربُّ الأوَّلِين والآخِرين> انتهى.
فانظر -أخي القارئ يرحمك الله- كيف اتَّفق كلام ابن خلدون -المالكيِّ- مع كلام الماوردي -الشَّافعيِّ- في أنَّ المُماكسة مِن خوارم المُروءة وأنَّها خُلُق يتحاشاه أهل الشَّرف لأنَّه مُنافٍ للكَرَم ومُباين للمُروءة؛ فكيف يتجرَّأ مُسلم بعد هذا البيان أنْ يُطلق القول في استحباب المُماكسة! وهُنا قد يلتبس معنى بعض النُّقول في كُتُب العُلماء على مَن يقرأون في كُتُب العِلم مِن غير تلقٍّ مُعتبَر ودون أنْ تُسعفهم أفهامهم إلى إدراك المُراد فنقف على ذلك إنْ شاء الله لقصد بيانه، فمِن ذلك:
تضعيف العُلماء لحديث: ماكسوا الباعة
لا ينبغي أخي المُسلم أن يُشكِل عليك ما رُوِيَ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: <حاكُّوا الباعَة فإنَّه لا ذمَّةَ لهم> فقد ضعَّفه أهل الحديث فقال السَّخاويُّ: <قال شيخنا إنَّه ورد بسنَد ضعيف لكن بلفظ: ماكسوا الباعة فإنَّه لا خَلاق لهم، قال: "وورد بسند قويٍّ عن سُفيان الثَّوريِّ أنَّه قال: كان يُقال: وذكره"> [المقاصد]، وقال السُّيوطيُّ: <(حديث) "حاككوا الباعة فإنَّهم لا ذمَّة لهم" لا أصل له> [زيادة الجامع الصَّغير]، وقد يُقال: لو صحَّ سنده لوجب تأويله بحيث لا يتعارض مع حديث البُخاريِّ الصَّحيح: <رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى>.
وللبيان ألفت نظرك أخي القارئ إلى قول السَّخاويِّ: <وورد بسنَد قويٍّ عن سُفيان الثَّوريِّ أنَّه قال: كان يُقال: وذكره> انتهى، لاحظ قوله: <كان يُقال> لتعرف أنَّه مع صِحَّة السَّنَد إلى سُفيان رضي الله عنه إلَّا أنَّه لم يرفع هذا اللَّفظ لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وليس فيه حُجَّة تُقاوِم أو تُعارِض ما مرَّ مِن حَثِّ النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام على سماحة البَيع والشِّراء؛ بل وحتَّى على تقدير صحَّته -وليس صحيحًا- فيُحمَل على المُسترسِل الجاهل بالقيمة عند مَن يُريد أنْ يغبنه غُبْنًا فاحشًا.
بيان أفضليَّة التَّسامح في كلام العدْوي الحمزاوي
قال الشَّيخ حسن العدْوي الحمزاويِّ: <وينبغي له أيضًا عدم الشُّحِّ وعدم المُماكسة في البَيع والشِّراء لِمَا ورد إنَّ النَّفقة في الحجِّ كالنَّفقة في الجهاد بسبعين ضِعفًا قال بعضهم اللَّهم إلَّا أنْ يخشى عدم الكفاية. قال العلَّامة خليل في مناسكه وأمَّا في غير الحجِّ فيجوز له المُماكسة مع الباعة لِمَا ورد عنه صلَّى الله عليه وسلَّم "ماكِسوا الباعة فإنَّ فيهم الأرذلين" انتهى. قلتُ وهذا منه صلَّى الله عليه وسلَّم إرشاد وبيان للجواز فلا يُنافي أفضليَّة التَّسامح مِن كُلٍّ مِن البائع والمُشتري لصاحبه لِمَا ورد "بارك الله في رجُل إذَا باع باع سمحًا وإذَا اشترى اشترى سمحًا"> انتهى من [كنز المَطالب في فضل البيت الحرام].
فكلام العدوي صريح في بيان أفضليَّة التَّسامح في البَيع والشِّراء حتَّى أنَّه ما رأى في إمرار المُصنِّف حديث <ماكسوا الباعة> إلَّا بيانًا وإرشادًا لجواز المُماكسة لا إلى استحبابها؛ فكأنَّه يقول لو صحَّ حديث <ماكسوا الباعة> لدلَّ على الجواز وحسب وتبقى الأفضليَّة للتَّسامح ولكنَّك -أخي القارئ- علمتَ أنَّ حديث <ماكسوا الباعة> ضعيف كما بيَّنَّا لك مِن أقوال العُلماء في المقال السَّابق، والضَّعيف لا يردُّ الصَّحيحَ الثَّابتَ روايةً ومعنًى وإنَّما خُصَّ الكلام في استحباب ترك المُماكسة فيما يتعلَّق بعبادة لأنَّه أكثر تأكيدًا كما نقلنا مِن كلام الهيتميِّ في المقال الثاني مِن هذه السِّلسلة المُباركة.
دفع شُبهة مِن المدخل لابن الحاجِّ
هذا وقد توهَّم بعضهم حُكمًا مغلوطًا لدى قراءته في [المدخل] لابن الحاجِّ المالكيِّ؛ فإنَّه قال: <فلا حرج في المُساومة بالزِّيادة والنُّقصان فلا كراهة في ذلك بل هو مشروع مُستحبٌّ لِمَا ورد في الحديث "مَاكِسُوا الْبَاعَةَ فَإِنَّ فِيهِمْ الْأَرْذَلِينَ"> انتهى وهذا الكلام لا يصحُّ هكذا على إطلاقه ولكنَّ كلام ابن الحاجِّ كان في معاملة التُّجَّار الَّذين يغُشُّون النَّاس في البَيع والشِّراء.
مِن هُنا فيُحمَل كلام ابن الحاجِّ على مُعاملة التجار الذين يغبنون الناس ويغشونهم بدليل أنه قبل سطور كان ذكر حديث النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام <مَن غشَّنا فليس مِنَّا> ثُمَّ قال: <فإن هو غش في شيء مما ذكر أو ما أشبهه فقد دخل والعياذ بالله في القسم الذي تبرأ منه صاحب الشريعة..> انتهى ثُمَّ عكف على ذِكر بعض أساليب الغَشِّ الَّذي يستعملونه.
ومتى قرأتَ حديث "ماكسوا الباعة" فاعلم أنَّه ضعيف وأنَّ محلَّه في الكلام عمَّن يُريد أنْ يغبِن ويخدع النَّاس في البَيع والشِّراء لا مُطلقًا؛ فإيَّاكم أنْ تهجموا على القراءة بدون مُعلِّم؛ ويكفي في فهم محلِّ الحديث المذكور قول الهيتميِّ: <يُحْمَلُ عَلَى مَنْ لَمْ يَقْصِدْ مُحَابَاةً لِلَّهِ فَهَذَا يَنْبَغِي لَهُ مُمَاكَسَتُهُمْ دُونَ مَنْ يَقْصِدُ ذَلِكَ لَكِنْ الْأَوْجَهُ أَنَّ قَصْدَ الْمُحَابَاةِ سُنَّةٌ مُطْلَقًا..> انتهى.
دفع شُبهة في خبر يُروى عن مُحمَّد بن واسع
فلمَّا ثبت عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم النَّهيُ عن المُماكسة عَلِمنا أنَّه لا حُجَّة بعد ذلك في فِعل تابعيٍّ ولا في قوله إذَا خالف مَا جاء عن النَّبيِّ عليه السَّلام. وما جاء عن التَّابعيِّ مُحمَّد بن واسع أنَّه ماكس بقَّالًا وقال: (تركُ المِكَاسِ غُبْنٌ) فهذا -لو كان ثابتًا- يحتمل أنَّه فيمَن يقصد غُبن المُشتري وخداعه فكيف لو لم يكن ثابتًا بالمرَّة؛ وثبوته يحتاج إلى شهادة حافظ.
واعلم -أخي القارئ- إنَّ أحكام الشَّرع لا تُؤخَذ مِن أفواه القصَّاصِين فلا ينبغي على طالب الحقِّ أن يترك ما ثبت عن النَبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام ليأخذ بخبر عن تابعيٍّ لا هو علِم صحَّة الرِّواية إليه ولا هو عرف سياق ما يُنقل مِن قوله وفعله؛ بل وحيث وجدتَهم يذكرون الغُبن فاعلم أنَّ محلَّ الكلام ليس على إطلاقه وإنَّما بقيد مُعاملة المُخادعِين والظَّالمين.
وعلى مثل ما قدَّمنا له حمل الماوردي الشَّافعيُّ ما جاء عن السَّلف وأهل المُروءة في القَصَص والحكايات الَّتي لم تُنقل بأسانيد صحيحة فقال: <وهذا إنَّما يسوغ مِن أهل المُروءة في دفع ما يُخادعهم به الأدنياء ويُغابنهم به الأشحَّاء؛ وهكذا كانت حال عبدالله بن جعفر؛ فأمَّا مُماكسة الاستنزال والاستسماح؛ فكلَّا؛ لأنَّه مُنافٍ للكرم ومُباين للمُروءة> انتهى.
بيان أنَّ أهل العلم كانوا يرَون ترك المُماكسة فضيلة ومكرمة
واعلم -أخي القارئ- أنَّ فعل المُجتهد ليس حُجَّة فكيف بخبر ضعيف في كتاب لا يشترط مُصنِّفه الصِّحَّة فيما ينقل فيه مِن الرِّوايات والقَصَص والحكايات؛ بل المُعتمَد ما صحَّ عن رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام فكيف يُرى في خبر ابن واسع رحمه الله حُجَّة وفي مُقابله ما ينقضه مِن أخبار التَّابعين ممَّا قدمناه؛ فهذا مُحمَّد بن زياد -وكان مِن الطَّبقة الأُولى في التَّابعين- يقول عنه الثِّقة بقيَّة: <أَعْطَانِي مُحمَّد بن زياد دِينَارًا فَقَالَ: اشْتَرِ بِهِ زَيْتًا وَلَا تُمَاكِسْ، فَإِنِّي أَدْرَكْتُ الْقَوْمَ فَإِذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمُ الْبِضَاعَةَ لَمْ يُمَاكِسْ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَشْتَرِيهِ> انتهى من [حلية الأولياء] وغيره.
بيان سبب اختبار رشد الصَّبيِّ ولد التَّاجر في المُماكسة
واعلم أنَّ الرُّشْد يكون في الدِّين وفي المال ولذلك قال بعض الفُقهاء: <يُعرف رُشد الصَّبيِّ وَلَدِ التَّاجر باختباره في البَيع والشِّراء والمُماكسة فيهما> انتهى وهذا منهم ليحزروا عقله في الكسب وتحقيق المنفعة والقيام بعمل أبيه أو وليِّه لا ليحزروا فضله وتقواه ومكارم أخلاقه كما توهَّم البعض؛ ذكر الآبي في [نثر الدُّرِّ]: <أنَّ رجُلًا رأى ابنه يُماكِس في شراء سلعة ويُلِحُّ في المُماكسة فقال له: يا بُنَيَّ، كُن سَمْحًا واعلم أنَّ ما تُضيِّعه مِن كرامتك وأنت تُلِحُّ في المُماكسة لا يُعوِّضه المال> انتهى.
براءة الفُقهاء مِن القول باستحباب المُماكسة
فكيف -بعد كُلِّ ما تقدَّم- يتوهَّم مُتوهِّم أنَّ أحدًا مِن فُقهاء الأُمَّة سيُطلق القول باستحباب المُماكسة أو أنَّه قد يدَّعي أنَّها سُنَّةٌ مُحمَّديَّة وخُلُقٌ نبويٌّ! نعوذ بالله مِن الزَّيغ والجهل ومِن أفعال وأقوال المُتكبِّرين عن قبول الحقِّ والأخذ به. وكان العُلماء يُطلقون اسم المُماكسة على هذا النَّوع مِن البُيوع وأحيانًا يُطلقون عليه اسم المُضايقة -وهذا مِن باب تسمية الشَّيء بما فيه- ورُبَّما أطلقوا عليه اسم المُشاحَّة مِن الشُّحِّ أي البُخل؛ فمتى كان فُقهاؤنا يُطلقون القول باستحباب مُضايقة المُؤمن لإخوانه المُؤمنين في بَيع أو شراء!؟ ومتى كانوا يُطلقون القول بمندوبيَّة ما اشتمل على البُخل!
بيان كلام بعض المالكيَّة في المُفاضلة بَين أنواع مِن البُيوع
وقد تكلَّم بعض المالكيَّة على بَيع المُماكسة والمُضايقة وكونه أحسن مِن أنواع أُخرى مِن بُيوع شاع بَين العامَّة طرقها أبوابها على سبيل الغَشِّ وظُلم المُشتري؛ فاستحسنوا الأوَّل على الثَّاني ولم يستحسنوا الأوَّل على الإطلاق بل كان الكلام في قيد محلُّه (((المُفاضلة))) بين المُضايقة أو المُماكسة وبين أنواع مِن البُيوع ذكرت صفتها آنفًا؛ فعلى القارئ أنْ يكون نبيهًا إذَا أراد القراءة في كُتُب العُلماء كي لا يُوقعه فهمه -القاصر عن بلوغ المعنى وإدراك المُراد- في تحريف شرع الله وهو لا يشعر؛ ونحن إنْ شاء الله تعالى نشرع في ذكر كلام بعض المالكيَّة في المُفاضلة بين أنواع مِن البُيوع لنُبيِّن ما أشكل على البعض بإذن الواحد القهَّار.
جواب شبهة في كلام بعض المالكيَّة
هذا وقد توهَّم البعض -أصلحهم الله- أنَّ المالكيَّة يقولون إنَّ المُماكسة شيء مُستحَبٌّ أو مندوب أو سُنَّة؛ وقد توهَّموا ذلك مِن نُقول نقلوها عن بعض أعلام المذهب المالكيِّ لم يفهموا محلَّ الكلام عليها فأدَّاهم ذلك إلى عدم فهم خُلاصتها. وحِرصًا منَّا على الإنصاف وإصابة الحقِّ ننقل بعض النُّصوص ونقف على بيان ما جاء فيها:
بيان محلِّ كلام ابن رُشد الجدِّ في المُماكسة
وأنَّه في تفضيلها على الاسترسال لا في استحسانها مُطلقًا
قال أبو الوليد القُرطبيُّ -وهو ابنُ رُشد الجَدُّ- في [المُقدِّمات المُمهِّدات]: <فصل وأمَّا بيع الاستئمانة والاسترسال، فهو أنْ يقول الرَّجُل: اشترِ منِّي سِلعتي كما تشتري مِن النَّاس، فإنِّي لا أعلم القيمة، فيشتري منه بما يُعطيه مِن الثَّمن، وقال ابن حبيب: إنَّ الاسترسال إنَّما يكون في البَيع أنْ يقول الرَّجُل للرَّجُل: بِعْ منِّي كما تبيع مِن النَّاس وأمَّا في الشِّراء فلا، ولا فرقَ بَين الشِّراء والبَيع في هذا، والله أعلم. [فصل] فالبَيع والشِّراء على هذا الوجه جائز، إلَّا أنَّ البَيع على المُكايسة أحَبُّ إلى أهل العِلم وأحسن عندهم والقيام بالغُبن في البَيع والشِّراء إذَا كان على الاسترسال والاستئمانة واجب بإجماع؛ لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (غُبْن المُسترسل ظُلم) وبالله سُبحانه وتعالى التَّوفيق>.
فتلاحظ -أخي القارئ- أنَّ كلام ابن رُشد إنَّما هو محصور في المُفاضلة بَين أنواع مِن البُيوع يدخل بعضها ما يدخل مِن الغُبن والكذب والخِداع ممَّا يُؤدِّي لظُلم المُشتري ولذلك عبَّر أبو الوليد القرطبيُّ بقوله: <فالبَيع والشِّراء على هذا الوجه جائز، إلَّا أنَّ البَيع على المُكايسة أحَبُّ إلى أهل العِلم وأحسنُ عندهم> أي مِن البُيوع الأُخرى الَّتي ذكرها لا مُطلقًا. وأترك لك أخي القارئ أنْ تتأمَّل ما قاله الخرشيُّ والعَدوي -فيما يلي- لتلحظ صدق ما حقَّقناه:
قول الخرشيِّ في أنَّ الكلام في المُفاضلة بين أنواع مِن البُيوع
قال الخرشيُّ في شرحه على [مُختصر خليل]: <وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ (وَالْأَحَبُّ خِلَافُهُ) يُرِيدُ الْمُسَاوَمَةَ إلَى قَوْلِهِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الْبَيْعُ عَلَى الْمُكَايَسَةِ، وَالْمُمَاكَسَةُ أَحَبُّ إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَحْسَنُ عِنْدَهُمْ>، قال المُحشِّي وهو العَدوي: <وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَابَحَةَ جَائِزَةٌ بِمَعْنَى خِلَافِ الْأَوْلَى لَا مَكْرُوهَةٌ لِمُخَالَفَتِهِ لِاصْطِلَاحِ الْمُصَنِّفِ. قَوْلُهُ (يُرِيدُ الْمُسَاوَمَةَ) وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُسَاوَمَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْمُرَابَحَةِ وَالْمُزَايَدَةِ، وَالِاسْتِيمَان> انتهى.
فأنت -اخي القارئ- ترى أنَّ الأمر محصور في المُفاضلة بين أنواع من البُيوع ولم يقصدوا أنَّ المُكايسة والمُماكسة سُنَّة نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام.
قول عِلِّيش في أنَّ الكلام في المُفاضلة بين أنواع مِن البُيوع
يُؤكِّد لك ذلك ما ورد في [منح الجليل] شرح [مُختصر خليل]: <(وَالْأَحَبُّ) أَيْ الْأَحْسَنُ الْأَوْلَى (خِلَافُهُ) أَيْ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، وَالْمُرَادُ بِخِلَافِهِ بَيْعُ الْمُمَاكَسَةِ وَالْمُسَاوَمَةِ لِقَوْلِ ابْنِ رُشْدٍ الْبَيْعُ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ وَالْمُكَايَسَةِ أَحَبُّ إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَحْسَنُ عِنْدَهُمْ وَعِيَاضٌ فِي التَّنْبِيهَاتِ الْبُيُوعُ بِاعْتِبَارِ صُوَرِهَا أَرْبَعَةٌ، بَيْعُ مُسَاوِمَةٍ وَهُوَ أَحْسَنُهَا، وَبَيْعُ مُزَايَدَةٍ، وَبَيْعُ مُرَابَحَةٍ وَهُوَ أَضْيَقُهَا، وَبَيْعُ اسْتِرْسَالٍ وَاسْتِمَالَةٍ> انتهى فانظر كيف وضع عبارة ابن رُشد في المُفاضلة بين أنواع مِن البُيوع ولم يجعله عامًّا ولا مطلقًا.
قول الباجي في استحباب المُسامحة في الثَّمن
قال أبو الوليد الباجي في [المُنتقى]: <قَوْلُهُ (أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا إنْ بَاعَ سَمْحًا إنْ ابْتَاعَ) يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالسَّمَاحَةِ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ الْمُسَامَحَةَ فِي الثَّمَنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَأْخُذَ الْقِيمَةَ وَلَا يُشْطِطْ بِطَلَبِ أَكْثَرَ مِنْهَا وَيَتَجَاوَزُ فِي النَّقْدِ وَأَنْ يُنْظِرَ بِالثَّمَن> انتهى كلامه؛ فتعلَمُ بذلك صحَّة ما نحن بصدده مِن معنى السَّماحة في البَيع وأنَّها ترك المُماكسة والمُضايقة والمُشاحَّة فيه.
بيان أنَّ قولهم (وليس هو ترك المُكايسة) هو في المُسترسل الجاهل بالقيمة
يُتابع الباجي فيقول: <وَفِي الْوَاضِحَةِ تُسْتَحَبُّ الْمُسَامَحَةُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَلَيْسَ هُوَ تَرْكَ الْمُكَايَسَةِ فِيهِ إنَّمَا هِيَ تَرْكُ الْمُوَارَبَةِ وَالْمُضَاجَرَةِ وَالْكَزَازَةِ وَالرِّضَا بِالْإِحْسَانِ وَيَسِيرِ الرِّبْحِ، وَحُسْنُ الطَّلَبِ بِالثَّمَنِ..> إلى أنْ قال: <وَالْمُسَامَحَةُ مِنْ الْمُبْتَاعِ فِي أَنْ يَقْضِيَ أَفْضَلَ ما يَجِدُ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنَّ أَفْضَلَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً) وَيُعَجِّلُ الْقَضَاءَ وَلَا يَبْلُغُ الْمَطْلَ فَهُوَ قَوْلُهُ سَمْحًا إنْ قَضَى، وَلَا يُعَنِّفُ فِي سُرْعَةِ الِاقْتِضَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ> انتهى.
فانظر قوله أوَّلًا: <تُسْتَحَبُّ الْمُسَامَحَةُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ> وتذكَّر كلامَه آنفًا حيث قال: <يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالسَّمَاحَةِ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ الْمُسَامَحَةَ فِي الثَّمَنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَأْخُذَ الْقِيمَةَ وَلَا يُشْطِطْ بِطَلَبِ أَكْثَرَ مِنْهَا> وتأمَّل قوله أخيرًا: <إنَّمَا هِيَ تَرْكُ الْمُوَارَبَةِ وَالْمُضَاجَرَةِ وَالْكَزَازَةِ وَالرِّضَا بِالْإِحْسَانِ وَيَسِيرِ الرِّبْحِ> ثُمَّ تابع القراءة. وهُنا قد تسأل ألَا تتناقض المُماكسة الَّتي هي استحطاطُ سِعرٍ ومُضايقةٌ وطمعٌ في مزيدٍ مِن الرِّبح مع ما ذَكَرَه مِن استحباب ترك الطَّمع والسُّهولة والمُسامحة!؟
والجواب: أنَّ الَّذي يُلاحظ سِياق الكلام يجد أنَّهم يبنون على ما سبق الكلام عنه مِن المُفاضلة بَين أنواع مِن البُيوع كثُر بين النَّاس الدُّخول في المُعاملة فيها على سبيل الغَشِّ والظُّلم -ولم يكن الكلام على إطلاقه- فكأنَّه يقول: وليس معنى المُسامحة في البَيع والشِّراء ترك المُكايسة حتَّى للمُسترسِل الجاهل بالقيمة مع مَن يُريد أنْ يغشَّه وأنْ يغبنه الغُبْن الفاحش، وإلَّا فقد علمتَ أنَّ الشُّحَّ نقيض الكرم وأنَّ المُضايقة نقيض السُّهولة وبهذا يزول الإشكال والحمدلله.
بيان أنَّ قول أحمد (اشترِ وماكس) هو في المُسترسل الجاهل بالقيمة
فإذَا انكشف لك -أخي القارئ- ما سبق بيانه؛ فاقرأ ما قاله بعض فُقهاء الحنابلة في ذلك في أثناء كلامهم عن المُفاضلة بين تلك الأنواع مِن البُيوع؛ لأنَّك متى علمتَ محلَّ الكلام سهُل عليك فهم قيده وأنَّه ليس على إطلاقه كما قد يتوهَّم مَن لا بصيرة عنده.
قول ابن مفلح الحنبليِّ في المُفاضلة بين أنواع مِن البُيوع
قال ابن مفلح الحنبليُّ في [الْمُبْدِعِ فِي شَرْحِ الْمُقْنِعِ]: <قَالَ أَحْمَدُ: اشْتَرِ وَمَاكِسْ قَالَ: وَالْمُسَاوَمَةُ أَسْهَلُ مِنَ الْمُرَابَحَةِ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ، وَلَا يَأْمَنُ الْهَوَى> انتهى؛ وهو واضح في بيان أنَّ قول أحمد رضي الله عنه اشترِ وماكس هو في المُسترسل الجاهل بالقيمة.
قول البُهوتيِّ الحنبليِّ في المُسترسل والمغبون
وقال البُهُوتيُّ الحنبليُّ في [كَشَّافَ الْقِنَاعِ عَنْ الْإِقْنَاع]: <(الْمُسْتَرْسِلُ وَهُوَ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ اسْتَرْسَلَ إذَا اطْمَأَنَّ وَاسْتَأْنَسَ وَالْمُرَادُ هُنَا (الْجَاهِلُ بِالْقِيمَةِ مِنْ بَائِعٍ وَمُشْتَرٍ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُمَاكِسَ فَلَهُ الْخِيَارُ إذَا غُبِنَ الْغَبْنَ الْمَذْكُورَ) أَيْ الَّذِي يَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ لِأَنَّهُ حَصَلَ لِجَهْلِهِ الْخِيَارَ فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ> انتهى.
فهو صريح فيما قدَّمنا له مِن أنَّ قول أحمد إنَّما هو في المُسترسل أي الجاهل بالقيمة؛ ألَا ترى كيف قال: <وَالْمُرَادُ هُنَا الْجَاهِلُ بِالْقِيمَةِ> فهذا واضح في أنَّ المُراد بكلام أحمد هو الجاهل بالقيمة إذَا أُريد له الغُبن الفاحش وليس المُراد على الإطلاق في كُلِّ حال كما توهَّم البعض أصلحهم الله.
قول الزرقانيِّ المالكيِّ في استحباب الرِّضا بقليل الرِّبح
وهاك المزيد مِن أقوال العُلماء يُؤكِّد ما قلناه وشرحناه لك مِن العبارة: قال الزرقانيُّ المالكيُّ في شرحه على المُوطَّأ: <أَحَبَّ اللَّهُ (عَبْدًا) أَيْ إِنْسَانًا (سَمْحًا) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ مِنَ السَّمَاحَةِ وَهِيَ الْجُودُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ تَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ (إِنْ بَاعَ) بِأَنْ يَرْضَى بِقَلِيلِ الرِّبْحِ (سَمْحًا إِنِ ابْتَاعَ سَمْحًا إِنْ قَضَى) أَيْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ وَيَقْضِي أَفْضَلَ مَا يَجِدُ وَيُعَجِّلُ الْقَضَاءَ> انتهى.
قول ابن المُلقِّن الشَّافعيِّ في استحباب الرِّضا بقليل الرِّبح
وأختم لك بما قاله ابن المُلقِّن الشَّافعيُّ في [التَّوضيح لشرح الجامع الصَّحيح]: <وَقَوْلُهُ: ("وَإِذَا اقْتَضَى") جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: "وَإِذَا أَقْضَى" وَفِي أُخْرَى: "خُذْ حَقَّكَ فِي عَفَافٍ وَافِيًا أَوْ غَيْرَ وَافٍ" وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ مَرْفُوعًا. وَفِي رِوَايَةٍ: "إِذَا اقْتُضِيَ لَهُ" وَفِيهِ: الْحَضُّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ -كَمَا تَرْجَمَ لَهُ- وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ، وَاسْتِعْمَالِ مَعَالِي الْأَخْلَاقِ وَمَكَارِمِهَا، وَتَرْكِ الْمُشَاحَّةِ فِي الْبَيْعِ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِوُجُودِ الْبَرَكَةِ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحُضُّ أُمَّتَهُ إِلَّاَ عَلَى مَا فِيهِ النَّفْعُ لَهُمْ دِينًا وَدُنْيَا. فَأَمَّا فَضْلُهُ فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ دَعَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ لِفَاعِلِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ تَنَالَهُ هَذِهِ الدَّعْوَةُ فَلْيَقْتَدِ بِهِ وَيَعْمَلْ بِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: ("وَإِذَا اقْتَضَى") حَضَّ عَلَى تَرْكِ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ طَلَبِ الْحُقُوقِ وَأَخْذِ الْعَفْوِ مِنْهُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ السَّالِفُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَفِيهِ الْأَمْرُ بِحُسْنِ الْمُطَالَبَةِ وَإِنْ قُبِضَ دُونَ حَقِّهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ مِنَ الْفَضْلِ مَا سَتَعْلَمُهُ فِي الْبَابِ بَعْدَهُ> انتهى فلا يبقى إلَّا أنْ يكون معنى <وكانوا يُحبُّون المُكايسة في الشِّراء> تجنُّب الوقوع في الغُبْن الفاحش لأنَّ المغبون لا أجر له فيما يدفع مِن زيادة على سعر المِثل.
دفع شُبهة في قولهم إنَّ البَيع مبنيٌّ على المُماكسة
واعلم -أخي القارئ- أنَّه لمَّا كان البَيع والشِّراء على المُماكسة مقصود غالب مَن يتعاطاهما عبَّر بعض الفُقهاء فقال: <البَيع مبنيٌّ على المُماكسة> انتهى وهذا القول ليس استحبابًا للمُماكسة منهم؛ البتَّة؛ بل حكاية عن مقاصد معظم النَّاس وليس هكذا يكون التَّشريع والقول بالاستحباب والمندوبيَّة، وإنَّما الحَسَنُ ما حسَّنه الشَّرع الشَّريف؛ وإنَّما القبيحُ ما قبَّحه الشَّرع الشَّريف.
وكم أعجب كيف فهم البعض -أصلحهم الله- مِن هذا القول استحباب المُماكسة. والجواب على ما فهموه أنْ يُقال لهم إنَّ العُلماء قالوا: <إنَّ البَيع مبنيٌّ على الشُّحِّ والمُضايقة> انتهى فهل سيدَّعون أنَّ الشُّحَّ منقبةٌ! وأنَّ مُضايقة الإخوان في البَيع والشِّراء عمل مبرور فيه الأجر والثَّواب! وأمَّا ما نقلناه عن العُلماء فإنَّنا نقتصر على النُّقول التَّالية بإذن الله تعالى:
قال علاء الدِّين البُخاريُّ -فقيه حنفيٌّ ت/730ه- في [كشف الأسرار عن أُصول البزدَوي] [94 ص114]: <مبنى البَيع على المُضايقة والمُماكسة> انتهى. وقال الزَّيلعيُّ -فقيه حنفيٌّ ت/743ه- في [تبيين الحقائق شرح كنز الدَّقائق (لأبي البركات النَّسفي ت/710ه) ومعه حاشية الشَّيخ الشَّلبي] [ج6 ص/114]: <بخلاف البَيع لأنَّه مبنيٌّ على المُضايقة والمُماكسة> انتهى. وقال الشَّريف التِّلمسانيُّ ت771ه -مِن أعلام المالكيَّة- في [مفتاح الوُصول إلى بناء الفُروع على الأُصول]: <البَيع مبنيٌّ على المُكايسة والمُشاحَّة> انتهى.
فلو كان مُجرَّد القول <إنَّ البَيع مبنيٌّ على المُماكسة> مُوهمًا مندوبيتَها؛ لأوهم القول <إنَّ البَيع مبنيٌّ على الشُّحِّ والمُضايقة> مندوبيتَهما: وهو ظاهر البُطلان، فتأمَّل يرحمك الله تعالى.
لماذا هذا البيان في حُكم المُماكسة؟
هذا وقد استغرب بعض الأصدقاء الحاجةَ إلى نحو خمسين مقالًا في بيان حُكم المُماكسة وكان يكفي في بيانه حديث رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام وحدَه، ولكنَّ حقيقة الأمر أنَّ الَّذين خالفوا؛ كانوا خاضوا فيما خالفوا فيه مسألة صحيحة تقول <إنَّ مَن زعم أنَّ مُماكسة الاستنزال سُنَّة نبويَّة وخلُقٌ مُحمَّديٌّ يكفر ما لم يكن حديث عهد بإسلام> انتهى -وهي مسألة مُوافقة للشَّرع- فاعترضوا عليها لجهلهم بالدِّين أوَّلًا ثُمَّ لِغَرَضٍ عندهم في الطَّعن بنهج العُلماء العارفين ثانيًا وثالثًا لجهلهم باللُّغة العربيَّة.
وقد أدَّى الجهل بأهله إلى تحريف حُكم الشَّرع؛ فقال قائل منهم إنَّ المُماكسةَ مُستحَبَّةٌ مُخالفًا مَا سمعه عن العارف الثِّقة! وقال آخَرُ إنَّها غير مكروهة حتَّى تدخلها الكراهة -فجعل الاستثناء الفرعيَّ أصلًا والأصلَ فرعًا- وزعم أنَّ القائلين بالكراهة لهم أدلَّتُهم وأنَّ القائلين بالاستحباب لهم أدلَّتُهم! وقاس على جهله فادَّعى -والعياذ بالله- أنَّ المعلوم مِن الدِّين بالضَّرورة تغيَّر اليومَ بالنِّسبة إلى معرفة حُكم هذه المسألة مُعتمدًا فيما زعمه على رأيه وهو يعلم أنَّه جاهل مُتعالِم لا تعويل على رأيه.
فالمسألة -أخي القارئ- ليست بيان حُكم فقهيٍّ وحسب؛ بل انتهضنا فيها إلى بيان أنَّ هذا الفعل المذموم ليس مِن أخلاق نبيِّنا المُصطفى عليه الصَّلاة والسَّلام وإلى بيان أنَّ الشَّرع لا يحثُّ على ما يُخالف المُروءة ويُباين الكرم والمُساهلة، فلا يُلتفت إلى تُرَّهات المُتعالِمين فإنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: <مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ> رواه البُخاريُّ.
ماذا يفعل مَن عُرضت عليه الفتنة؟
فأمَّا مَن عُرِضَتْ عليه الفتنة؛ فإنَّ عليه أنْ لا يترك ما سمعه عن العارف الثِّقة إلى ما افتراه جاهل مُتعالِم؛ قال ابن سِيرين: <إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ> رواه مُسلم. نعم؛ العارف الثِّقة غير معصوم عندنا وقد يخطئ؛ ولكن لا يُترك قولُه إلى ما لا يقول به غيره مِن أهل العلم مِن المُجتهدين المُعتبَرين؛ وإلَّا فقد أثم وغامر بدينه والعياذ بالله.
وقد كثُر بين النَّاس خبرُ عمرَ رضي الله عنه مع المرأة الَّتي راجعته في مُهور النِّساء؛ وهذا الخبر لا ينبغي أنْ يُذكر للدَّعوة إلى ردِّ قول العارف الثِّقة فإنَّ تلك المرأة كانت صحابية فقيهة وكان الدَّليل مِن كتاب الله معها. فمَن رأيتَه يذكر هذه القصَّة ليدعو النَّاس بها إلى الانتقال مِن قول العارف الثِّقة إلى شيء افتراه جاهل مُتعالِم فاعلَمْ أنَّه ليس على شيء.
الخاتمة
وبهذا تعلم -أخي القارئ- أنَّ الفُقهاء والعُلماء استحبُّوا المُسامحة في الثَّمن؛ وأنَّ المُماكسة فيها هوى نفس وتركها أفضل لمَن لا يضرُّه تركها فلا يُعطي نفسه هواها؛ بخلاف ما لو كان مُحتاجًا ليس معه ما يقوم بحاجاته الأصليَّة أو كان يشتري مِن مال مصالح المُسلمين أو كان مُوكلًا بالشِّراء لغيره. يقول شيخنا الهرريِّ رحمه الله ورضي عنه ما نصُّه: <تَرْكُ المُمَاكَسَةِ مَعْلُومٌ مِن الدِّينِ بالضَّرُورَةِ أنَّه أَحْسَنُ، الكَرِيمُ لَا يُمَاكِسُ> انتهى.
فإذَا ثبتَ لك هذا علمتَ أنَّ مَن زعم أنَّ مُماكسةَ الاستنزال -مع ما فيها مِن مُنابذةٍ ومُضايقة ومُنازعةٍ وبُخلٍ- سُنَّةٌ مُحمَّديَّةٌ أو أنَّها خُلُقٌ نبويٌّ - أو ذمَّ تركها على الإطلاق بلا تفصيل فقد أعظم الفِرية على نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم وضلَّ عن سبيل المُهتدِين بخلاف ما لو فصَّل في بيان الحُكم كما بيَّنا آنفًا. واللهَ نسألُ أنْ يكون في هذا التَّوضيح إيقاظ وتنبيه (لمَن كان له قلب أو ألقى السَّمع وهو شهيد) والحمد لله أوَّلًا وآخِرًا.
فهرس أعلام [رسالة في بيان حُكم المُماكسة في البيع والشِّراء]
النَّبيُّ مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم.
أبو بكر بن مُحمَّد شطا الدِّمياطيُّ. فقيه شافعيٌّ ت/1310ه.
أحمد بن حنبل. إمام المذهب ت/250ه.
أحمد بن شُعيب بن عليٍّ الخُراسانيُّ النَّسائيُّ. صاحب السُّنن ت/303ه.
أحمد بن عليِّ بن حَجَر العسقلانيُّ. الحافظ المشهور ت852ه.
أحمد بن مُحمَّد بن عليِّ بن حَجَر الهَيتميُّ. فقيه شافعيٌّ ت/974ه.
أحمد بن مُحمَّد القسطلانيُّ. مِن عُلماء الحديث ت/923ه.
أحمد بن مُحمَّد. الشِّلْبِيُّ ت/1021هـ.
بقيَّة بن الوليد. حافظ مِن الأعلام ت/197ه.
جابر بن عبدالله. صحابيٌّ جليل ت/78ه.
جرير بن عبدالله البَجَلِيُّ. مِن أعيان الصَّحابة ت/51ه.
الحَسَن بن يسار البصريُّ. مِن أعلام التَّابعين ت/110ه.
حسن العدوي الحمزاوي. فقيه مالكيٌّ أشعريٌّ ت1303ه.
الحُسين بن مُحمَّد. الرَّاغب الأصفهانيُّ. أديب مشهور ت/502ه.
خليل بن إسحاق. العلَّامة خليل. فقيه مالكيٌّ ت/776ه.
سُليمان بن خلف. أبو الوليد الباجي. مالكيٌّ كبير ت/474ه.
سُفيان بن سعيد. الثَّوريُّ الكوفيُّ. مِن أئمَّة الحديث ت/161ه.
سُليمان بن مُحمَّد بن عُمر البُجَيْرَمِيُّ. فقيه شافعيُّ ت/1221ه.
صُدَيُّ بن عجلان. أبو أُمامة الباهليُّ. صحابيٌّ جليل ت/86ه.
أُمُّ المُؤمنين الصِّدِّيقة عائشة بنت أبي بكر الصِّدِّيق ت/58ه.
عبدالأعلى السَّمسار. روى عن الحَسَن البصريِّ.
عبدالرَّحمن بن أبي بكر. السُّيوطيُّ. حافظ مشهور ت/911ه.
عبد الرَّحمن بن عبدالله. الحافظ السُّهَيليُّ ت/581ه.
عبدالرَّحمن بن علي. ابن الجوزي إمام الحنابلة ت/597ه.
عبدالرَّحمن بن مُحمَّد. ابن خلدون. فقيه مالكيٌّ ت/808ه.
عبدالعزيز بن أحمد. علاء الدِّين البُخاريُّ. فقيه حنفيٌّ ت/730ه.
عبدالله بن أحمد. أبو البركات النَّسفيُّ. فقيه حنفيٌّ ت/710ه.
عبدالله بن جعفر بن أبي طالب. صحابيٌّ جليل ت/80ه.
عبدالله بن العبَّاس. صحابيٌّ جليل ت/68ه.
عبدالله بن عُمر بن الخطَّاب. صحابيٌّ جليل ت/73ه.
عبدالله بن عَمرو. صحابيٌّ جليل ت/3ه.
عبدالله بن مُحمَّد الهرريُّ. حافظ وفقيه شافعيٌّ ت/1429ه.
عبدالله بن مسعود الهُذَلِيُّ. صحابيٌّ جليل ت/32ه.
عُثمان بن عليٍّ. فخر الدِّين الزَّيلعيُّ. فقيه حنفيٌّ ت/743ه.
عليُّ بن خَلَف. ابن بطَّال المالكيُّ ت/449ه.
عليُّ بن سُلطان مُحمَّد. المُلَّا عليٌّ القاري. فقيه حنفيٌّ ت/1014ه.
عليُّ بن مُحمَّد. أبو الحَسن الماوردي. مِن وُجوه الشَّافعيَّة ت/ 450هـ.
عُمَر بن الخطَّاب. الخليفة الرَّاشد ت/23ه.
عُمَر بن عبدالعزيز. الخليفة الرَّاشد ت/101ه.
عُمَر بن عُبيدالله بن مَعْمَر. تابعيٌّ اشتُهر بالجود والكرم ت/82ه.
عُمَر بن عليٍّ الأَنْصَارِيُّ. شافعيٌّ كبير. ابن المُلَقِّن ت/804ه.
عَمْرو بن العاص. صحابيٌّ اشتُهر بالدَّهاء ت/43ه.
مُحمَّد بن إبراهيم بن المُنذر النَّيسابوريُّ. فقيه وحافظ ت/319ه.
مُحمَّد بن أحمد بن عُثمان الذَّهبيُّ، حافظ مُتَّهم بالتَّجسيم ت/748ه.
مُحمَّد بن أحمد. ابن رُشد الجَدُّ. مِن أعيان المالكيَّة ت/520ه.
مُحمَّد بن أحمد. الشَّريف التِّلمسانيُّ. مِن أعلام المالكيَّة ت/771ه.
مُحمَّد بن إدريس الشَّافعيُّ. إمام المذهب ت/204ه.
مُحمَّد بن إسماعيل البُخاريُّ. صاحب الصَّحيح ت/256ه.
مُحمَّد أنور بن معظم الكشميريُّ الهنديُّ ت/1353ه.
مُحمَّد بن حِبَّان. أبو حاتم البُسْتيُّ ت/254ه.
مُحمَّد زاهد الكوثريُّ. وكيل مشيخة السَّلطنة العُثمانيَّة ت/1371ه.
مُحمَّد بن زياد. الألهانيُّ. مِن الطَّبقة الأُوْلى في التَّابعين.
مُحمَّد بن سِيرين. إمام البصرة ت/110ه.
مُحمَّد بن عبدالله. الخَرَشيُّ المالكيُّ. شيخ الأزهر ت/1101ه.
مُحمَّد بن عبدالله النَّيسابوريُّ. الحاكم صاحب المُستدرك ت/405ه.
مُحمَّد بن عبدالباقي. الزرقانيُّ المالكيُّ ت/1122ه.
مُحمَّد عبد الرَّؤوف المَناويُّ. صاحب فيض القدير ت/1031ه.
مُحمَّد بن عبدالرَّحمن. السَّخاويُّ. حافظ مشهور ت902ه.
مُحمَّد بن عبدالهادي، نور الدِّين السِّنْديِّ ت/1138ه.
مُحمَّد بن عُمَر الرَّازيُّ. فخر الدِّين. المُفسِّر ت/606ه.
مُحمَّد بن عيسى. التِّرمذيُّ صاحب السُّنن ت/279ه.
مُحمَّد بن مُحمَّد العبدريُّ الفاسيُّ المالكيُّ. ابن الحاجِّ ت/737ه.
مُحمَّد بن مفلح المقدسيُّ. ابن مُفلح. حنبليٌّ كبير ت/763ه.
مُحمَّد بن واسع. مِن أعلام التَّابعين ت/127ه.
مُحمَّد بن يزيد القزوينيُّ. ابن ماجَه صاحب السُّنن ت/273ه.
مُحمَّد بن يوسف الكَرْمانيُّ. مِن عُلماء الحديث ت/786ه.
مُسلم بن الحجَّاج. صاحب الصَّحيح ت261ه.
المُغيرة بن شُعبة الثَّقفيُّ. صحابيٌّ شهد بيعة الرِّضوان ت/50ه.
منصور بن الحُسين الرَّازيُّ، أبو سعد الآبيُّ. أديب ت/421ه.
المُنذر الغسَّانيُّ: من مُلوك الغساسنة في الشَّام قبل البعثة.
منصور بن يونس البُهُوتيُّ الحنبليُّ ت/1051ه.
النُّعمان بن ثابت. أبو حنيفة إمام المذهب ت/150ه.
يحيى بن شرف النَّوويُّ. الفقيه الشَّافعيُّ المشهور ت/676ه.
الوليد بن عُبيد البُحتُريِّ. مِن شُعراء العصر العبَّاسيِّ. ت/284ه.
نهاية الرِّسالة.
|