بيان كفر مَن استنطق الكافر بالكُفر ودفع شُبهة رواية: ألستَ ركوسيًّا
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله. وبعدُ فلا خِلاف بين المسلمين أنَّ الرِّضى بالكُفر كُفرٌ، فلو سأل رجلٌ كافرًا عن دينه وهو مُتيقِّن مِن أنَّ الكافر يجيبه بالكُفر: كَفَرَ السَّائلُ، وسبب ذلك أنَّ السَّائل استنطق المسؤولَ بالكُفر فيكون رضِيَ بكُفره. أمَّا لو كان السُّؤال مِن باب الإنكار أو التَّهكُّم أو التَّبكيت أو التَّوبيخ أو التَّقريع أو التَّعنيف أو نحو ذلك ممَّا لا يُراد منه جواب: فلا يكون كُفرًا؛ لأنَّه لم يشتمل على استنطاق بالكُفر فلا يكون رضًى بالكُفر.
دفع شُبهة [1]: رواية: <ألستَ ركوسيًّا>. هي رواية مُختلف في إسنادها لم ينصَّ الحفَّاظ على تصحيحها، ولو صَحَّتْ فلا يكون معناها أنَّ النَّبيَّ سأل عديَّ بن حاتم ليُجيبه بل ليُقرِّر مَا سبق مِن قوله صلَّى الله عليه وسلَّم لعديٍّ: <أنا أعلم بدينِك منك>. والمعنى أنِّي أعلم بدينك منك بدليل كونك ركوسيًّا وكُنتَ تفعل كذا وكذا؛ ويُؤكِّد هذا المعنى رواية الحديث في المعجم الأوسط للطَّبرانيِّ والمُستدرك للحاكم وليس فيها أنَّ النَّبيَّ انتظر جوابًا ولا أنَّ عديًّا أجاب. وعند ابن حبَّانَ والتِّرمذيِّ: <(يا عديُّ بن حاتم ما أفرَّك أنْ تقول لا إله إلَّا الله فهل مِن إله إلَّا الله، ما أفرَّك مِن أنْ تقول الله أكبر فهل مِن شيء أكبر مِن الله؟) قال: فأسلمتُ ورأيتُ وجه رسول الله قد استبشر>.
وبهذا يتَّضحُ أنَّ كلام النَّبيِّ كان في محلِّ إثبات كونه أعلمَ من عديٍّ بدينه وأنَّه كان جوابًا لتعجُّب عديٍّ مِن قول النَّبيِّ: <أنا أعلم بدينك منك> ولم يكن سؤالًا استفهاميًّا ولا استنطاقًا للكافر بالكُفر؛ فتأمَّل. انتهى.
بيان كفر مَن استنطق الكافر بالكُفر ودفع شُبهة في خبر إسلام الحُصين
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله. وبعدُ فلا خِلاف بين المسلمين أنَّ الرِّضى بالكُفر كُفرٌ، فلو سأل رجلٌ كافرًا عن دينه وهو مُتيقِّن مِن أنَّ الكافر يجيبه بالكُفر: كَفَرَ السَّائلُ، وسبب ذلك أنَّ السَّائل استنطق المسؤولَ بالكُفر فيكون رضِيَ بكُفره. أمَّا لو كان السُّؤال مِن باب الإنكار أو التَّهكُّم أو التَّبكيت أو التَّوبيخ أو التَّقريع أو التَّعنيف أو نحو ذلك ممَّا لا يُراد منه جواب: فلا يكون كُفرًا؛ لأنَّه لم يشتمل على استنطاق بالكُفر فلا يكون رضًى بالكُفر.
دفع شُبهة [2]: خبر إسلام الحُصين واستدلَّ أهل الفتنة بخبر إسلام الحُصين وهُو خبر ضعيف ولا يصح البتَّة وفيه: <أنَّ النَّبيَّ سأل الحُصين كم تعبد اليومَ إلهًا؟ فقال: سبعة؛ ستَّة في الأرض وواحدًا في السَّماء..> إلى آخر هذه الرِّواية الَّتي ما ساقهم إلى التَّمسُّك بها واللُّجوء إليها إلَّا الجهلُ بضعفها ومخالفةُ أهل العلم وإرادةُ الطَّعن بالعلماء العاملين ولكنَّ الله يدافع عن الَّذين آمنوا. قال الكوثريُّ: <في سنده شبيب بن شيبة ضعَّفه النَّسائيُّ وغيره وبمثل هذا السَّند لا يُستدلُّ في الأعمال فضلًا عن الاستدلال به في المُعتقد؛ وأمَّا ما أخرجه ابن خُزيمة في التَّوحيد فبلفظ آخَر زِيْدَ فيه كلمة إنقاذًا للمَوقف لكنَّ في سنده عِمران بن خالد وحاله أسوأ مِن أنْ يُقال إنَّه ضعيف بل هو مكشوف الأمر والرِّوايتانِ مُختلِفتانِ فلا تُجمعانِ ولا تُلفَّقانِ ولا يُنقَذ هذا الموقف بمثل ذلك التَّرقيع.. إلخ> انتهى. وفي هذا كفاية لمُستبصر مُسترشد. انتهى.
بيان كفر مَن استنطق الكافر بالكُفر ودفع شُبهة في سؤال الملكين
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله. وبعدُ فلا خِلاف بين المسلمين أنَّ الرِّضى بالكُفر كُفرٌ، فلو سأل رجلٌ كافرًا عن دينه وهو مُتيقِّن مِن أنَّ الكافر يجيبه بالكُفر: كَفَرَ السَّائلُ، وسبب ذلك أنَّ السَّائل استنطق المسؤولَ بالكُفر فيكون رضِيَ بكُفره. أمَّا لو كان السُّؤال مِن باب الإنكار أو التَّهكُّم أو التَّبكيت أو التَّوبيخ أو التَّقريع أو التَّعنيف أو نحو ذلك ممَّا لا يُراد منه جواب: فلا يكون كُفرًا؛ لأنَّه لم يشتمل على استنطاق بالكُفر فلا يكون رضًى بالكُفر.
دفع شُبهة [3]: سؤال القبر وزعم أهل الفتنة أن الملائكة تستنطق الكافر بالكفر في سؤالها له عن دينه، وقد أخطأوا؛ بل تسأله الملائكة عن اعتقاده الذي مات عليه لا عن اعتقاده عند السؤال. أما أن المرء "يبعث على ما مات عليه" فهذا في الحكم بكونه كافرا؛ لا أنه معتقد للكفر بعد الموت وقد انكشفت له الحقائق ورأى عاقبته بعينِ اليقين فيكون خرج من التلبس بإنكار الحق أو الشك فيه. أما قول أهل الفتنة: <ليس في جواب الكافر على سؤال الملائكة ظهور ندم> فهو من باب التخرصات وإلا فإن الكافر وقد تيقَّن عاقبةَ ضلاله وعاين ملائكة العذاب؛ لا يُتصوَّر في تلك الحال أنْ يكون آخذًا وقت السؤال بما كان عليه مِن كُفر في الدُّنيا؛ وقد قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (*) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ..} الآيات. أما قول الكافر <لا أدري> فلا يعني أنَّ الكافر بعد الموت لا يكون على حالة إقرار بالتَّصديق؛ بل لا يملك ألَّا أنْ يكون مُقِرًّا بالحقِّ يومئذ مُنكرًا لِمَا كان عليه في الدُّنيا مِن الكُفر؛ ولكنَّه يقول ما يقول مِن غير ضبط لسان لِمَا يُصيبه مِن فزع وخوف عظيم لأنَّه يُفيق والمَلَك الكريم قد انتهره بشدَّة فقد ورد في الحديث: <ملَكان شديدا الانتهار فينتهرانه> انتهى.
وقال إمامنا الهرريِّ في [الشَّرح القويم في حلِّ ألفاظ الصِّراط المُستقيم] ونصُّه: <فإنْ كان منافقًا قال: لا أدري، كنتُ أسمع النَّاس يقولون شيئًا فكنت أقوله، فيقولانِ له: إنْ كنَّا لنعلمُ أنَّك تقول ذلك، ثمَّ يُقال للأرض التئمي فتلتئم عليه حتَّى تختلف أضلاعُه فلا يزال مُعذَّبًا حتى يبعثه الله تعالى مِن مَضجعه ذلك> انتهى. وقال رحمه الله ورضي عنه: <الشَّرح: سؤال الملَكين للكافر (مَن ربُّك) وهما يعلمانِ أنَّه سيقول لا أدري لأنَّهما يعرفانِ أنَّه لا يقولُها عن اعتقاد إنَّما يقولها عن دهشة يقولُها عن سبقِ لسانٍ مِن شدَّة الفزع مِن غير ضبطِ لسانِه ولا يعتقد ذلك إنَّما يُخْبِرُ عمَّا مضى له في الدُّنيا. بعض النَّاس يستشكلون يقولون إذا كان لا يجوز أنْ يُقال للكافر "ما دينك" مع العلم بأنَّه سيجيب أنا يهوديٌّ أو مجوسيٌّ فكيف يجوز للملَكين في القبر أنْ يسألا الكافر وهما يعلمانِ أنَّه سيجيب "لا أدري". فالجواب: أنَّه يجيب مُخْبِرًا عمَّا كان يعتقده في الماضي قبلَ الموت مِن غير أنْ يعتقد الآنَ أنَّه حقٌّ وبهذا زال الإشكال> انتهى.
بيان كفر مَن استنطق الكافر بالكُفر ودفع شُبهة في قول سيِّدنا إبراهيم لقومه: ما تعبدون
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله. وبعدُ فلا خِلاف بين المسلمين أنَّ الرِّضى بالكُفر كُفرٌ، فلو سأل رجلٌ كافرًا عن دينه وهو مُتيقِّن مِن أنَّ الكافر يجيبه بالكُفر: كَفَرَ السَّائلُ، وسبب ذلك أنَّ السَّائل استنطق المسؤولَ بالكُفر فيكون رضِيَ بكُفره. أمَّا لو كان السُّؤال مِن باب الإنكار أو التَّهكُّم أو التَّبكيت أو التَّوبيخ أو التَّقريع أو التَّعنيف أو نحو ذلك ممَّا لا يُراد منه جواب: فلا يكون كُفرًا؛ لأنَّه لم يشتمل على استنطاق بالكُفر فلا يكون رضًى بالكُفر.
دفع شُبهة [4]: قول سيِّدنا إبراهيم لقومه: ما تعبدون. قال الله تعالى إخبارًا عن سيِّدنا إبراهيم: {إذ قالَ لأبيهِ وقومهِ ما تعبدونَ} وقال: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا}؛ وإبراهيم عليه السلام أراد بكلامه هذا أن يذمَّ قومه وأنْ يُوبِّخهم فلم يفهم أهل الفتنة المُراد وظنُّوا أنَّه سأل كي يُجيبوا والعياذ بالله مِن الكُفر. والصَّحيح أنَّه عليه السَّلام في الموضعَيْن أتى سُؤاله على وجه العيب والإنكار والتَّحقير. = ففي تفسير الآية الأُولى: قال القونويُّ في حاشيته على البيضاويِّ: <وحاصله أنَّ الاستفهام هنا للإنكار لا للإستعلام> انتهى. وقال الإيجيُّ: <أنكر عليهم عبادة الأصنام> انتهى. وقال القرطبيُّ: <وعيبه على قومه ما يعبدون وإنَّما قال ذلك ملزمًا لهم الحُجَّة> انتهى. وقال أبو حيَّان: <وما: استفهام بمعنى التَّحقير والتَّقرير> انتهى. = وفي تفسير الآية الثَّانية: وقال الخطيب الشربينيُّ: <استفهام توبيخ وتهجين لتلك الطَّريقة وتقبيحها> انتهى. وقال محمَّد أمين الأُرميُّ الشَّافعيُّ: <والاستفهام للتَّقرير المُضَمَّن للتَّوبيخ> انتهى. وقال البغويُّ: <استفهام توبيخ> انتهى. ومثلَهم قال أبو الحسن الواحديُّ ومحيي الدِّين شيخ زاده والرَّازيُّ والقرطبيُّ وآخرون.
فما أبعدكم يا أهل الفتنة عن فهم كتاب الله تعالى؛ وما أبعدكم عن تنزيه الأنبياء عليهم السَّلام عن المُوبقات والكُفر والكبائر؛ وما أبعدكم عن علم الدِّين الصَّحيح بشهادة ما نقلنا لكم مِن أقوال أهل التَّفسير في هذا المقال. انتهى.
بيان كفر مَن استنطق الكافر بالكُفر ودفع شُبهة في الكلام عن السُّؤال التَّفويضيِّ
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله. وبعدُ فلا خِلاف بين المُسلمين أنَّ الرِّضى بالكُفر كُفرٌ، فلو سأل رجلٌ كافرًا عن دينه وهو مُتيقِّن مِن أنَّ الكافر يجيبه بالكُفر: كَفَرَ السَّائلُ، وسبب ذلك أنَّ السَّائل استنطق المسؤولَ بالكُفر فيكون رضِيَ بكُفره. أمَّا لو كان السُّؤال مِن باب الإنكار أو التَّهكُّم أو التَّبكيت أو التَّوبيخ أو التَّقريع أو التَّعنيف أو نحو ذلك ممَّا لا يُراد منه جواب: فلا يكون كُفرًا؛ لأنَّه لم يشتمل على استنطاق بالكُفر فلا يكون رضًى بالكُفر.
دفع شُبهة [5]: كلام في السُّؤال التَّفويضيِّ وأشكل على أهل الفتنة شيء قرأوه في [الفقيه والمُتفقِّه] عن السُّؤال التَّفويضيِّ ولم يفهموه بل توهَّموا (والعياذ بالله مِن الضَّلال) أنَّ الأنبياء عليهم السَّلام يسألون الكافرَ عن دينه سُؤالًا بلا قيد؛ وهذا تكذيب للشَّريعة وهُو مردود عليهم بما جاء في كتاب الله عزَّ وجلَّ وبما أجمعت عليه الأُمَّة. ونحن نقول إنَّه يجوز للسَّائل أنْ يسأل الخصم: (ما تقول في كذا؟) ولو كُنَّا عارفين بحاله؛ ولكن لا نسأله لكي يُجيب بالكُفر بل نسأله بقصد الإنكار أو التَّهكُّم أو التَّبكيت أو التَّوبيخ أو التَّقريع أو التَّعنيف أو إقامة الحُجَّة عليه أو نحو ذلك ممَّا لا يُراد منه جواب كُفريٌّ. ولمَّا استدلَّ الخطيب البغداديِّ بقول الله تعالى: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا} وبقوله تعالى إخبارًا عن إبراهيم عليه السَّلام: {مَا تَعْبُدُونَ}؛ علمنا أنَّه أراد ما ظاهره التَّفويض وحقيقته الإنكار لأنَّ السُّؤال جاء في الآيتَين بقصد العيب والإنكار والتَّحقير؛ لا طلبًا للجواب. والمُؤمن لا يعتقد ما يُخالف قوله تعالى: {وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}؛ أمَّا أهل الفتنة فزعموا أنَّ إبراهيم عليه السَّلام سأل الكُفَّار ليُجيبوا بأنَّهم يكفُرون فجعلوا مِن خليل الله سفيهًا يُحرِّض النَّاس على قول الكُفر وهُو بريء ممَّا يفترون بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ}. انتهى.
بيان كفر مَن استنطق الكافر بالكُفر ودفع شُبهة في رواية ضعيفة عن عُمر رضي الله عنه
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله. وبعدُ فلا خِلاف بين المُسلمين أنَّ الرِّضى بالكُفر كُفرٌ، فلو سأل رجلٌ كافرًا عن دينه وهو مُتيقِّن مِن أنَّ الكافر يجيبه بالكُفر: كَفَرَ السَّائلُ، وسبب ذلك أنَّ السَّائل استنطق المسؤولَ بالكُفر فيكون رضِيَ بكُفره. أمَّا لو كان السُّؤال مِن باب الإنكار أو التَّهكُّم أو التَّبكيت أو التَّوبيخ أو التَّقريع أو التَّعنيف أو نحو ذلك ممَّا لا يُراد منه جواب: فلا يكون كُفرًا؛ لأنَّه لم يشتمل على استنطاق بالكُفر فلا يكون رضًى بالكُفر.
دفع شُبهة [6]: احتجاجُ أهل الفتنة برواية ضعيفة عن عُمر رضي الله عنه وأشكل على أهل الفتنة خبر ضعيف يُروى عن سيِّدنا عُمر رضي الله عنه ولا يصحُّ؛ وفيه أنَّه رضي الله عنه سأل كتابيًّا مِن أيِّ أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي.. إلخ، فهذه من رواية الآحاد لا يُحتجُّ بها في العقائد. ولم يروِها إلَّا أبو بكر العبسيُّ ولم يروِ عنه إلَّا عُمر بن نافع وفي هامش سُنن سعيد بن منصور: هو عُمر بن نافع الثَّقفيُّ كوفيٌّ ضعيف قال ابن معين ليس حديثه بشيء وضعَّفه أبو زرعة الرَّازيُّ وذكره السَّاجي وابن الجارود في الضُّعفاء. وهذا الأثر نقله ابن زنجوَيه في كتاب الأموال بسند ضعيف عن عُمر بن نافع وليس فيه أنَّ عُمر سأله مِن أيِّ أهل الكتاب أنتَ! فانظروا كيف يحتجُّون في أمر عقائديٍّ بالغ الأهميَّة بالضَّعيف والمتروك مِن رواية آحاد قرأوها في كتاب ليس لهم إليه سند ولا اتِّصال. ثُمَّ إنَّ أهل الفتنة لم يفهموا المسألة حتَّى يومنا هذا؛ وهذه الرِّواية حتَّى لو ثبتت فليس فيها أنَّ سيِّدنا عمر سأل الكتابيَّ طلبًا لجواب معلوم عنده يقينًا؛ ولعلَّه سأل تعجُّبًا (وهذا ليس فيه طلب جواب) أو أراده أنْ يسكت. أمَّا قول أهل الفتنة إنَّ مُجرَّد رواية أبي يوسف للخبر يعني أنَّه يستحسنه! فهذا قول ابتدعه يوسف ميناوي في أُصول الدِّين وعلم المُصطلح. ولا حاجة لتكلُّف ردِّه فأهل الإسلام على عدم الاحتجاج بالضَّعيف في العقائد. فالعالم قد يروي أحيانًا أشياء ولا يُنبِّه إليها والطَّبرانيُّ روى ما نصُّه: "لمَّا قضى خلقه استلقى فوضع إحدى رجليه على الأُخرى" ولم ينبِّه إلى شيء. فهل كان الطَّبرانيُّ يستحسن ذلك! نعوذ بالله مِن أفهام أهل الفتنة. انتهى
بيان كفر مَن استنطق الكافر بالكُفر ودفع شُبهة في رواية ضعيفة عن عليٍّ رضي الله عنه
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله. وبعدُ فلا خِلاف بين المُسلمين أنَّ الرِّضى بالكُفر كُفرٌ، فلو سأل رجلٌ كافرًا عن دينه وهو مُتيقِّن مِن أنَّ الكافر يجيبه بالكُفر: كَفَرَ السَّائلُ، وسبب ذلك أنَّ السَّائل استنطق المسؤولَ بالكُفر فيكون رضِيَ بكُفره. أمَّا لو كان السُّؤال مِن باب الإنكار أو التَّهكُّم أو التَّبكيت أو التَّوبيخ أو التَّقريع أو التَّعنيف أو نحو ذلك ممَّا لا يُراد منه جواب: فلا يكون كُفرًا؛ لأنَّه لم يشتمل على استنطاق بالكُفر فلا يكون رضًى بالكُفر.
دفع شُبهة [7]: احتجاجُ أهل الفتنة برواية ضعيفة عن عليٍّ رضي الله عنه وتمسَّك أهل الفتنة برواية ضعيفة عن سيِّدنا عليٍّ وفيها أنَّ عليًّا رضي الله عنه سأل المُستورِد -وكان مُسلمًا فتنصَّر- عن دينه وأنَّه ترك ماله لورثته المُسلمين ويكفي لمعرفة كونها ضعيفة قول البيهقيِّ في السُّنن الكُبرى: <عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ ضَعَّفَ الْحَدِيثَ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مِيرَاثَ الْمُرْتَدِّ لِوَرَثَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ> انتهى. وروى الحديث جماعة فلم يوجد أنَّه سأله عن دينه: لا في رواية شعُبة عن سِماك. ولا في رواية سُفيان مِن طريق سُليمان عن أبي عمرو الشَّيبانيِّ. ولا في رواية أبي مُعاوية مِن طريق الأعمش عن أبي عمرو كذلك. ولا في رواية عبدالملك بن عُمَير. بل جاءت كلُّها خالية مِن أنَّه سأله عن دينه. وإنَّما تفرَّد بذلك شَرِيك وهو مُتكلَّمٌ فيه وليس بأحفظ منهم كما بيَّن ذلك الحُفّاظ أهل الجرح والتَّعديل. وقرأ رأسُ الفتنة قولَ البيهقيِّ: <جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ لِخَصْمِهِ ثَابِتًا> فتوهَّم الجاهل أنَّ الشَّافعيَّ صحَّح رواية شَرِيك، والصَّواب أنَّ الإمام الشَّافعيَّ لو ثبت عنده لَعمل به لكنه ترك العمل به، وقال: <قَدْ يَزْعُمُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْكُمْ أَنَّهُ غَلَطٌ> و: <مِنْكُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْحُفَّاظَ لَمْ يَحْفَظُوا عَنْ عَلِيٍّ (فَقَسَمَ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ) وَنَخَافُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي زَادَ هَذَا غَلِطَ> انتهى. فلو صحَّحه لَمَا ترك العمل به؛ ثُمَّ لو صحَّحه فأين الدَّليل أنَّه أراد تصحيح رواية شَرِيك وليس أيَّ رواية مِن الرِّوايات الباقية وليس فيها أنَّه سأله عن دينه. فبُهت رأس الفتنة. انتهى
بيان كفر مَن استنطق الكافر بالكُفر وأنَّ الرِّضَى في الأُصول هو الأخذ بالشَّيء
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله. وبعدُ فلا خِلاف بين المُسلمين أنَّ الرِّضى بالكُفر كُفرٌ، فلو سأل رجلٌ كافرًا عن دينه وهو مُتيقِّن مِن أنَّ الكافر يجيبه بالكُفر: كَفَرَ السَّائلُ، وسبب ذلك أنَّ السَّائل استنطق المسؤولَ بالكُفر فيكون رضِيَ بكُفره. أمَّا لو كان السُّؤال مِن باب الإنكار أو التَّهكُّم أو التَّبكيت أو التَّوبيخ أو التَّقريع أو التَّعنيف أو نحو ذلك ممَّا لا يُراد منه جواب: فلا يكون كُفرًا؛ لأنَّه لم يشتمل على استنطاق بالكُفر فلا يكون رضًى بالكُفر.
دفع شُبهة [8]: ويقول أهل الفتنة: إنَّ الكافر قد يقول لك إنَّه كافر دون أنْ يكون على رضًى بذلك. ويقولون: كيف نُكفِّره وجوابه خبر صادق!؟ والجواب عندما نتكلَّم في الأُصول؛ فإنَّ الرِّضى بالكُفر هو الأخذ به وتقريره ولا يُشترط فيه الفرح والسُّرور والابتهاج والحُبور؛ بل مُجرَّد قوله (أنا كافر) معناه أنَّه آخِذٌ بالكُفر وأنَّه مُقرِّرٌ أنَّ الكُفر حقٌّ والعياذ بالله؛ فيكون رضي بالكُفر الَّذي هو عليه ولو قال إنَّه يكره أنَّه على الكُفر، فانتبه. ويكفُر لو قال: (أنا مجوسيٌّ) وإنْ كان خبرًا صادقًا لأنَّ معناه أنَّه يأخذ بالمجوسيَّة ويرى أنَّها حقٌّ؛ ويكفُر لو قال: (أنا أجحد وُجود الله) مع أنَّ كلامه خبر صادق عن اعتقاده الإلحاد؛ ويكفُر لو قال: (أنا أُكذِّب مُحمَّدًا) وإنْ كان صادقًا فيما يُخبر به لأنَّ معناه أنَّه يرى نبيَّنا كاذبًا والعياذ بالله. والخُلاصة أنَّ إخبار الكافر بأنَّه كافر؛ اشتمل على تقرير الأخذ بالكُفر عنده والعياذ بالله؛ وذلك يتضمَّن الأخذ بأنَّ الكُفر حقٌّ وأنَّ الإسلام باطل وأنَّ القُرآن كذب وأنَّ مُحمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم كاذب! والعياذ بالله. فإذَا لم يكن كُلُّ هذا كُفرًا بالله فما هُو الكُفر عند أهل الفتنة إذن. فلو قال أنا نصرانيٌّ فمعناه يقول أنا أقول بما تقول به النَّصارى والنَّصارى يقولون عيسى ابن الله! وفي الحديث القدسيِّ (شتمني عبدني وأمَّا شتمُه إيَّايَ فقوله اتَّخذ الله ولدًا وأنا الأحد الصَّمد لم ألد ولم أُولد).. الحديث.. وبهذا يتأكَّد بُطلان شُبُهات أهل الفتنة عليهم مِن الله ما يستحقُّون. انتهى
بيان كفر مَن استنطق الكافر بالكُفر وبيان أنواع السُّؤال وضُروبه
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله. وبعدُ فلا خِلاف بين المُسلمين أنَّ الرِّضى بالكُفر كُفرٌ، فلو سأل رجلٌ كافرًا عن دينه وهو مُتيقِّن مِن أنَّ الكافر يجيبه بالكُفر: كَفَرَ السَّائلُ، وسبب ذلك أنَّ السَّائل استنطق المسؤولَ بالكُفر فيكون رضِيَ بكُفره. أمَّا لو كان السُّؤال مِن باب الإنكار أو التَّهكُّم أو التَّبكيت أو التَّوبيخ أو التَّقريع أو التَّعنيف أو نحو ذلك ممَّا لا يُراد منه جواب: فلا يكون كُفرًا؛ لأنَّه لم يشتمل على استنطاق بالكُفر فلا يكون رضًى بالكُفر.
دفع شُبهة [9]: وبيان أنَّه ليس كُلُّ سُؤال يُراد منه جواب أنواع السُّؤال وضروبه فقد عدَّ بعض المُصنِّفين أنواع السُّؤال وضروبه؛ فقال: الأوَّل: الإنكار. الثَّاني: التَّوبيخ. الثَّالث: وهو حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقرَّ عنده. الرَّابع: التَّعجب أو التَّعجيب. الخامس: العتاب. السَّادس: التَّذكير. السَّابع: الافتخار. الثَّامن: التَّفخيم. التَّاسع: التَّهويل والتَّخويف. العاشر: التَّسهيل والتَّخفيف. الحادي عشر: التَّهديد والوعيد. الثَّاني عشر: التَّكثير. الثَّالث عشر: التَّسوية. الرَّابع عشر: الأمر. الخامس عشر: التَّنبيه. السَّادس عشر: التَّرغيب. السَّابع عشر: النَّهي. الثَّامن عشر: الدُّعاء. التَّاسع عشر: الاسترشاد. العشرون: التَّمني. الحادي والعشرون: الاستبطاء. الثَّاني والعشرون: العرض. الثَّالث والعشرون: التَّحضيض. الرَّابع والعشرون: التَّجاهل. الخامس والعشرون: التَّعظيم. السَّادس والعشرون: التَّحقير. السَّابع والعشرون: الاكتفاء. الثَّامن والعشرون: الاستبعاد. التَّاسع والعشرون: الإيناس. الثَّلاثون: التَّهكم والاستهزاء. الحادي والثلاثون: التَّأكيد. الثَّاني والثلاثون: الإخبار. انتهى كلامه بحروفه. ولعلَّه لم يستقصِ، فتأمَّل -أخي القارئ- كيف أنَّ الكثير مِن أنواع السُّؤال لا يُراد منها جواب؛ ولذلك قال إمامنا الهرريُّ رحمه الله ورضي عنه: <مُجرَّد السُّؤال ليس كُفرًا> انتهى لأنَّ السَّائل رُبَّما لم يُرد مِن المسؤول أنْ يُجيب بالكُفر فلا يكفُر السَّائل بهذه الحالة؛ ويكفُر المسؤول لو أجاب بكُفر. فمتى يكفر السَّائل؟ يكفر السَّائل إنْ كان مُتيقِّنًا أنَّ المسؤول يُجيب بالكُفر ومع ذلك سأله؛ يكفُر لأنَّ سُؤاله له بهذه الحالة هو طلب أنْ يُجيب بالكُفر فهُو استنطاق للمسؤول بالكُفر فيكفُر السَّائل.. وهذا بالتَّحديد ما حذَّرْنا منه ونبَّهنا المُسلمين إلى ترك الخوض فيه، والله الهادي سُبحانه. انتهى
بيان كفر مَن استنطق الكافر بالكُفر وذكر نقول بعض أهل السُّنَّة والجماعة في هذا الباب
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله. وبعدُ فلا خِلاف بين المُسلمين أنَّ الرِّضى بالكُفر كُفرٌ، فلو سأل رجلٌ كافرًا عن دينه وهو مُتيقِّن مِن أنَّ الكافر يجيبه بالكُفر: كَفَرَ السَّائلُ، وسبب ذلك أنَّ السَّائل استنطق المسؤولَ بالكُفر فيكون رضِيَ بكُفره. أمَّا لو كان السُّؤال مِن باب الإنكار أو التَّهكُّم أو التَّبكيت أو التَّوبيخ أو التَّقريع أو التَّعنيف أو نحو ذلك ممَّا لا يُراد منه جواب: فلا يكون كُفرًا؛ لأنَّه لم يشتمل على استنطاق بالكُفر فلا يكون رضًى بالكُفر.
ذكر نقول بعض أهل السُّنَّة والجماعة في هذا الباب
قال المُلَّا عليِّ القاري في شرح [رسالة في المُكفِّرات للحنفيِّ بدر الرَّشيد المُتوفَّى 768ه]: <وفي المُحيط وفتاوى الصُّغرى أيضًا: مَن لقَّن غيره كلمة الكُفر ليتكلَّم بها كفر المُلقِّن، وإنْ كان على وجه اللَّعب والضَّحك> انتهى. وقال: <قلتُ: فما يُحكى أنَّ مالكيًّا أو شافعيًّا رجع إلى بلده بعد تحصيل بعض الفقه في مذهبه، فكُلَّما سُئل عن مسألة فقال: فيها وجهانِ لمالك؛ أو قولانِ للشَّافعيِّ رحمه الله، فقال له قائل: أفي الله شكٌّ؟ فقال: فيه الوجهانِ أو القولانِ فكفَّروه، فيُحكم بكُفر مُلقِّنه أيضًا حيث رضيَ بكُفره، بناء على غلبة ظنِّه أنَّه يتفوَّه بقول ما يُوجب كُفره> انتهى. ولاحظ قوله: <فيُحكم بكُفر مُلقِّنه أيضًا حيث رضيَ بكُفره، بناء على غلبة ظنِّه أنَّه يتفوَّه بقول ما يُوجب كُفره> لتعلم أنَّ مَن سأل كافرًا عن دينه -وغالب ظنِّه أنَّ المسؤول يُجيب بالكُفر- يكفُر -أي السَّائل كذلك-. وقال الحافظ مُحمَّد مُرتضى الزَّبيديُّ في شرح الإحياء: <ومَن أراد مِن خلق الله أنْ يكفروا بالله فهو لا محالة كافر> انتهى.
ومَن سأل كافرًا عن دينه وهو مُتيقِّن أنَّه يُجيب بالكُفر فقد أراد مِن خلق الله أنْ يكفُروا فيكفُر والعياذ بالله. وقال: <وعلى هذا يُخرَّج قوله تعالى: {ولا تسبُّوا الَّذين يدعون مِن دون الله فيسبُّوا اللهَ عدوًا بغير علم}، ثم إنَّه مَن سبَّ أحدًا منهم على معنى ما يجد له مِن العداوة والبغضاء قيل له: أخطأت وأثمت؛ من غير تكفير، وإنْ كان إنَّما فعل ذلك ليسمع سبَّ الله وسبَّ رسوله فهو كافر بالإجماع> انتهى. وجاء في البريقة المحموديَّة في شرح الطَّريقة المُحمَّديَّة نقلًا عن التَّاترخانيَّة أنَّ أبا حنيفة رأى ابنه حمَّادًا يناظر في الكلام فنهاه، فقالوا رأيناك تناظر فيه؛ وتنهانا عنه، فقال: كنَّا نناظر؛ وكأنَّ على رؤوسنا الطَّير مَخافة أنْ يزلَّ صاحبنا، وأنتم تناظرون وتريدون زلَّة صاحبكم، ومَن أراد أنْ يزلَّ صاحبه فقد أراد أنْ يكفرَ صاحبه، ومَن أراد أنْ يكفر صاحبه فقد كفرَ قبل أنْ يكفر صاحبه. انتهى.
وهذا لا ينبغي أنْ يُوهم أنَّ حمَّادًا وقع في الكُفر كما يُفكِّر المُوسوسون؛ بل قول أبي حنيفة "وأنتم تناظرون وتريدون زلَّة صاحبكم" معناه يُخشى عليكم مِن الوُقوع في هذا وهُو كُفر إنْ فعلتُم؛ فتنبَّهوا. وقال الأُصوليُّ الشَّيخ سمير بن سامي القاضي في [جلاء الفوائد من ثنايا القواعد]: <ويلتحقُ بالأمرِ ما يحصُلُ أحيانًا مِنْ أنَّ الشَّخصَ يسألُ الكافرَ سُؤالًا وهو مُتيقِّنٌ مِنْ أنَّهُ سيُجيبُ بالكُفرِ فيكفرُ بذلكَ لأنَّ سُؤالَه في الحقيقةِ هو طلبُ جوابٍ منهُ وهو يعلمُ أنَّ جوابَهُ كُفرٌ فكأنَّهُ يقولُ لهُ اكفُرْ. وأمَّا السَّؤالُ الإنكاريُّ ونحوُه ممَّا لا يُطلَبُ بهِ جوابٌ كفرٌ مِن المَسئولِ فلا يدخُلُ تحتَ الحكمِ المُتقدِّمِ> انتهى.
وفي هذا القدر كفاية لمُسترشد والحمدلله الَّذي هدانا إلى هذا؛ فخسئ المُتصولح الكذَّاب وفاز لو أناب والله الهادي إلى الأسباب. نهاية المقال.
مُناظرة بين قول السُّنِّيِّ وبين قول المُخالف في بيان كُفر مَن جَرَّ غيرَه إلى الكُفر
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
القاعدة يقول السُّنِّيُّ: وبعدُ قال الله تعالى: {ولاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ}. وقال الزَّبيديُّ: <ومَن أراد مِن خلق الله أنْ يكفروا بالله فهُو لا محالة كافر> وقال: <وإنْ كان إنَّما فعل ذلك ليسمع سبَّ اللهِ وسبَّ رسولِه فهو كافر بالإجماع>. وقال الشَّيخ سمير القاضي: <ويلتحقُ بالأمرِ ما يحصُلُ أحيانًا مِنْ أنَّ الشَّخصَ يسألُ الكافرَ سُؤالًا وهو مُتيقِّنٌ مِنْ أنَّهُ سيُجيبُ بالكُفرِ فيكفُرُ بذلكَ لأنَّ سُؤالَه في الحقيقةِ هو طلبُ جوابٍ منهُ وهُو يعلمُ أنَّ جوابَهُ كفرٌ فكأنَّهُ يقولُ لهُ اكفُرْ> انتهى.
فمَن سأل كافرًا عن دينه (إنْ تيقَّن أنَّه يُجيب بالكُفر) كفَر؛ ولا يكفُر (لو ظنَّه يسكُت أو يُجيب بغير الكُفر)؛ وقوله "أنا كافر" أو "مجوسيٌّ" أو "أعبد الصَّنم" يشتمل على تقرير الأخذ بالكُفر وهذا كُفر والعياذ بالله. وفيما يلي خُلاصة ما جرى بين أهل السُّنَّة وبين المُخالفين الَّذين زعموا أنَّ الأنبياء والملائكة يستنطقون الأحياء والأموات بالكُفر! والعياذ بالله.
النُّقطة الأُولى - يقول المُخالف: كيف تُكفِّرون مَن سأل الكافر: ما دينُك؟
يقول السُّنِّيُّ: نحن لا نُطلق تكفير مَن سأل الكافر: "ما دينُك؟" إلَّا لو كان السَّائل مُتيقِّنًا أنَّ المسؤول يُجيبه بأنَّه كافر أو بأيِّ جواب آخَر يكون كُفرًا فهذا يكون استنطاقًا له بالكُفر فيكفُر السَّائل والمسؤول بهذه الحالة.
النُّقطة الثَّانية - يقول المُخالف: ألم يرد أنَّ النَّبيَّ سأل الحُصين: "كم تعبُد إلهًا؟"؟
يقول السُّنِّيُّ: هذا خبر غير صحيح فلا يُحتجُّ به. قال الكوثريُّ في هامش [السَّيف الصَّقيل] عن سند هذه الرِّواية: <وبمثل هذا السَّند لا يُستدلُّ في الأعمال فضلًا عن الاستدلال به في المُعتقد> انتهى.
النُّقطة الثَّالثة - يقول المُخالف: ألم يرد أنَّ النَّبيَّ سأل عديًّا: "ألستَ ركوسيًّا؟"؟
يقول السُّنِّيُّ: الرِّواية بهذه الحُروف لم تصحَّ فلا يُحتجُّ بها. وفوق ذلك فالسُّؤال فيها لم يكن طلبًا للجواب بل كان تقريريًّا فكأنَّ النَّبيَّ قال: أنا أعلم بدينك منك بدليل أنَّك ركوسيٌّ فالمُراد أنْ ينقطع عديٌّ لا أنْ يُجيب.
النُّقطة الرَّابعة - يقول المُخالف: ألم يقُل عُمر ليهوديٍّ: "مِن أيِّ أهل الكتاب أنت؟"؟
يقول السُّنِّيُّ: الخبر لم يروه إلَّا عُمر بن نافع وقد ضعَّفه الحُفَّاظ فالرِّواية ضعيفة وكذلك لا يُستدل برواية الواحد في المُعتقد؛ وحتَّى لو ثبت فليس فيه أنَّه كان مُتيقِّنًا أنَّه يُجيب بالكُفر فلعلَّه سأل تعجُّبًا أو أراده أنْ يسكُت.
النُّقطة الخامسة - يقول المُخالف: أليس مُجرَّد رواية أبي يوسف للخبر يعني أنَّه يستحسنه؟
يقول السُّنِّيُّ: هذا قول ابتدعه يوسف ميناوي لا أظنُّه سُبق إليه! الطَّبرانيُّ روى: "لمَّا قضى خلقه استلقى فوضع إحدى رجليه على الأُخرى" ولم ينبِّه إلى شيء. فهل كان الطَّبرانيُّ يستحسن ذلك! نعوذ بالله.
النُّقطة السَّادسة - يقول المُخالف: ألم يأتِ في [الفقيه والمتفقِّه] يجوز السُّؤال التَّفويضيُّ؟
يقول السُّنِّيُّ: ما في [الفقيه والمُتفقِّه] يُحمل في مُخاطبة الكافر على مَا ظاهره التَّفويض وحقيقتُه الإنكار وهو ما مثَّل به المُصنِّف مِن قوله إخبارًا عن إبراهيم: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا}.
النُّقطة السَّابعة - يقول المُخالف: أليس الملكان يسألان الكافر عن دينه ويعلمان جوابه؟
يقول السُّنِّيُّ: يعلمان أنَّه يقول لا عن اعتقاد إنَّما دهشة مِن شدَّة الفزع ثمَّ يُجيب عمَّا كان يعتقده قبلَ الموت مِن غير اعتقاد أنَّه حقٌّ وبهذا زال الإشكال. وبنحو هذا أجاب الإمام الهرريُّ في [الشَّرح القويم].
النُّقطة الثَّامنة - يقول المُخالف: فما تقولون في الآية: {ما تعبدون}؟
يقول السُّنِّيُّ: قال القونويُّ في حاشيته على البيضاويِّ: <وحاصله أنَّ الاستفهام هنا للإنكار لا للإستعلام> وبنحوه قال الإيجيُّ والقرطبيُّ وأبو حيَّان وسائر المُفسِّرين فلم يقل واحد منهم أنَّه سأل كي يُجيبوا.
خاتمة: ولو كان للخصم دليل واحد ثابت صحيح لَمَا احتجَّ بالضَّعيف الَّذي لا يُعمَل به في الفُروع الفقهيَّة ولا في فضائل الأعمال فما بالُك في الأمور الاعتقاديَّة العظيمة فثبت أنَّ أهل الفتنة قوم بُهت زائغون لا يعرفون الحقَّ. فكيف -ولا دليل أو بيَّنة بين أيديهم- يزعمون أنَّ الأنبياء والملائكة يستنطقون الأحياء والأموات بالكُفر والعياذ بالله مِن هذا البُهتان العظيم لولا أنَّهم قوم يتجرَّأون على الله وعلى أنبياء الله والعياذ بالله من الزَّيغ. فاعلم أخي القارئ أنَّ مِن الكُفر أنْ تسأل الكافر عن دينه وأنتَ تعلم أنَّه يُجيبك بأنَّه كافر أو أنَّه يُجيبك بجواب آخَر مشتمل على الكُفر أو على تقريره أو الأخذ به.. ولا تلتفت إلى جَهَلَة العامَّة الَّذين أباحوا الكُفر. نهاية المقالات بهذا العنوان.
خلاصة
- الكافرُ إنْ قال أنا كافر يزدادُ كفرًا لأنه بقولهِ أنا كافر يكون رضي بالكفر.
- بعضُ الجهلةِ يظنون أن الرضى بالكفر هو السرور والفرح والبهجة به فإذا انتفت هذهِ الأشياء يظنون أن الكافر لا يكون رضي بالكفر لكونهم جهلة يظنون ذلك.
- الرضى هُنا هو الأخذ والقبول فلما قال الكافر عن نفسه (أنا كافر) يكون حصل عنده الأخذ والقبول بالكفر الذي هو عليه لذلك يزداد الكافرُ كفرا إذا قال (أنا كافر) أو (أنا نصراني) أو (أنا يهودي) أو (أنا ملحدٌ أنكرُ وجود الله) لأنه في كل هذه الحالات يكون رضي بما هو عليه من الكفر أي أخذ بالكفر وقَبِلَ به لأن الرضا بالكفر هو أن يأخذ بالكفر وأن يقبله.
- ويكفر سائلُ الكافرِ عن دينهِ إذَا كان يعلمُ أن المسؤول يُجيبُ بالكفرِ. أي إذَا كان مُتَيَقِّنًا أن الكافرَ سيُجيب بالكفر أي إذا علم أنه يجيب قائلا: (أنا كافر) أو (نصراني) أو (يهودي) أو (أنا ملحد).
- أما إن لم يعرف السائلُ الجوابَ؛ إن لم يعرف أن المسؤول يجيبُ بالكفر فلا يكون سؤالهُ كفرا. لماذا لا يكفر السائل بهذه الحالة؟ لأنه لا يكون رضي للكافر أن ينطق بالكفر. إذا هناك أحوال أربعة ما هي:
1. فإذا سأل السائلُ مَن لا يعرفُ دينَهُ ما دينكَ؟ لا يكفر لأنه ليس متيقنا من الجواب. ولا يأثم لأنه لا يعرف أنه كافر.
2. أما إذا سأل مسلمٌ كافرًا عن دينهِ وكان يظنُهُ لا يجيبُ كان يظنهُ لا يقول (أنا كافر) كان يظنُهُ يسكت لا يكفر السائل.
3. أما إذا سأل مسلمٌ كافرًا عن دينهِ وكان يعلمُ أنه يجيبُ بالكفر كفر السائل. إذا كان السائل متيقنا أن السائلَ يُجيبُ بالكفر كفر السائل. ما معنى إذا كان متيقنا هنا؟ الجواب: معناه إذا غلب على ظنهِ أنه يكفر.
4. فإذا سأل مسلمٌ كافرًا وهو لا يعرف نوع كُفره: هل أنت ملحد؟ فلا يكفر السائلُ لأنه لا يعلمُ أن المسؤول سيقول (نعم أنا ملحد). وهذا معنى قول شيخنا: (مجرد السؤال ليس كفرًا). ونحن في الأصل ما قلنا إن مجرد السؤال يكون كفرًا بل قلنا إن سأل وهو متيقنٌ أن المسؤول يُجيبُ بالكفرِ كفر. ما معنى (مجرد السؤال)؟ الجواب: أي بدون أن يقترن بمعرفةِ أنَّ المسؤول يُجيبُ بالكفر. ولذلك لا يكفرُ من سأل كافرًا لا يعرف نوع كفره: (هل أنت نصراني؟) لأنه لا يعرفُ جوابه. لا يعرف أنه يقول (أنا نصراني) بل احتمل عندهُ أن يقول لا لستُ نصرانيا ثم يسكت.
مختصر مسألة سُؤال الكافر عن دينه
1 الكافرُ إنْ قالَ: (أنا كافرٌ) أو (مجوسيٌّ) أو (مُلحدٌ) يزدادُ كُفرًا إلى كُفرِهِ والعياذُ باللهِ تعالى؛ لأنَّهُ بقولِهِ هذا يكونُ رضيَ بالكُفرِ الَّذي هُو عليهِ.
2 والرِّضى بالكُفرِ معناهُ الأخذُ بالكُفرِ ومعناهُ القَبولُ بِهِ. هذا تعريفُ الرِّضى في مسائلِ الأُصولِ. ولا يُشترَطُ فيهِ استشعارُ الفرحِ والبهجةِ والسُّرورِ.
3 ويكفُرُ مَنْ يسألُ الكافرَ عن دينِهِ إذَا كانَ مُتَيَقِّنًا أنَّ المسؤولَ يُجيبُ بالكُفرِ كأنْ علمَ أنَّهُ يُجيبُ قائلًا: (أنا كافرٌ) أو (مجوسيٌّ) أو (مُلحدٌ) أو نحوُهُ.
4 ويكفُرُ مَنْ يسألُ الكافرَ عن دينِهِ إذَا كانَ مُتَيَقِّنًا أنَّ المسؤولَ يُجيبُ بالكُفرِ؛ لأنَّ سُؤالَهُ مع معرفةِ الجوابِ طلبٌ مِنَ المسؤولِ أنْ ينطِقَ بذلكَ الجوابِ.
5 ومعنى (أنَّه كانَ مُتَيَقِّنًا أنَّ المسؤولَ يُجيبُ بالكُفرِ) أي بالبناءِ على غَلَبَةِ الظَّنِّ لا على معنى اليقينِ القطعيِّ الَّذي لا يكونُ إلَّا لمَنْ يعلمُ الغَيبَ.
6 ولو سألَ مُسلمٌ كافرًا عن دينِهِ وكانَ يظنُّهُ يسكتُ فلا يُجيبُ؛ فلا يكفُرُ السَّائلُ لأنَّهُ لا يكونُ رضيَ للمسؤولِ بالكُفرِ ولا طلبَ مِنَه أنْ يزدادَ كُفرًا.
7 كذلكَ إنْ لم يعرفِ السَّائلُ دِينَ المسؤولِ؛ فلا يكونُ سُؤالُهُ كُفرًا، لأنَّهُ لا يكونُ رضيَ لهُ بالكُفرِ ولا يكونُ كمَنْ طلبَ مِنَ المسؤولِ أنْ ينطِقَ بالكُفرِ.
8 بخلافِ ما لو علمَ أنَّ المسؤولَ كافرٌ، فيكفُرُ إنْ كانَ مُتَيَقِّنًا أنَّ المسؤولَ يُجيبُ بالكُفرِ؛ ولا يكفُرُ إنْ لم يعلَمْ أنَّ المسؤولَ يُجيبُ بالكُفرِ ولكنَّه يأثمُ.
9 وإذَا سألَ مُسلمٌ كافرًا لا يعرفُ نوعَ كُفرِهِ: (هل أنتَ مُلحِدٌ؟) لا يكفُرُ لأنَّ المسؤولَ قد يُجيبُ بـ(لا) فلا يكفُر بجوابِهِ؛ ولا يكونُ السَّائلُ رضيَ له بالكُفرِ.
10 ولا يكفُرُ المُسلمُ إذَا سألَ كافرًا لا يعرفُ نوعَ كُفرِهِ: (هل أنتَ مُلحدٌ؟) لأنَّه هُنا لنْ يكونَ مُتيقِّنًا أنَّ المسؤولَ يكفُرُ في جوابِهِ لاحتمالِ أنْ يُجيبَ بـ(لا).
11 وقولُنا: (إنَّ مُجرَّد السُّؤالِ ليسَ كُفرًا) معناهُ بدونِ أنْ يقترنَ السُّؤالُ بمعرفةِ أنَّ المسؤولَ يُجيبُ بالكُفرِ، لأنَّ السَّائلَ بهذهِ الحالِ لا يكونُ رضيَ بالكُفرِ. انتهى.
|