بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله. وبعدُ فهذا المقال [المُفيد في فهم مسألة العصمة عند أهل السُّنَّة والجماعة] بعبارة سهلة بإذن الله تعالى لينتفع بها كُلُّ قارئ في تمييز مذهبنا عن مذاهب المُبتدعة سائلًا المَولى التَّوفيق؛ إنَّه سُبحانه سميع الدُّعاء.
*الأنبياء أعظم الخلق*
اِعلَمْ أخي القارئ أنَّ الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامُه- هُم أفضل الخلق وأطهرُهم وأعلاهم وأتقاهم وأرفعُهم منزلة ودرجة عند الله تعالى؛ وأنَّ محبَّتهم واجبة في شرعنا؛ وأنَّ سيِّدنا مُحمَّدًا أفضلُهم على الإطلاق.
*شتم الأنبياء كفر*
واعلَمْ أخي أنَّ تنقيص الأنبياء كُفر مُخرج مِن الملَّة؛ فمَن شتم نبيًّا أو سبَّه أو عابه -أو ذكر معصيته بقصد سبِّه أو شتمه أو ذمِّه أو الطَّعن به-؛ فإنَّ كُلَّ ذلك مِن الكُفر المُخرج مِن الملَّة والعياذ بالله تعالى.
*الإجماع على عصمة الأنبياء*
وأجمعتِ الأُمَّة على أنَّ الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامُه- لهُم عصمة مِن الكُفر والكبائر والصَّغائر ذات الخسَّة والدَّناءة قبل النُّبُوَّة وبعدها؛ فمَن ذمَّهُم أو نسب إليهم الخبائث والخسائس لا يكون مُسلمًا.
*الإجماع أنَّ الصَّغائر المُنفِّرة لا تقع مِن الأنبياء*
والإجماع مُنعقد على عصمة الأنبياء مِن كُلِّ (صَغِيرَةٍ أَدَّتْ إِلَى إِزَالَةِ الحِشْمَةِ وَأَسْقَطَتِ المُرُوءَةَ وَأَوْجَبَتِ الإِزْرَاءَ وَالخَسَاسَةَ؛ فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُعْصَمُ عَنْهُ الأَنْبِيَاءُ إِجْمَاعًا) كما أوضح عياض في [الشِّفا].
*محلُّ اختلاف العُلماء في العصمة*
أمَّا في الصَّغائر غير ذات الخسَّة -وهي صغائر غير مُنفِّرة- فقد اختلف العُلماء في عصمة الأنبياء منها إلى فريقَين؛ فقال الأكثرُ: دلَّ الدَّليل الشَّرعيُّ أنَّها وقعت منهُم. وقال الأقلُّ: بل هُم معصومون منها.
*اختلاف العُلماء في تفسير القُرآن*
ولهذا اختلف العُلماء في تفسير آيات تتعلَّق مسألة العصمة بمعانيها كقوله تعالى: {وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ} وكقوله تعالى في حقِّ سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}.
*بيان معنى المعصية الحقيقيَّة*
فقال أكثر العُلماء: إنَّ معنى الآيات على ظاهرها؛ محمولة على الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة. والذَّنب حقيقته الشَّرعيَّة: (الْإِثْمُ وَالْجُرْمُ وَالْمَعْصِيَةُ) كما بيَّن ابن منظور في [لسان العرب].
*بيان المعصية المجازية*
وأجاب بعض العُلماء فقالوا بل المُراد ترك الأَوْلى والأفضل؛ وقد سُمِّي معصية وقيل ذنبًا لأجل عُلُوِّ مقام الأنبياء والمُراد مجازيٌّ والمعنى أنَّه بالنِّسبة لعُلُوِّ مقامهم كالمعصية بالنِّسبة لسائر النَّاس.
*شرح قول الأقلِّ مِن العُلماء*
فبعض العُلماء قالوا: إنَّ وُقوع الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها مُمتنع مِن الأنبياء وإنْ لم يكن قادحًا بنُبُوَّتهم لأنَّنا مأمورون باتِّباعهم؛ فلو وقعت منهُم لصرنا مأمورِين باتِّباعهم فيها وشرع الله ينهانا عن المعاصي وهذا إشكال.
*شرح قول الجمهور*
وقال الجُمهور أي أكثرُ عُلماء الأُمَّة: إنَّ الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها؛ وُقوعها غير مُمتنع مِن الأنبياء، وكونُنا مأمورِين باتِّباعهم؛ فهذا الإشكال جوابُه: أنَّهم يتوبون منها فورًا قبل أنْ يقتديَ النَّاس بهم فيها.
*الأنبياء لا يعصون إيثارًا للهوى على مرضاة الله*
وعليه فالأنبياء صلوات الله عليهم وسلامُه وإنْ وقع أحدهم في صغيرة حقيقيَّة لا خسَّة فيها فإنَّ ذلك لا يقع إيثارًا للشَّهوة والهوى على مرضاة الله ولا جُرأة على العصيان ولكنَّه أمر قُدِّر عليه قبل خلقه.
*الحكمة مِن وُقوع الأنبياء في صغائر غير مُنفِّرة*
وابتلى الله تعالى الأنبياء ببعض الصَّغائر ليُعرِّفَهُم نعمته بترك عُقوبتهم عليها فيجِدُّوا في طاعته تعالى إشفاقًا منهَا وتركًا للاتِّكال على العفو؛ وذَكَرَ بعض معاصي الأنبياء كي لا ييأس النَّاس مِن التَّوبة. وقد نقل بعض أهل التَّفسير عن الحَسَن البصريِّ أنَّه قال: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ ذُنُوبَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الْقُرْآنِ لِيُعَيِّرَهُمْ، وَلَكِنْ ذَكَرَهَا لِيُبَيِّنَ مَوْضِعَ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ، وَلِئَلَّا يَيْئَسَ أَحَدٌ مِنْ رَحْمَتِهِ) انتهى.
*الإجماع أنَّ الصَّغائر لا تتكرَّر مِن الأنبياء*
ولكنَّ العُلماء مِن الفريقَين مُجمعون على أنَّ الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامُه معصومون مِن تكرار الصَّغائر وكثرتها؛ فالصَّغائر لا تتكرَّر ولا يكثُر وُقوعها مِن الأنبياء بل يكون وُقوعها منهُم نادرًا.
*ما الَّذي يدُلُّنا عليه (الإشكال وجوابه)؟*
وهذا الإشكال وجوابُه يدُلَّان أنَّ ما اختلف العُلماء في عصمة الأنبياء منه هُو المعصية الحقيقيَّة الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها؛ وإلَّا لم يكن لذكر هذا الإشكال محلٌّ في عصمة الأنبياء مِن صغائر غير مُنفِّرة.
*من نقل هذا الإجماع؟*
والإجماع المذكور نقله القاضي عياض في [الشِّفا بتعريف حُقوق المُصطفى] فقال: (وَلَا يَجِبُ عَلَى القَوْلَيْنِ أَنْ يُخْتَلَفَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ تَكْرَارِ الصَّغَائِرِ وَكَثْرَتِهَا إِذْ يُلْحِقُهَا ذَلِكَ بِالكَبَائِرِ)انتهى.
*لا يجوز الإنكار على مَن أخذ بقول مُعتبَر في مسألة خلافيَّة*
وقولَا أهلِ السُّنَّة في هذه المسألة مُعتبرانِ؛ القول الأوَّل قول الجُمهور مُعتبَر والقول الثَّاني قول أقلِّ العُلماء مُعتبَر؛ فهي مسألة خلافيَّة لا يجوز الإنكار فيها على مَن أخذ بأيٍّ مِن القولَين المُعتبرَين المذكورَين.
*أهل الأهواء يُضلِّلون أهل السُّنَّة في هذه المسألة*
وأمَّا المُعتزلة والخوارج والرَّافضة فأغلبُهم على تكفير أو تضليل أو تبديع مَن جوَّز على الأنبياء صغائر لا خسَّة فيها، فهذه المسألة مِن المسائل الَّتي اشتهر فيها الخلاف بَين مذهبنا وبَين مذاهب المُبتدعة.
*هل في هذا المقال تكلُّف وُجود المعاصي مِن الأنبياء؟*
وليس في هذا المقال تكلُّف وُجود المعاصي مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام بُغية نشرها ولكن كتبناه وخُضنا فيه حفظًا للشَّرع مِن التَّحريف وردًّا لدعوى الإجماع المكذوب على الشَّرع وإنكارًا لتكفير أهل القِبلة بغير حقٍّ.
*نصيحة*
اِحذَرْ أخي أنْ تتَّبع أهل الأهواء في هذه المسألة فتخرُج بتكفير عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة مِن السَّلَف والخَلَف فإنَّ مرجعهم فيه كتاب الله والحديث الصَّحيح الثَّابت عن النَّبيِّ المعصوم صلَّى الله عليه وسلَّم. انتهى.
|