بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلوات الله وسلامه على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
أما بعد فقد كان صاحب الفضيلة الشيخ المحدث الفقيه عبد الله بن محمد الهرري رحمات الله تعالى عليه قد سُئل عمن عليه قضاء صلوات كثيرة لسنين طويلة وهو لا يقضيها بسبب كثرتها الكبيرة وتمكُّنِ الكسلِ من قلبه فهل هناك قول في بعض المذاهب فيه تسهيل في هذه المسألة بحيث لو ذكر لهذا المتكاسل كان ذلك داعيا له ليقضي تلك الصلوات ويخلص من الذنب المجتمَع على حرمته والمتفق على إثم فاعله فأفتاهم رحمه الله على ما بلغني بأن المالكية لا يوجبون التحيات والتشهد في الصلاة لا الأول ولا الثاني ولا يوجبون القراءة بعد الفاتحة لا ءاية ولا أكثر فإذا عمل بذلك فقضى الصلوات التي يجب عليه قضاؤه على وفق هذا القول تخلَّص من الإثم وإن كان واقعا بذلك في الكراهة فما لبثوا أن رجعوا إليه بعد مدة وقالوا له إن هؤلاء الناس أكسل من أن يقضوا حتى مع اطلاعهم على هذا القول فهل هناك قولٌ أيسرُ فقال هناك أقوال في المذهب المالكي أضعف من هذا القول وذكرها لهم وذكر من بينها قولًا بأنه يكفي القيام من غير قراءة الفاتحة وأن هذا القول أضعف الأقوال فأخذوا منه ذلك الجواب وأطلعوا عليه أولئك المتكاسلين فقام بعضهم بقضاء ما عليه من ءالاف الصلوات الفائتة بناء على هذا القول الأخير فرجعوا إلى فضيلة الشيخ وأخبروه بذلك وقالوا لولا اطِّلَاعُ هؤلاء على هذا القول الذي هو أضعف الأقوال لما قاموا بقضاء تلك الصلوات.
ومضت الأيام بعد ذلك وتُوُفِّيَ فضيلة الإمام رحمات الله عليه فقام بعض المتعالِمين بالتشنيع عليه لزعمهم أنه أفتى بهذا القول الضعيف قالوا والضعيف لا يُفْتَى به وجعلوا همَّهُم نشر هذا الأمر ووسعوا الكلام فيه بين الكبير والصغير كأنه أصل من أصول الدين من خالفه فقد هدم الدين وصاروا ينشرون هذه الكلمات بين طلَّاب فضيلة الشيخ ومُرِيدِيه وكأنَّ همَّهم تشويه صورته وإظهاره بمظهر المجازف الذي لا يقف عند الحدود ولا يعرف تفاصيل ما يتكلم به وما يخرج من رأسه، كل ذلك بعد موته وبعد ما أمضى عمره مدافعًا عن الدين منافحًا عن عقيدة أهل السنَّة في المشرق والمغرب جبلًا راسخًا في وجه من يريد النيل منها لا يبتغي من ذلك إلا رضى الله تعالى. والأنكى من ذلك والأمَرُّ أنهم -وعلى رأسهم اثنان يوسف الميناوي والحبتر محمود قرطام- صاروا يدورون بهذه المسألة على بعض المشايخ ممن ينتسب إلى العلم بحقٍّ أو بغير حقّ فيأخذون أقوالهم بأنَّ الفتوى بالضعيف لا تصحُّ ولا تنبغِي وينشرون هذا كتابة وبالصورة في كتب ورسائل وفى وسائل التواصل الاجتماعيِّ متفاخرين بهذا وكأنَّهم قد حرَّروا بيت المقدس أو نظَّفُوا أرض الحرمَين أو ردُّوا عدوان أهل الإلحاد وبذلوا في ذلك الوقتَ والجهدَ والمالَ يُطَبِّلون ويُزَمِّرون من غير اطِّلاع وفهم أو بسوء نية والمشايخ الذين ينقلون كلامهم في هذه المسألة وفى أَخَواتٍ لها أصنافٌ فمنهم العالِم الذي صِيغ له السؤال بحيث يجيب على وفق ما يشتهي هؤلاء ولم يَتِمَّ عرض المسألة بتمامها عليه ولا بيان ظروفها ولا مستند من أفتى بها، ومنهم الشيخُ الذي لا ينبغي أن يرجع إليه في مثل هذا لأن حظَّه شرح كتب معينة وليس عنده من الاطِّلاع ما يُسوِّغ الرجوع إلى أمثاله فيها، ومنهم من هو ساقط الاعتبار يدور حيث يدور المالُ يُشتَرى بدينار ويُباع بدرهم وهم يعرفون ذلك ويَتَحقَّقونَه ولكنَّهم اعتبروا هذا الأمر كأنَّه حرب ضَرُوس بل كأنَّه جهاد أعداء الدين يحشدون له ما استطاعوا من عُدَّة ويستعدون له بما أطاقوا من مال ورجال وهم لا يجهلون أنَّهم بهذا يفرِّقون أهلَ الحقِّ ويحاولون أن يوقعوا بينهم نار العداوة والبغضاء ويُضعِفون بأسَ أهل السنة ويفتحون لأهل الباطل أبوابًا واسعة ليَلِجُوا منها فيفسدوا كما شاؤوا في الدين فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
وقد كنتُ تكلمتُ في الماضى في هذه المسألة ببعضِ كلمات ثم ءاثرتُ السكوتَ خوفًا من أن أكونَ كالذي يصبُّ الزيت على النار ولأنَّنِي رجوت أن يَمَلَّ هؤلاء عن الكلام فيه بعد مدَّة حتَّى اطَّلعتُ مؤخرا أنهم التقوا ببعض المشايخ ممن أُجِلُّ وأحترم وعرضوا عليهم الأمر من غير بيان وجوهه كلها وأخذوا منهم أجوبة استعملوها للطعن في ذاك الإمام المجاهد رحمه الله تعالى وفي طلابه المتابعين للجهاد بعده فغرت على هؤلاء الأفاضل كما أنني غرت على الدين فسألتُ أحد الشيوخ عن هذه المسألة أي الفتوى بالقول الضعيف فأجابني بجواب رأيتُه كافيًا شافيًا فأحببت إيرادَه ساعيًا جهدي أن أنقله على وجهه قال حفظه الله: قد ذكر كثير من العلماء في كتبهم أن الأقوال الضعيفة تُذكر في كتب الفقهاء لا للعمل بها وإنما لتعرف ويعلم أن بعض المجتهدين قال بها ولتُعرَف حججهم في ذلك وحجج من رد عليهم وليتبيَّن أنَّ القائل بها ليس ناقضًا للإجماع ولا خارجًا عنه وليترقَّى صاحب الفهم والاستعداد بهذه المعرفة إلى رُتبٍ أعلى في العلم قالوا لكنَّ هذا المنعَ له استثناءات
1. منها أن يكون الشخص قد بلغ رتبة الترجيح أو أعلى منها فرجح عنده القول الذي ضعَّفه الجمهور فإنه لا يُحْجَر عليه تقويتُه ولا ذكرُه ولا الإفتاء به.
2. ومنها أن يكون المقصود ذكرَ كلِّ خلاف.
3. ومنها أن تتحقَّقَ ضرورةٌ إلى ذلك. وقال البناني الفاسيُّ المالكي رحمه الله إذا تقرَّرَ منعُ الفتوى والعمل بغير المشهور عُلِم أن قول بعضهم من قلَّد عالما لقي الله سالما غير مطلَق لأنه إنما يسلمُ إذا كان قول العالم راجحًا أو ضعيفًا عُمِلَ به للضرورة أو لترجيحه عند ذلك العالمِ إن كان من أهل الترجيح وهو مجتهد الفتوى وأحرى مجتهد المذهب انتهى. وذكر سيدي عبد الله بن إبراهيم المالكي ناظم مراقي السعود أنَّ القول الضعيف إذا عُمِل به يُقَدّم على المشهور ولا يُنقض إذا كان موافقًا لقول وإن كان شاذًّا بشرط أن يكون لسبب وُجِد من حصول مصلحة أو درء مفسدة اهـ. ولذلك قال الشيخ محمد بن محمد السَّنَبَاويُّ المالكي المعروف بالأمير في كتابه ثمر التمام وفي جواز العمل بالضعيف خلاف انتهى. وقال الشيخ علوي السقَّاف الشافعي رحمه الله الأولى بالمفتِي التأمل في طبقات العامَّة فإن كان السائلون من الأقوياء الآخذين بالعزائم وما فيه الاحتياط اختصَّهم برواية ما يشتمل على التشديد وإن كانوا من الضعفاء الذين هم تحت أسرِ النفوس بحيث لو اقتصر في شأنهم على رواية التشديد أهملوه ووقعوا في وهدة المخالفة لحكم الشرع روى لهم ما فيه التخفيف شفقةً عليهم من الوقوع في ورطة الهلاك لا تساهلًا في دين الله أو لباعثٍ فاسدٍ كمَطْمع أو رغبة أو رهبة انتهى.
وانظر إلى قولهم روى لهم أي فإنه يذكر لهم هذا القول مع كونه مرجوحًا عنده ثم هم ينظرون في أنفسهم فإن تحققوا الضرورة وعرفوها عملوا به. وقال السيدُ محمد الأهدل الشافعيُّ في أثناء ذكره لأقسام الناس في الفروع الاجتهادية إنَّ المتفقِّه في المذهب الذي عرف الراجح وضدَّه بمحض التقليد لا بالأدلَّة لا يقضي ولا يُفتي إلا بالراجح وإلا لم ينفُذ قضاؤه وفتواه قال نعم له ذلك أي القضاء والإفتاء بالمرجوح لحاجة أو مصلحة عامَّة إن لم يُشترَط عليه الحكم بالمذهب مع بيان قائله اهـ ثم قال والعاميُّ الذي لم يلتزم مذهبًا أصلا ولم يرجح عنده شيء منها يعمل بما أفتاه به عالِمٌ فإن اختلف عليه عالمان مُخْتَلفا المذهب خُيّرَ في العمل بما شاء منهما اهـ وذكر ابن عابدين من الحنفية في حاشيته أن القول الضعيف يجوز العمل به في موضع الضرورة وأورد في ذلك ما ذكره في حيض البحر من الأقوال الضعيفة في الدماء ثم قال وفي المعراج عن بعض الأئمة لو أفتى مفتٍ بشيء من هذه الأقوال في مواضع الضرورة طلبًا للتيسير كان حسنًا اهـ ونقل ابن حجر الشافعيُّ في التحفة قول السبكيِّ أنه يجوز تقليد غير الأربعةِ إذا قصد به المفتِي مصلحة دينية أي مع تنبيهِه المستفتِيَ إلى قائل ذلك اهـ قال الشرواني في حاشيته أي ليقلده فيكون قول المفتي حينئذٍ إرشادًا لا إفتاءً.
وفي حاشية القليوبيِّ أن المقلِّد إن لم يظهر له مرجِّحٌ أي ولم يبيِّن له عالمٌ ذلك له أن يعمل بأيِّ القولين شاء اهـ قال ويجوز العمل بالمرجوح في حق نفسه لا في الإفتاء والقضاء إذا لم يجمع بين متناقضين كحِلٍّ وحرمة في مسألة واحدة ويجوز تقليد بقية الأئمة الأربعة وكذا غيرُهم ما يَلزَم تلفيقٌ لم يقُل به واحدٌ اهـ. ومثل هذا الكلام موجود في كثير من كتبِ العلماء من أهل عصرنا وممن قبلهم بمئات السنين فينبغي التنبهُ إليه فربما أطلقَ بعضٌ المنع بدل بيان أنه عامٌّ مخصوص وربما لم يفرِّق البعضُ بين مقام حكم المجتهِد والمرجِّح وحكم العامِيِّ ولا بين العمل للنفسِ وإفتاء الغير بأن الحكم في حقه هو كذا وكذا والإرشاد المحض بحيث ينظر السائل في حاله هل هو من أهل الضرورة أو لا إلخ والله تعالى أعلم. انتهى جواب الشيخ الفاضل.
وسألتُه عن عين المسألة المذكورة أي صحة الصلاة من غير قراءة الفاتحة في أية ركعة منها هل ورد في ذلك عن السلف شيء فأجاب أنْ نعم، فقد روى ابن المنذر من طريق أبي إسحاق عن الحارث عن علي أن رجلا جاءه فقال إني صليت ولم أقرأ فقال أتممتَ الركوع والسجود قال نعم قال تمت صلاتك اهـ ورواه عبد الرزاق وفيه زيادةٌ أنَّ عليا رضي الله عنه قال ما كل أحد يحسن القراءة اهـ وروى الطحاوي وغيره من طريق شعبة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم أن عمر رضي الله عنه قال له رجل إني صليتُ صلاة لم أقرأ فيها شيئًا، فقال له عمر أليس قد أتممت الركوع والسجود، قال بلى، قال تمت صلاتُك. قال شعبة فحدثني عبد الله بن عمر قال قلت لمحمد بن إبراهيم ممن سمعتَ هذا الحديث فقال من أبي سلمة عن عمر رضي الله عنه اهـ والحارث بن عبد الله الأعور مختلف فيه وحديثه في السنن الأربعة قال فيه الذهبي كان فقيها فاضلا من علماء الكوفة ولكنَّه ليِّن الحديث اهـ ولذلك لم يحتج به بعض الأئمة واحتجَّ به ءاخرون وقالوا إنَّ تكذيب الشعبي له محمول على إرادة الخطإ لا تعمُّد الكذب وإلا فلماذا يروي عنه، وقد قال النسائي فيه مرة ليس به بأسٌ. وقال ابن معين ليس به بأس. وقال مرة ثقة. وقال ابن سيرين أدركت أهل الكوفة وهم يقدمون خمسة من بدأ بالحارث الأعور ثنَّى بعبيدة ومن بدأ بعبيدة ثنَّى بالحارث اهـ وقوَّاه ابن أبي داود. وأبو إسحاق السَّبِيعيُّ ثقة لكنَّه لم يسمع من الحارث إلا أربعة أحاديث على أن بقية روايته عنه هي عن كتاب الحارث. فمن وثَّق الحارث اعتبر هذا الأثر عن علي وأمَّا يحيى بن سعيد ومحمد بن إبراهيم التيميُّ وأبو سلمة فثقاتٌ معروفون والله أعلم. انتهى ما ذكره الشيخ الفاضل حفظه الله.
فهؤلاء الذين أنكروا على الشيخ عبد الله الهرري رحمه الله فَاتَهُمْ أنه كان من أهل الترجيح كما وأنه كان من أهل النظر الثاقب والمعرفة الوافية بأحوال الناس وأحوال العصر بحيثُ يفرِّق بين الضرورة وغيرها، وفاتهم أنه دقيق في كلامه يعرف الفرق بين حكم القاضي وفتوى المفتي وإرشاد المرشد وأنهم لا يبلغون عُشرَ عشرِ عشرِ مِعشاره في هذه الأمور لا قوة ذهن ولا قوة فهم ولا قوة إدراك للحجة ولا معرفة بمواضع الكلام ومعانيه، وفاتهم أن هذا القول الذي أنكروه لم ينفرد به بعض المالكية بل هو مرويٌّ عن عمر وعليٍّ رضي الله عنهما وناهيك بهما فبدل أن يحاولوا فهمَ مأخذِه وبدل أن يحفظوا له الجميل على انتشالهِم من وَهْدَة الوحَل الذي كانوا فيه أخذوا يتتبعونه بعد موته رحمه الله تعالى وهم يعرفون هذه المسألة وأخواتها قبل وفاته بكثير لكنهم لم يجرؤوا على التكلم ببنت شفة في حياته كشأن الجبان الذي قيل فيه:
وإذا ما خلا الجبان بأرض * طلب الطعن وحده والنزالا
وقد صدق العامَّة في تمثيلهم لمثل هذه الحال بقولهم في المثل السائر
مِن قِلَّة الرجالِ سَمَّوا الديك أبا عليٍّ.
والله الموفِّق ولا قوَّة إلا به.
|