www.sunnaonline.org

النجاة والخلاص في الصدق والإخلاص

نحمد الله حمد الشاكرين، ونؤمن به إيمان الموقنين، ونقر بوحدانيته إقرار الصادقين، ونشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين، خالق السموات والأرضين، ومكلف الجن والإنس والملائكة أن يعبدوه عبادة المخلصين، قال تعالى (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعبُدُوا اللهَ مُخلِصِينَ) البينة / 5. ألا لله الدين الخالص المتين، والصلاة والسلام على نبيه سيد المرسلين، وعلى جميع النبيين، وعلى ءاله وأصحابه الطيبين الطاهرين. أما بعد فقد انكشف لأولي الألباب ببصيرة الإيمان وأنوار القرءان، أنه لا وصول إلى السعادة إلا بالإيمان، وأن الصدق والإخلاص درب الناجين؛ يقول الله تعالى في القرءان الكريم (رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدوُاْ اللهَ عَلَيهِ) الأحزاب / 23. ويقول عز وجل (قَالَ اللهُ هَذَا يَومُ يَنفَعُ الصَّادِقينَ صِدقُهُم) المائدة /119. ويقول تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءِامنُوا اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقيِنَ) التوبة / 119. والله تعالى قد وصف الأنبياء في معرض المدح والثناء فقال (وَاذكُر فِي الكِتَابِ إِبرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا) مريم / 41. وقال تعالى (وَاذكُر فِي الكِتَابِ إِسمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعدِ) مريم / 54. وقال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة. وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا. وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار. وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا" رواه البخاري ومسلم. وقد ورد عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أربع من كنَّ فيه فقد ربح، الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر. وقال بعضهم: أجمع الفقهاء والعلماء على ثلاث خصال أنها إذا صحت ففيها النجاة: الإسلام الخالص عن البدعة والهوى، والصدق لله تعالى في الأعمال وطيب المطعم. وقيل لسهل التستري رحمه الله: ما أصل هذا الأمر الذي نحن عليه؟ فقال: الصدق والسخاء والشجاعة، فقيل: زدنا فقال: التقى والحياء وطيب الغذاء. وقال أبو بكر الورّاق: احفظ الصدق فيما بينك وبين الله تعالى، والرفق فيما بينك وبين الخلق.

 

معاني الصدق: اعلم رحمك الله، وجعلنا وإياك من الصادقين في مقعد صدق عند مليك مقتدر، أن لفظ الصدق يُستعمل في ستة معان: صدق في القول، وصدق في النية والإرادة، وصدق في العزم، وصدق في الوفاء بالعزم، وصدق في العمل، وصدق في تحقيق مقامات الدين كلها، فمن اتصف بالصدق في جميع ذلك فهو صدّيق.

 

1- صدق اللسان: فأما الصدق الأول صدق اللسان فيكون في الأخبار، وفيه يدخل الوفاء بالوعد والخلف فيه، وحق على كل عبد أن يحفظ ألفاظه، فلا يتكلم إلا بالصدق؛ لأن الكذب مذموم في شرع الله تعالى، فليكن دومًا نطق لسانك الصدق؛ وليكن حلفك بالله دومًا صادقًا، وليكن حديثك مع الناس حديث صدق، وليكن تعليمك للناس بالصدق فلا تروِ أحاديث موضوعة للناس لتوهمهم أن هذا من دين الإسلام والإسلام منه برئ، وإياك والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار. والكذب من معاصي اللسان وهو الإخبار بالشئ على خلاف الواقع عمدًا أي مع العلم بأن خبره هذا على خلاف الواقع، والكذب حرام بالإجماع، سواء كان على وجه الجد أو على وجه المزح، كما ورد في حديث مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموقوف على بعض الصحابة "لا يصلح الكذب في جد ولا هزل" رواه البيهقي. وما أكثر من هلك باستعمال الكذب في الهزل والمزح، وأشد ما يكون من ذلك إذا كان يتضمن تحليل حرام أو تحريم حلال. ومن ذلك رجل كان بين أصدقائه في مكان فأقبل أعمى فقال والعياذ بالله: "قال الله تعالى: إذا رأيت الأعمى فكبَّه إنك لست أكرم من ربه" قال هذا الكلام الفاسد لإضحاك الحاضرين، وهذا فيه كفر وضلال؛ لأنه يتضمن كذبًا على الله بجعل ما ليس من القرءان قرءانًا وهو متضمن تحليل الحرام المعلوم من الدين بالضرورة حرمته، لأنه لا يجهل مسلم حكم هذا الفعل أنه حرام مهما بلغ في الجهل.

 

2- صدق النية: وأما المعنى الثاني، وهو الصدق في النية والإرادة فيرجع إلى الإخلاص وهو أن لا يكون له باعث في فعل الطاعات إلا رضا الله والثواب من الله ولأجل الله، فإن مازجه شَوب من حظوظ النفس بطل صدق النية.

 

3- صدق العزيمة: أما المعنى الثالث فهو صدق العزم، فإن الإنسان قد يقدم العزم على العمل، فيقول في نفسه: إن رزقني الله مالاً تصدقت بجميعه، أو بشطره، أو إن لقيت عدوًا في سبيل الله قاتلت ولم أبال وإن قُتلت، فهذه العزيمة يجدها من نفسه وهي عزيمة جازمة صادقة، وقد يكون في عزمه نوع مَيل وتردد وضعف يضاد الصدق في العزيمة فكان الصدق ههنا عبارة عن التمام والقوة، فالصادق -هنا- هو الذي تصادف عزيمته في الخيرات كلها قوة تامة، ليس فيها ميل ولا ضعف ولا تردد، بل تسخو نفسه أبدًا بالعزم المصمم الجازم على الخيرات.

 

4- صدق الوفاء: والمعنى الرابع هو الصدق بالوفاء بالعزم، فإن النفس قد تسخو بالعزم في الحال، إذ لا مشقة في الوعد بالعزم، والمؤنة فيه خفيفة، فإذا حقت الحقائق، وحصل التمكن، وهاجت الشهوات، ولم يتفق الوفاء بالعزم، عند كثير من الناس وهذا يضاد الصدق فيه؛ لذلك قال تعالى (رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدوُاْ اللهَ عَلَيهِ) الأحزاب / 23. وهذه الآية نزلت في أنس بن النضر كما روى البخاري، فإنه رضي الله عنه لم يشهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق ذلك على قلبه وقال: أول مشهد شَهِدَهُ رسول الله غِبت عنه، أما والله لَئن أراني الله مشهدًا مع رسول الله ليرين الله ما أصنع، قال: فشهد أُحُدًا في العام القابل، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو إلى أين؟ فقال "واهًا لريح الجنة، إني أجد ريحها دون أحد". فقاتل حتى قتل، فوجِد في جسده بضع وثمانون، ما بين رمية وضربة وطعنة، فقالت أخته بنت النضر: ما عرفت أخي إلا ببنانه، فنزلت هذه الآية (رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدوُاْ اللهَ عَلَيهِ) الأحزاب / 23. ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصعب بن عمير يوم أُحُد وقد سقط شهيدًا على وجهه، وقرأ هذه الآية (رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدوُاْ اللهَ عَلَيهِ فَمِنهُم مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنهُم مَّنْ يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلواْ تَبدِيلاً) الأحزاب /23. وروي أن أبا سعيد الخراز قال: رأيت في المنام كأن ملكان نزلا من السماء فقالا لي: ما الصدق؟ قلت: الوفاء بالعهد. فقالا لي: صدقت. وعرجا إلى السماء.

 

5- صدق العمل: المعنى الخامس هو صدق العمل وهو أن يجتهد حتى لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف هو به، فاعمل ليل نهار جاهدًا لتكون صادقًا في عملك كله فرضه ونفله، حركاتك وسكناتك، نفقاتك وصدقاتك، زياراتك ومعاملاتك. فالصدق في أقوالنا أقوى لنا والكذب في أفعالنا أفعى لنا قال الصادق عبد الواحد بن زيد: كان الحسن إذا أمر بشئ كان من أعمل الناس به، وإذا نهى عن شئ كان من أترك الناس له، ولم أر أحدًا قط أشبه سريرة بعلانية منه، وقال أبو يعقوب النهرجوري: الصدق موافقة الحق في السر والعلن.

 

6- الصدق في تحقيق مقامات الدّين كلها: هو الصدق في مقامات الدّين كلها: في الخوف، والرجاء، والتعظيم، والزهد، والرضا، والتوكل، والحب، وسائر هذه الأمور. ولنضرب للخوف مثلاً، فما من عبد يؤمن بالله واليوم الآخر إلا وهو خائف من الله تعالى خوفًا يطلق عليه هذا الاسم، ولكن قد لا يبلغ درجة حقيقة هذا الخوف، أمَا تراه إذا خاف سلطانًا، أو قاطع طريق في سفر، كيف يصفر لونه، وترتعد فرائصه، ويتنغص عليه عيشه، ويتعذر عليه أكله ونومه، وينقسم عليه فكره حتى لا ينتفع به أهله وولده، ثم إنه يخاف النار، ولا يظهر عليه شئ من ذلك عند جريان معصية عليه، فالصادق في هذه الأمور في جميع المقامات عزيز ونادر، لأن تحصيل الأمور الستة في الصدق المذكورة ليس سهلاً، لكنه يسير على من يسَّره الله عليه.

 

الإخلاص، تعريفه وفوائده: لقد بينا فيما مضى الصدق وفضيلته ومنافعه فنشرع الآن في بيان معنى الإخلاص وفوائده، ولا يسعنا إلا أن نذكر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو داود والنسائي بالإسناد إلى أبي أمامة قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال صلى الله عليه وسلم "لا شئ له". فأعادها ثلاثًا كل ذلك يقول "لا شئ له"، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا له وما ابتغي به وجهه" وَجَوَّدَ الحافظ (أي ابن حجر) إِسناده. فالإخلاص من أعمال القلوب الواجبة وهو إخلاص العمل لله تعالى، أي أن لا يقصد بالعمل محمدة الناس، والنظر إليه بعين الإحترام والتعظيم والإجلال، قال تعالى (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) الكهف / 110. ورحم الله السيدة رابعة العدوية حيث قالت "لا خلاص إلا بالإخلاص". وكان معروف الكرخي يضرب نفسه ويقول "يا نفس أخلصي تتخلصي". وقال يعقوب المكفوف "المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته". وكتب الفاروق سيدنا عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري "من خلصت نيته كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس".

 

فالعبد الذي وفقه الله رزقه الإخلاص، ومن نظر إلى سيرة أصحاب رسول الله وأفعالهم وجهادهم رأى أن الإخلاص مسلكهم، ولقد نصرهم الله بإخلاصهم بعد إيمانهم بالله والرسول، ففتحوا البلاد شرقًا وغربًا. لقد أخلصوا لله فظهرت الحكمة وتفجرت من قلوبهم وعلى ألسنتهم، ورحم الله الجنيد البغدادي الذي قال: إنَّ لله عبادًا عقلوا، فلما عقلوا عملوا، فلما عملوا أخلصوا، فاستدعاهم الإخلاص إلى أبواب البر جميعًا. فإذًا علاج الرياء الذي هو ضد الإخلاص كسر حظوظ النفس، وقطع الطمع عن الدنيا، والتجرد للآخرة بحيث يغلب ذلك على القلب، فإذ ذاك يتيسر الإخلاص، فتكون سكنات العبد وحركاته لله تعالى خاصة، وتكون النية صادقة مع الله تعالى. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الصادقين المخلصين، وعلى كامل الإيمان ثابتين وأن لا يفضحنا يوم القيامة ءامين.



رابط ذو صله : http://www.sunnaonline.org
القسم : الخــطب والـــدروس
الزيارات : 8294
التاريخ : 26/12/2013