www.sunnaonline.org

الفضيل بن عياض

ترجمته

هو الإمام الصالح الفضيل بن مسعود بن بشر، القدوة الثبت شيخ الإسلام أبو علي التيمي اليربوعي الخراساني المجاور لبيت الله المعظم. ولد بسمرقند ونشأ بأبيورد يقطع الطريق بين أبيورد وسَرْخس، حتى كانت حادثة الجارية، فتاب إلى الله حيث قد هزه وحرك وجدانه سماع عابد يتلو ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ (سورة الحديد/ءاية 16)، فإذا بلسان يردد «بلى يا رب قد ءان، اللهم إني تبت إليك، اللهم إني تبت إليك»، وارتحل في طلب العلم عاكفًا على الاغتراف من بحوره، يزينه الإخلاص وتقوى الله، حتى كان له شأن عظيم فسبحان الهادي الذي يهدي من يشاء.

علمه وورعه

ارتحل رضي الله عنه في طلب العلم، فكتب بالكوفة عن الأعمش وليث وجعفر الصادق وخلق سواهم، وحدث عنه الشافعي وابن المبارك وبشر الحافي والسري السقطي وأسد بن موسى الأموي الملقب بأسد السنة وناس ءاخرون. تفقه وحفظ وبرع، وعكف على العبادة والاجتهاد في الطاعة حتى سبق سبقًا عظيمًا، وجاءت شهادات العلماء دلالة على عظيم شأنه ورفعة قدره، فعن إبراهيم بن محمد الشافعي قال: سمعت سفيان بن عيينه يقول: «فضيل ثقة». وعن ابن مهدي قال: «فضيل رجل صالح». وقال النسائي: «ثقة مأمون، رجل صالح». وعن محمد بن سعد قال: «وُلِدَ بخراسان، بكورة أبيورد، وقدم الكوفة وهو كبير، فسمع من منصور وغيره ثم تعبد وانتقل إلى مكة ونزلها إلى أن مات بها في أول سنة سبع وثمانين ومائة في خلافة هارون، وكان ثقة نبيلا فاضلا عابدًا ورعًا كثير الحديث».

ومن أخباره رحمه الله، أنه كان شديد الخوف على نفسه، وكان يقرأ القرءان، فيظهر من خلال قراءته الحزن والوجد وشدة الخوف من الله عز وجل، فإذا مر بآية فيها ذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا مر بآية فيها ذكر عذاب استعاذ بالله من النار، ثم هو مع ذلك كثير الصلاة، كان يُلقى له الحصير في مسجده فيصلي من أول الليل مدة ثم تغلبه عيناه فيلقي على نفسه الحصير فينام قليلًا ثم يقوم، فإذا غلبه النوم نام ثم يقوم، وهكذا حتى يصبح فينصرف من عبادة بالليل إلى عبادة بالنهار.

وكان رحمه الله صحيح الحديث صدوق اللسان شديد الهيبة للحديث إذا حدّث، وربمـا حدّث فتتغير حاله ويثقل عليه الكـلام إجـلالاً وهيبة لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رضي الله عنه سريع التأثر بما يسمع من قرءان أو موعظة، غزير الدمع، ولربما بكى أحيانًا حتى يرحمه من يحضره، وكان شديد الفكرة، يريد بعلمه وعمله وجه الله عز وجل، وكان إذا خرج في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكي كأنه مودع أصحابه حتى يبلغ المقابر فيجلس بين القبور متعظًا بالموت والأموات فيشتد به البكاء حتى يقوم فيرجع إلى داره رضي الله عنه.

سبحان الله، إن رجلا بهذه الصفات جدير به حقًا أن يكون من أعيان السادات وأكابرهم مما جعل ألسنة الأعيان تلهج بفضله وذكره، فعن أحمد بن أبي الحواري عن الهيثم بن جميل قال: سمعت شريكًا يقول: «لم يزل لكل قوم حجة في أهل زمانهم، وإن فضيل بن عياض حجة لأهل زمانه». وفي السير عن مردويه قال: «قال لي عبد الله بن المبارك: إن الفضيل بن عياض صَدَقَ اللهَ فأجرى الله الحكمة على لسانه»، وقد جاء عن ابن المبارك أيضًا أنه قال في الفضيل: «إنه من الأبدال» وحري بمن هو من الأبدال أن يكون كما مر ذكره ذا علم وورع وعبادة وصلاح وسداد، فعن أبي بكر عبد الرحمـٰن بن عفان قال: سمعت ابن المبارك يقول: «ما بقي في الحجاز أحد من الأبدال إلا فضيل بن عياض وابنه علي»، وناهيك بهذا فضلا وشرفًا أن يكون من الأبدال الذين جاء فيهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لن تخلو الأرض من أربعين رجلا مثل إبراهيم خليل الرحمـٰن، فبهم يُسقون وبهم ينصرون، ما مات منهم أحد إلا أبدل الله مكانه ءاخر». والحديث رواه الطبراني في الأوسط من طريق أنس بن مالك رضي الله عنه.

بين الفضيل والرشيد

كان هارون الرشيد رحمه الله يكرم أهل العلم والفضل، ويصلهم ويقتبس من أنوارهم وأسرارهم وبركاتهم، فاتصل بكثير من أئمة زمانه كالإمام مالك والفضيل وأثنى عليهما فيما روى الذهبي في السير عن النضر بن شميل قال: سمعت الرشيد يقول: «ما رأيت في العلماء أهيب من مالك ولا أورع من الفضيل».

وفي خبر ءاخر أن الفضيل وعظ الرشيد مرة فأبلغ في القول فجعل الرشيد يبكي حتى جاء الخادم والرشيد يبكي ويشهق، قال الفضيل: فحملوني وقالوا: اذهب بسلام. وفي حادثة طويلة فيها أن الرشيد جاء إلى بيته مع الفضل بن الربيع، قال الفضل: فأتيناه فإذا هو قائم يصلي يتلو ءاية يرددها، فقال: اقرع الباب، فقرعت، فقال بعد أن أنهى صلاته: من هذا قلت: أجب أمير المؤمنين، قال: ما لي ولأمير المؤمنين، قلت: سبحان الله، أما عليك طاعة، قال: فنزل ففتح الباب ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ السراج ثم التجأ إلى زاوية فدخلنا فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كف هارون قبلي إليه. فقال: يا لها من كف ما ألينها إن نجت غدًا من عذاب الله، فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام نقي، فقال: خذ لما جئناك رحمك الله، فبسط الفضيل بكلام مؤثر يعظ فيه الرشيد قال فيه: إن أردت النجاة فصم الدنيا وليكن فطارك منها الموت، وقال: إن أردت النجاة من عذاب الله، فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، وإني أقول لك هذا، وإني أخاف عليك أشد الخوف يومًا تزل فيه الأقدام، فهل معك رحمك الله من يشير عليك بمثل هذا. قال الفضل: فبكى الرشيد بكاءً شديدًا حتى غشي عليه ثم أفاق فقال له: زدني رحمك الله، فقال: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عن هذا الأمر يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، وإيّاك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غشٌ لأحد من رعيتك، قال: فبكى الرشيد، ثم أعطاه ألف دينار، وقال: خذها، فأنفقها على عيالك وتقوّ بها على عبادة ربك، فقال: سلمك الله ووفقك، ورد له المال، فلم يأخذه ثم صَمَتَ، قال الفضل: فخرجنا، فقال الرشيد: أبا عباس إذا دللتني فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين اليوم. فدخلت امرأة من نسائه فقالت: قد ترى ما نحن فيه من الضيق فلو قبلت هذا المال، فلما سمع الرشيد هذا الكلام قال: ندخل فعسى أن يقبل المال، فلما علم الفضيل صعد السطح فجلس على باب الغرفة، فجاء هارون فجلس إلى جنبه فجعل يكلمه فلا يجيبه، فبينا نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء فقالت: يا هذا قد أكثرت على الشيخ منذ الليلة فانصرف، فانصرفنا.


جملة من جواهر حكمه

من الطبيعي بالنسبة لإمام كالفضيل أن يكون كلامه تعبيرًا عن ورعه وإخلاصه وشدة شفقته على المسلمين ونصحه لهم بعبارات عظيمة بليغة سديدة منظومة كحبات الدر واللؤلؤ، فمما يؤثر عنه عن الحسين بن زياد قال: سمعت الفضيل كثيرًا يقول: احفظ لسانك، وأقبل على شأنك، واعرف زمانك، وأخف مكانك» والمراد بقوله: «أخف مكانك» أي اترك حب الظهور والشهرة في الدنيا. وعن هارون الرشيد قال: دخلت عليه فقال لي: فرغ قلبك للحزن وللخوف حتى يسكناه فيقطعاك عن المعاصي ويباعداك من النار.

وعن إبراهيم بن الأشعث عنه قال: «خصلتان تقسيان القلب، كثرة الكلام وكثرة الأكل» وقال: «من أخلاق الانبياء الحلم والأناة وقيام الليل». وقال إبراهيم بن الأشعث: رأيت سفيان بن عيينة يقبل يد الفضيل مرتين.  قال الذهبي في السير: وللفضيل رحمه الله مواعظ وقدم راسخ في التقوى، وكان يعيش من صلة ابن المبارك ونحوه من أهل الخير ويمتنع من جوائز الملوك.


وفاته رضي الله عنه

قال بعضهم: كنا جلوسًا عند الفضيل، فقلنا له: كم سنك فقال:

بلغت الثمانين أوجزتها فماذا أؤمل أو أنتظر
علتني السنون فأبلينني فدق العظام وكل البصر


وبعد حياة حافلة بالجد والتقوى والزيادة في الخير والبركات أتاه اليقين وقد جاوز الثمانين من عمره فتوفي في المحرم أول سنة سبع وثمانين ومائة من الهجرة المشرفة، وكانت وفاته بمكة المكرمة، وهو يومها شيخ الحجازيين رحمه الله.

اللهم ارحم الفضيل بن عياض، وانفعنا ببركاته وبركات الصالحين، والحمد لله رب العالمين.



رابط ذو صله : http://www.sunnaonline.org
القسم : ســـــير وتــــــراجم
الزيارات : 5170
التاريخ : 12/2/2011